نقاط في رواية ( النبطي ) ليوسف زيدان ..






تدور أحداث رواية (النبطي) ليوسف زيدان فيما بعد سنة ست للهجرة وقبيل دخول عمرو بن العاص لأرض مصر. وفيها تحدث الرائع (زيدان) على لسان (مارية) التي تزوجت عربياً من الأنباط (سلومة ) ورحلت لتعيش معه في الصحراء تاركةً (كفر النملة).
الرواية عرضت لنا في البداية الصراع المسيحي المسيحي وكان هذا جلياً في المعارك الحوارية بين الراهب (باخوم) والكاهن (شنوتة) في الكنيسة. كما سلطت الضوء على حياة عرب الأنباط الذي لا نعرف عنهم إلا القليل .

(مارية) التي تتحدث دائما لنا بقلق وفقدان للأمان وخوف يختلط بالطيبة والسذاجة والحنان والأنوثة الملتهبة أحيانا، وهذا نراه في حواراتها مع (عميرو) عن حياة العرب، ومع (النبطي) عن أفكاره الدينية ومعتقداته الغريبة، ومع (ليلى) وأوهامها ونكاحها مع الجن .

في ثنايا الرواية ألمح لنا (زيدان) عن روحانيات (النبطي) والتي قد تكون حسب علمي مستوحاة من المعتقدات الوثنية والتي تقوم على تقديس الكون واللات والإله (إيل) وتناسخ الأرواح وتقلبها من ذكورتها إلى أنوثتها لتكتمل دروتها مع قابلية أن تتناقل هذه الأرواح إلى الحيوانات فتصبح روح الطفل فراشةً وروحُ العاشق المحب هدهداً.

الوصف السردي في هذه الرواية طغى للتفاصيل الجغرافية على حساب وصف الشخصيات, بل في بعض مواقع الرواية يحلق بنا (زيدان) بإبداع حتى وكأننا نرى المكان عياناً بياناً لا أن نقرأه في أسطر فقط، وفي المقابل فشخصية (النبطي) بطل الرواية بقي صامتاً شارداً منعزلاً مُختفياً وهذا يجعلنا نتساءل هل يقصد (زيدان) أن الأنباط اختفوا أو صمتوا للأبد ؟ 

(نبطي) و (مارية) في نظري هما أكبر من مجرد شخصيتان في رواية، بل هما حقبة تاريخية أو معتقد صامت عشقته (مصر) - في نظر زيدان- وفارقته مرغمةً بلا حول لها ولا قوة. (ناداني سلومة زاعقاً، فذهبت إليه رغماً عني ، رفعني على بغلةٍ تحوطها حميرٌ محملة، وأشار بطول ذراعه إلى النبطي مودعاً).

لغة الرواية تصويرية شاعرية عاطفية جياشة جميلة تشد القارئ ليستمع ويعيش الأحداث. (خلفي يقف النبطي في ثوبه الأبيض كأنه حلمُ ليلٍ حزين .. التفتُ إليه مرتجفة الروح فرأيته وحيداً بين الأحجار والرمال...) ثم يكمل ( انحرفت بي البغلة مع ذيل القافلة الهابطة إلى السهول فلم أعد أشاهد بعيني غير رؤوس الجبال لكني شاهدته في قلبي واقفاً في موضعه ينتظر في هذا التيه أمرا قد يأتيه أو لا يأتيه ) صفحة (381).

النهاية أرعبتني وهزتني كثيرا ففيها الكثير من الألم والحرمان والحيرة وحب حياة الوثنية ( هل أغافلهم وهم أصلا غافلون ، فأعود إليه لأبقى معه ، و معاً نموت ، ثم نولد من جديد .. هدهدين ) .

الرواية تمزج بين الحياة اليومية مع مزجٍ لأحداث التاريخ والشخصيات التاريخية في تسلسل منطقي ولا عجب ! فشخصيات (حاطب بن أبي بلتعة) و (مارية القبطية أم المؤمنين) و (عمرو بن العاص) و (فروة بن عمرو الجذامي) و (أسير بن حزام) تُظهرُ كيف استطاع (زيدان) وببراعة أن يجعلنا نسير وفق إيقاع الزمن.

لا يغفلني التنبية لبعض المآخذ على هذه الرواية وأن لا يُشرب السم من بين صفائح العسل ، فقد عرض (زيدان) ولو للقارئ العامي المبتدأ بعدة أمور منها:
1.    دموية الرسول صلى الله عليه وسلم ( يأتي بهذا....ويُسيل الدماء) .. صفحة (309) وجعلها مقابل سماحة الوثنية كما يعتقد – زيدان- وصاغها بطريقة غير مباشرة.
2.    ظلمُ الإسلامِ لليهود كما يدعي وحُكم سعد بن معاذ عليهم مع التغاضي عمداً عن نكثهم للعهود والمواثيق وهو الأمر الذي جعل المسلمين يحاربونهم.
3.    إجلاء اليهود من (يثرب) وطردهم لتستقبلهم وثنية (النبطي) بكل ترحاب. ولا أعلم هل في هذا مغازلة لليهود القائمين على جائزة نوبل كما فعل من سبقه.
4.    هدْم الرسول صلى الله عليه وسلم لكعبة الوثنية في الطائف، و هنا تنجلي عبقرية (زيدان) وكيف استطاع بجمال سرده وروعة عبارته ودقة لفظه أن يجعلنا نتعاطف مع ( أم البنين) الوثنية التي كانت تطوف حول (صنم اللات) حتى ماتت كمدا على كعبة الطائف .
5.    يخبرنا (زيدان) أن دخول الإسلام إلى الأنباط جعلهم مشردين هائمين، تركوا ديارهم ورحلوا عن منازلهم مجبرين . (لا تتأخروا في الرحيل ، والذين يسكنون إلى الشمال من هنا ينزحون إلى الشام مع أهل جذام ) صفحة (368).

رواية (النبطي) أكثر من رائعة (أدبياً) و(سردياً) وليس لمثلي أن يُقيم هذه القامة الأدبية الرفيعة . ولكني أشمئزُ ممن يستخدم (الأدب) عموماً لبثٍ فكري وتوجهات ذهنية معينة ومنشورات طائفية أو دينية لخيانة التاريخ والفكر .