رسائل الروح (الرسالة الثالثة) .








لم يُفد الصراخ ولا يُجدي سماع دوي انفجارات الروح ليعيد همسات ملاك الروح،
كبُقعةٍ تحت البحر انبلج موجها من فوقها لترى الشمس مرةً ثم غطاها موج من فوقه موج
اسمعيني سيدتي، وامنحيني قلبك بأوداجه وتاجه،
فكم من مجلسِ أُنسٍ جلسته متربعاً على أربع
أُصغي همسات روحك،
همسات كانت تأتيني مع ملائكة الحُب، تبثها أشجانك وتلتقطها ذبذبات قلبي فيتراقص مع أنغامك ويُرسل سهام الشوق ليقتل الحذر ويجني ريحانة العمر فيعتلي منبر الشرف على سلم الشوق الذي تنازل به لك فحاز السمو على سفح عطاءك ونبا عن الأطيان إلى مُزاحمة حمامة السلام في عليائها.
أرسلتُ إليك مع نسيم الود رسائل الأشجان، فتحليتِ بها عِقد الذهب وتركتِ لأُخياتك حُلي النحاس
هو الحب إذ بثَّ أشجانه قلب الظبيةِ، حتى كسرَ الصيادُ قوسه
هو الحبُ إذا استبدلنا الرواية بأرواق القصة
فتقلبات الورقة هي نزفُ الروح على أصابعٍ تُمسك بالورقة
فارغُ إلا من حُبك، أمتطي سراج الذكرى فيقفز الفِراقُ بين اللجام والعنق
أنظر سماء عُنقك فيُغيبه شتاء الوداع
 أهبطُ الوادي فأتجرع سم الفُرقة من غدير الزمن
أصارع الشتاء فيصرعني سوط برق الجفاء
تستعطف الكلماتُ المشاعرَ لاستعادة ذكرى قد تنبش قبور الموتى فنراهم قياما يحييون، أو بأذرع يعانقون،
ولكن هيهات
آخذ نفسا عميقا أهوي معه من الطابق العاشر فيمسكني عطاؤك ويقذفني بُعدكِ على أسياخِ الحديد فلا تبقى مني ولا تذر.
هي اختراقات المستقبل وأنين الماضي ومناوشات حبلٍ مشدود يبتره سيفٌ بتار، فأثرُ الفراشة يُحيي وقرصة النمل تُميت وكلاهما ببُطءِ وصول العطشى إلى سراب الصحراء.
هي اللغة المتوترة التي تنتفض لِتُبدي رهافة الحس واستحالة المعنى وغموض الرؤية واتساع الشق لإطالة النظر في وردة لن تتزحزح أمام أي عاصفة.
عشقتك فكنتُ أنا أنتِ،
خمرٌ يمتزج بالماء
سحابةٌ فوق ريح وثديٌ يُغذي وليد.
ثديٌ حليبُه رسائل حبٍ تُكتب بحبر الوصال.
فصلِيني واسقيني فأنا لا أروى.  




شبُّ الجمرِ تحت نمرِ النمرِ ..




       
ما أنصفَ القومُ ضَبَّه- - - - - وأُمَّهُ الطُرطُبَّه
وما يِشُقُ على الكلبِ- - - - - أن يكون ابنَ كَلبَه
ما ضَرَّها مَن أتاها- - - - - وَإنَّما ضَرَّ صُلبَه
يا أخبثَ الناس نفساً- - - - - وألينَ الناسِ رُكبَه
وأخبثَ الناسِ أصلاً- - - - - في أخبثِ الأرضِ تُربَه
وكنتَ تفخرُ تِيها- - - - - فصِرت تَضرطُ رَهبَه

قالها المتنبي متهكماً بضبَّه، فناسبت في أيامنا أن تُقال في شيخ البلاهة وإمام الدجل والخلاعة، نمر بن النمر!، اسما من غير معنى، ورسما من غير أثر، فما استزاد هذا من ذاك إلا حيوانيته وشهوته وعطشه للدماء، فتعففَ بدناءة نفسه عن شجاعة السبعِ وأنفته. فصار ضبعا لا نمرَ، مُرقطٌ الظهر شغوفٌ بالجيف.
شيخ الحمقى هذا يُحب من الدنيا ثلاثة: الدم والجنس والأتانَ الفارسية، ويكره ثلاثة: النور والنخل وحليب النوق العربية. منهجه صُراخ في قِربه، ومذهبه جُحود كلامِ ربه، فما أنقذ غريقاً ولا أعان في تفريج كُربه. جمع نباح الكلب ورائحة النيص وخُبث الفأرة، أما تراه يرفع ذيله والشوكُ  يخرج من وجهه الملطخ بالطحين.

