اصطفاف










استيقظ ليجد نفسه مرمياً في برميلٍ أصفر مصنوع من البلاستيك نتن الرائحة تغمره السوائل والقاذورات بجانبه تفاحة فاسدة وقلم ودفتر .
أرخى رأسه المتعب مع زفرة خرجت من صدره محاولاً استيعاب ما حدث قبل لحظات.

 أين كان... وأين أصبح...
تلمس جسده ..  تحسس بدنه..

لقد فقدتُ كل شيءٍ . . . قالها ودمع قلبه ينزفُ قبل دمع عينيه.

 كان حروفا متناثرةً في عقل كاتبٍ حذقُ الصنعة ،متقنٌ لها، مهووسٌ بالإبداع ،مواظبٌ على العبقريه. ثم وبكل أناقةٍ انسكب حرفا حرفا، على ورقٍ فاخرٍ ليبني قصراً من الكلمات ِالسهلةِ المنقادةِ الممتعةِ الباذخة.
خُلقَ واكتملَ على أتم خِلقه. تأزَّرَ بالإبداعِ، وتسربلَ بالجمالِ، وارتدى عباءة الفائدةِ والفضلِ والعموم .

كان يرى ما يملأ العينَ حسناً والنفسَ بهجةً.

برزَ من مكان نشأته مزهوا بنفسه. رافعا أنفه... يمشي مشية الخيلاء وقد ضم بين جنبيه الزاخرِ من اللؤلؤِ والياقوتِ.
وقبل يوم التمائمِ وُزِعت دعوات الاحتفال. وحضر المثقفون من كل حدب وصوب.
ولم يكدر صفوه في ليلته تلك إلا صريرُ قلمِ ذلك المبدع على صفحته الأولى قبل أن يصبح مِلكاً لأحد المدعوين.
وُضِع على رفٍ في غرفة للضيوف وبجانبه بعض بني جنسه وقد لفتت نظرُه تلك الكآبةُ الباديةُ على محياهم، والعمرُ الكبيرُ الذي وصلَ إليه أغلبهم ، بادر كبيرهم بالسؤال :
- لمَ أنتم هكذا؟
- هذا عملنا.
- عملكم إبداء الكدر والكآبة!!!
- لا، بل (الاصطفاف).
لم يتعبْ نفسُه في فهم ما يقولُه هذا العجوز.
نظرَ إلى هيأتِه وتفحص مكنوناته ودرره فوجد الخيمةَ والخباء...الأطناب والأعواد...الإبل والشاء...المساجلة والمنافرة...الحب والغرام...العفة والوفاء...الحداء والغناء...الصبر والبلاء...أسواق الشعراء...مواقف الخطباء...كلام الحكماء...الشتاء والمصيف...الصحراء والريف.

فعندها تيقن أن مستقبلَه مُشرق مُبرق، ومنارته تنير للقاصي قبل الداني.

استيقظ صباحَ أول يومٍ له على يدٍ أنثويةٍ خشنة غليظة تحمِلُه مع وسطه. وتُقلبُه ذات اليمين وذات الشمال.

نظَّفَتُه بخِرقةٍ بيضاء من غبارٍ اعتراهُ في ليلتِه الماضية ثم أعادتُه وولت عائدةً لمطبخها ،، لبصلها وقثائها.

جاءه صبيٌ صغير وأخذه من مخدعه .. كان مستغرباً أن يهتم به مثل هذا الصبي .

وضعه على الطاولةِ ...

وضع فوقه ورقة يرسم عليها. ولم يفتحه.