فيا أيها المغتر بنفسه، الخائن لعهده ودينه، الغاش لعشيرته وطُلابه، الناقض لعهد الجِوار، المعشعش في الظلمِ والجَوار، المتلذذ بمتعة النساء، المُكابر الأنوك الأحمق، المتغطرس السفيه الأبله، دنيء النفْس، خبيثُ النفَس، ضئيل العقل، فاسد السريرة، لئيم الطبع، ساقط المروءة, المتهاوي تهاوي البعوض، المنحط انحطاط الصرصور، المُتنقل بين الشقوق والجحور، أحسبتَ نفسك سحبان وائل، أم عنترة أو جساس بن وائل، أأنت بلغت حكمة لقمان؟ أو حُزت عِلم الإمامين؟ ما أنت إلا وغدٌ لو أُسقط عليه فاحش العرب كله، لمَا بلغ منه عطف ساقيه، أمثلك في خنوعِ رأيه، وضعفِ حُجته، ومذلة مكانته، ينال من الشيخين أبو بكر وعمر، أأنت أنت فيما أنت تُعَرِّض على بنت الصديق عائشة وعثمان، يا جاهل هُم نجومُ في دُجانا تبعثُ النور المبين، وأنت ساقطٌ في الوحل تلعبُ القمل الدنيءَ. هل أغاضك أن معاوية من خير القرون؟ وأبا طالب في ضحضاحٍ من نار؟ لا تستوحش يا قَمَاءة الرجال فأحبب من شئت وستُبعث معه، وعندما عُدتَ لأصلك الوقح ذهبتَ لتنبش في مقابر البقيع، جعلتَ من نفسك عقرباً فطحنتك النعال، وتلونت كالحرباء فنبذك جِلدُك، وأبرزت أنيابك فخلعها الحق، وأطلتَ لسانك فقُص بالمَقص، وأبنْت عن رأس العنقاء ففصله السيف، لا أقام الله لك عهدا، ولا أنار لك بصيرة، نل جزاءك تحت بريق السيوف، فيداك أوكتا وفوك نفخ، وما عند الله أشد وأعظم.... 

التردي من علو..








سامرت في ليلتين سابقتين الألمانية ( زيغريد هونكه) فحدثتني حديث الفتاة الوالة العاشقة عن أخبار شمسِ العرب عندما أشرقت إشراقَ فتاةٍ نطق الدم في خدها، وتجندل البحر عند عينيها، فكان في حديثها بيانا كما في وجهها بيانا، يزيدني ظمأ حينا وحينا يرويني فخراً فيدافعني هذا بمقدار ما أدفع ذاك، أبانت عن أسارير وجهي بقدر ما أدمت من ماء عيني، حدثتني عن شمسٍ ولدت شموسا، وفجرٍ أعقبه أياما انتفخت أوداجها سرورا وعِزة،  كانت تلك الشمس قبل أن يغيب قرصها وراء أمواج الزمن، ساطعة وهّاجة وضّاءة وضاحة، تزيدُ مع كل صبحٍ إشعاعا من نور، ومع كل فجرٍ بريقا من ندى. حتى قضى الدهر بجورِ الزمانِ على الفقيرِ.
حدثتني تلك الفاتنة التي أُفرغت في الجمال إفراغا بصوتٍ تعانقه رنة الإخلاص، فأبانتْ وجلتْ ووضحتْ حتى استروحتُ رائحةَ ابن سينا بجانبي وأحسستُ بالرازي مُتكئاً على رجلي، وابن النفيس يتحسس بطني وأمعائي، و ثابت بن قُرة وبجانبه حنين بن اسحاق. حتى إذا اعتدل الليل ليمضي وانتبه الفجر ليُقبل والشوق ينتشلني كلما أغرقني النُعاس رحلتْ الألمانية فكأنما ارتحل معها الكون كله، فمداخل الحب لقلبٍ بات الألم تُربته لا يعرف أسرارها إلا من وطأ مسالكها.
بعدها أخذ بعنقي المرض وقادني لمستشفى قريب، فما إن دخلت حتى انقبض في داخلي الزمان، وتلبدت سمائي بغيوم السواد، ففزعتْ عروقي وأوداجي، ونَزَتْ كبدي من رؤية الهلاك، وكأن شبحَ الموت يحوم من حولها، فينفث في روعها الروع. تحاملت كما تتحامل سفينة تصارع أمواج المحيط، تارة أقدم وتارة أرجع، أخذتُ رقماً يحفظُ لي عدم الضياع داخل هذه الأرتال من اللحم البشري والقطط الضائعة، هذا مجروح يئن وذاك مجلوط ينظر السماء، الجدار ملّ الدم الذي يكسوه، والسقف سقفُ مقهى يماني سكنتُه الشيشة أعواما مديدة، من خلفي أصوات أنبأتني عن ممرضات يتضاحكن خلف السُتر، وأطباء يلعبون الثعبان. وقفةُ وقفةَ الحياة بين الأموات وأسندت رأسي بيدي، أنظر هذا السجن البائس. داعبتْ أصابع الغفوةِ أجفان اليقظة فانطبق جفْني  وجاءتني ألمانيا مرة أخرى، خيال يتراقص أمامي، فهششتُ بها متأهِلا، واحتضنتها مرحبا باشاً كفرحة عاشقٍ محرومٍ قبَّل وجه حبيبته لأول مرة، فقالت لي: كان أجدادك الأطباء إذا دخل عليهم المريض عاينوه على عجل، ثم حملوه وحمَّموه حمّاماً ساخنا وألبسوه ثياباً نظيفة وأدخلوه على رئيس الأطباء ومعاونيه ليفحصه على سرير وثير، غِطاءه الحرير وملمسه النعومة، ودائما عند رأس المريض تجد الماء جاريا والرائحة في الغرفة كرائحة مخدع الجارية الحسناء، قلت لها أين؟ قالت في بغداد يا جاهل. ثم استفسرتْ كم مستشفى في مدينتك؟ قلت: واحدٌ، فضحكت ضحكةَ سُكان وادي عبقر، وقالت: عند أجدادك في قرطبة وحدها خمسون مستشفى ، وفي بغداد وحدها ثمانمائة طبيب و كانت حمامات مستشفياتها تأخذ ماءها من نهر دجلة.
كان أجدادك الأطباء يحرصون على تدفئة المستشفى في الليالي القارسة وتبريده في الأخرى الحارة، وكان معهم أيضا مستوصفات متنقلة محمولة بين القرى وأخرى إلى جانبها خاصة بالسجون. وكانوا يحرصون على الجولات التفتيشية للتأكد من علم الأطباء وجودة الصيادِلة، وكانوا لا يتهاونون في معاقبة كل مُخطئ بتاتاً.
مللت حديثها وكانت تعلم ذلك فما كانت من البشر ولو كانت بثياب البشر فأردفتْ: أتعلم يا سي بندر أن التداوي ونول أسباب العلاج والعناية والدواء كانت بلا مقابل بالإضافة إلى توفير المأوى والغذاء وتعويض مالي لشهر كامل لمن يأتون من خارج البلدة. صفعتُها بردة فعلي القاسية وصرختُ في وجهها فقد بلغ مني الألم والحسرة مبلغه وأخذتني الغَيرة إلى ضيق النفس من جيل تطبب في ذلك الوقت وأنا هنا لا أعلم هل أنا في مصحة أم في مسلخِ بلدية وقلت لها: ضعي الأمر على قاعدته وأمعني النظر في حقيقته فنحن بلد فقير لا نملك المال، ولكن أخبريني لماذا حلت الأمم المتحدة وسيطا بين الجماعة الحوثية والحكومة اليمنية بينما تغاضت عمدا عن الشعب السوري وحكومته.
رحلت الألمانية فكأنما ارتحل معها الكون كله، فمداخل الحب لقلبٍ بات الألم تُربته لا يعرف أسرارها إلا من وطأ مسالكها.

فلو أستطيعُ طرتُ إليكِ شوقاً               وكيف يطيرُ مقصوصُ الجناحِ.

توهجُ العتمة.