أشكلَ عليه فهم الحال، ولكنه فضل الانتظار على السؤال.
مرت الليالي و الأيام،

أضحت حياته ملل وضجرٌ وضنك وضيقة.
جلس مع نفسه وحيدا..واستحضر ساعة صفاءٍ واستعان بنظرة جلاءٍ.
استاء، وانتفض، حنق ثم غضب .. صعد الدم إلى قمة رأسه.
ألتفت حوله بعينٍ حمراءٌ لونُها
أحس سكان الرف العلوي بأن هناك زلزالٌ قادم.
صوَّت وصاح

زأر وزمجر
يا قوم

ما هذه الحياة التي رضيتموها ؟
اصطفاف فقط !!!
اصطفاف بالنهار واصطفاف بالليل !!!!
إن الأرضة عاثت فسادا بداخل أحشائي.

واحر قلبي على هذا الحال ,,,, الذي اضحى العيش فيه من المحال.

يرد العجوز...

-         انظر هناك ..

-         أين؟

-         جهة باب غرفة الضيوف....هناك
يدخل بعض البشر لصالة البشر ..
ضحكٌ ودخانُ سجائر وقواريرُ خمرٍ.
يقتربون ... ويلقون نظرة على مكتبة محشوة بمئات الكتب النظيفة من الغبار.
دنا احدهم أكثر
... جثا على ركبتيه
مرر أصبعه على ( حقائق الحق ) وجيرانه.
وجهه لم يوحِ حتى بالإعجاب.
انتصب وصعد بنظره للرف العلوي أخذ ( أوهام الهوام )...داعبه بيده...

وأُعجب بالصور.
سقطت سيجارة من المثقف الثمل.
شبت النيران.
احترق البيت.
احترق الرف.
احترق الكتاب.
انتهت حياته في برميل أصفر من البلاستيك نتن الرائحة تغمره السوائل والقاذورات.... بجانبه تفاحة فاسدة وقلم ودفتر.
تمت ..
 
 

11 التعليقات:

غير معرف يقول...

مبدع كعادتك،قصة واقعيه تحكي حال الكتاب في هذا الزمن
وأنه لكتاب محظوظ الذي كتبت عنه ،وجد من يمسح الغبار عنه
والكثير غيره من الكتب أختفى عنوانها تحت الغبار.

وحتى العنوان أعجبني جدآ "اصطفاف"
مبارك نجاح هذا النص،أتمنى لك دوام النجاح والمثاليه

طابت ليلتك

غير معرف يقول...

مبدع
مبدع
مبدع
تمنياتي لك بالتوفيق دائماً
شهوده

admin يقول...

لا يعرف قيمة الكتاب إلا صاحبه..

رائع كعادتك أخي الحبيب..

كنت هنا..

بندر يقول...

بارك الله فيك أخجلني كلامك.

لك تحياتي

بندر يقول...

شكرا شهودة الغالية. لا أحرمنا الله هذه الطلة.

لك تحياتي.

بندر يقول...

أهلا بصديقي وعزيزي خالد. الروعة في تواجدك هنا.
لك تحياتي المخملية.

Unknown يقول...

ابونوى ليس غريبا عليك الابداع
رائع جدا
كلمات في الصميم عن الكتاب
اقف لك احتراما وتقديرا

غازي الطارب

غير معرف يقول...

تنحني الحروف امام ما خطته يداك وتخيله عقلك.
لا يجدر بي الأن الا بشكرك على هذا النص!

* صالح العقيل *

غير معرف يقول...

غابت حروفك وشتاقت أنفسنا لراحه فمنن علينا ولا تستكثر نحن في أنتضار جديدك يأيها .....التسميه تجعلك بين قوسيها فاجعل المسميات الجليله قموسها أنت

ŞΘ๏ŞΘ๏ يقول...

جميله كلماتك والاجمل تسطيرك للأحرفها وفكرة الموضوع
دمت متميز
لك مني كل الاحترام

غين يقول...

هناك من يرفض ان يصطف ولكنه مرغماًا يجد نفسه بين الآكوام وهناك من يهوى الإصطفااف ولو على حساب تاريخه ’
النهاايه هي إحتراق كُل شيء دفعة واحده وبقي هو يحترق على مهل ...
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُبدع بندر الآسمري

إرسال تعليق

اهمس لي