تتفاوت المجتمعات في درجة اتقانها لعملية (ادعاء التجديد) أو ما نسميها عُرفاً بـ (الترهيم) وهي ذات العملية التي يُمارسها الشباب على السيارات البالية العتيقة لإضفاء نكهة العصر عليها خارجيا على الأقل، فهناك من يطمس العيب بقليل من المعجون والطلاء وآخر يسترُ الخدش بورقةٍ من الزينة أو يسد ثغرة في الهيكل بعودٍ من الخشب، والغاية من هذا كله هو حجب العيب عن الأعين وابداء الجمال ولو كان زيفاً، وكل على حسب قدرته ومبلغ نقوده، وهنا يتجلى إبداع الشاب في عملية التزييف للسيارة فهو يجعلها كفتاة ليلٍ مُعطرة من الخارج جيفة من الداخل أو كاللؤلؤة الصناعية تبرق وداخلها خواء فالمهم هو المظهر والمظهر فقط.
المصيبة أن فعل (يُرَهم) لم يقتصر على نصب مفعول واحد بل تعدى لينصب مفعولين و ثلاثة بل نصب المجتمع بكامله، فلا عجب أن ترى بيننا مصانعَ عملاقة لعملية (الترهيم) ولكن لترهيم البشر وتجديد مظاهر (كبار المسؤولين) وخاصة من الخارج بما يتلاءم مع الشارع وذوق الشارع.
المصنع منها يحوي كل الأدوات اللازمة للتجديد والترهيم بالإضافة إلى عمالٍ أفنوا أيديهم لخدمة ذاك (المُرَهم)، وخط انتاجٍ وعملية بلورة وتقييم واعادة ضبط واستخلاص الأفضل وعملية تسويق، كل هذا يُدار بأيدٍ ماهرة لا تُخطيء القياس ولا تبتعد عن الخط المرسوم أو الهدف المنشود.  فقط على الزبون أن يختار من قائمة الاختيارات ماذا يريد أن يكون: كريم، جواد، عالم، فطن، إله، نبي، حكيم، متبرع، سخي، مُضحي، فدائي، حقوقي، مُعلم، داهية، متسلط، طيب، حنون، رجل، امرأة، ثنائي القطبية، أحادي، وغيرها. فقط يضع علامة الاختيار أمام المربع المطلوب ثم يتكفل المصنع بالبقية الباقية من العمل، فمهما كان عور المسؤول واعوجاجه وقِلة حيلته وضحالة بديهته وبداهة غبائه فكل هذا له مُغطٍ مناسب وساتر يُلائمه، لكي يظهر أمام العامة كالقمر في أوجه، وكالزهر في أريجه، أو كالطائر يلمعُ بجناحيه أو كالفرس ينضح عرقه، وأليس من أول المصانع من قال:
لو يكتبُ المجدُ أسماء الملوك إذاً .... أعطاك موضع (بسم الله) في الكتب.
وأردف له الآخر بقوله:
ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ ….فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ
و كأنّما أنتَ النبيُّ محمّدٌ……وكأنّما أنصاركَ الانصارُ.
هذا التلميع الكاذب وُجِد منذ الأزل على ألسن المتسولين وفي عقول الضعفاء البلهاء بُغية مكسب مادي أو شهرة زائلة ولو كان الثمن ثغرة في العقيدة أو غضب الرب، ومازالت هذه الآفة بيننا إلى هذا اليوم وستظل إلى الغد وبعد الغد.
 ولكن هذا اليوم غاب عن أذهان تلك المصانع الآلية أن (الترهيم) يذوبُ كما الجليد تحت مُحرِقة القيظ فيتوارى على غير خجل، وأن الزِّين المزركَشة تهب عليها عواصف الريح فتجلو ما تحتها من ندوب وعاهات، وأن اللاصق تحت الحجب ستخبو مادته ويجف سائله ويقع خلال الدروب الطويلة، فكم من رجلٍ خرج من تلك المصانع وأقلق آذاننا بهتافاته خلال الشاشات، ينادي بالشعارات المُرفرفة والخرافات المُسطَّرة وما إن تزاحمت عليه جدران الزمان حتى أضحى كورقة الخريف الساقطة، صفراء جافة مُتكسرة يحملها النمل إلى أوكاره. وكم من مسؤولٍ لبس لباس الحرب زيفاً فتركته الأيام عارياً أمام عين الحقيقة، وكم من مسؤولٍ تسربل بقشرة الهشاشة خداعا فلم تترك له الجلافة من هشاشة، وكم من مسؤولٍ لبس أساور النحاس تضليلا فذابت من أضواء الصواب والصدق.

الشعب ما فتئوا ينفضون عنهم غبار الضعف والبلاهة واستأنسوا كما يستأنس البازي إذا جلى ونظر رافعا رأسه فجلو بأبصارهم في الأفق حتى بانت لهم بومة الفجر من غراب الليل، ورفرفوا بأجنحة البحث والاستنباط، فلم يعد بإمكان ذاك المسؤول إلا أن يدس رأسه في التراب وتلك المصانع إلا أن تُغلق أبوابها وتُسرح عمالها وتبحت لها عن خديعة أخرى أو ضعفاء آخرين.