رسائل الروح (الرسالة الأولى)



أتاني طيفُك سَحراً بأجنحةٍ بيضاء مستفسراً عني، ووجهه الوضاء عنوانه الشوق، ولهفته مُسطرةً بأحرف الاستغراب عن أي أرضٍ تُقلني وأي سماءٍ تُظلني؟ فعانقته عناق المُحب وودعته وداع الهائم ثم أخذتُ ظِلعاً من أظلُعي وغمسته في قلبي حتى ارتوى دما وكتبت أقول: 

ملني الكوكبُ ومللته، ناجيته حتى سئم، وناظرني حتى كرهني، أرميه استفسارا ، فيجلدني سكوتا. ومع هذا أرتدي ثوب عِشقك الفتان المُوشى بخيوط الجمال. ملني هذا الكوكب بعد أن أحالني قطعةً ثابتة أبدية الجمود، غائر العينين، لا أعي إلا شيئاً ينبثق منكِ، فأراها نسمةً سابحة أو طيفاً خفي أو صورة علقت في الدماغ فاستَمكَنت وكَنَّت.

أحسبني بعد أن قذفت بي قذائف الزمن، ورَست بي أمواجه بعيداً عن شواطئك ككتابِ حُبٍ قرأه صاحبه ثم مله فألقاه أرضاً، فلم تعد تقرأه العيون ولا تلمسه الأيادي ولا يقلب صفحاته العتيقة المبللة إلا نسائم الهواء أو حوافر الحيوان. ملني هذا الكوكب حبيبتي، فامسحي بكفك المُخضب هذا القلب، وأزيحي غمامة الحزن وأطفئي برُضابك هذا الحنين. 

تَنَكسُ راياتِ كل ذي راية، ويخبو ضياء كل منير، وتضيق الوسيعة وتغدو كعلبة كبريت تتزاحم فيه عيدانه ويُنغِص بعضها على الاخر حتى تشرق أنوار ثغرك البسام وتتدفق معها أنهار الحياة الحلوة والعش الهانئ وروائح البساتين المتفتحة قترتفع الراية زهواً وتضيء الأنوار فرحاً و تتسع الأرض طرباً.

سأخبركِ حبيبتي بأعاصير هوجاء قابلتُها وقابلتني، فنفضتني ثم اقتلعتني كشجيرة صغيرة لا جذور لها، تتلاعب بي كخرقة بالية حتى طرحتني أرضاً صلبة سُمِع دوي سقطتي كصخرة سقطت من علوٍ، و سَمعتُ معها صوتَ تهشم عضامي وكأنني قبضة قشٍ بداخل مَعصرة.
قد كنتُ أسيرَ الهوينا حبيبتي، أنظرُ عينيكِ، وأقبض كفيك، متغافلاً طعنة الأيام، وغير آبهٍ بحُفر الزمان، ولا في النفس ريبة. ولم أكن مع هذا جاهلا، ولكنه حجاب الحبِ أمام الأبصار، وغطاء الشوق على الفؤاد.

تآمر الحاكم الظالم والشرطي الحقود وأسلماني للسجّان الباغي وأدخلوني زنزانة الوحدة وجلدوني جلدا بسياط الانتقام، فأصبح ظهري طرقا وشوارع حمراء، ورجلَي كُراتاً متورمة. أرأيتي حبيبتي كيف يُمسَّكُ بالطفل الرضيع المريض ليُحشر الدواء بداخل فمه وكيف يصرخ ويبكي ويصيح وينوح ثم يبتلع الدواء على مضضٍ وكأنه السم الزعاف. هذا أنا وتلك حالتي مع لُقم الجفاء وطعم البعد عن اللقاء، ليعقبها كأس القطيعة وحميمُ الهجر لتلتهب أمعاء الوصلِ وتنكوي كبد العناق. ثم حكم القاضي بالعفو المشروط والأيمان الغِلاظ.

نسيَّ هؤلاء أن المُحب سقيم والعاشق مريض، والمَصلُ في وصلِكِ والدواء في دارك، فلا قضبان تمنع ولا سجَّان يُعيق ولاموت يَسُد، فلا حياة بيضاء فتُرتجى، ولاموتٌ قريب فيُبتغى. حُبك حبيبتي، لهفةٌ تصرخ بداخل العروق فيتردد صداها بين جنبات الروح باعثاً الأمل والسعادة في جسدٍ أنهكهُ الفراق وأهلكهُ البون وأثقل كاهله البُعاد.

سأُحدثك حبيبتي عما داخلي كما رأيته، وما يجول بصدري كما عاينته، وما يحوم حول قلبي كما لمسته. رأيت حبا كالنحل، نشيطٌ على الأزهار، يرتشفُ الرحيق ويُلاحق الألوان التي تشبه لون وجهك، ولون قلبك. عاينتُه كقصيدةِ شاعرٍ شعرت بشاعرها فنطقت به قبل أن ينطق بها. لَمِسته كدُرةٍ فاتنةٍ انطوى القلب عليها مُحتضناً فانبَثَ ضياؤها في أحشائه المُظلمة. 

أحببتكِ حتى أضعتُ نفسي فنشدُتها بين السماوات والأرض فوجدتها تطوف بمركز الكون ووجدتكِ أنتِ مركز الكون. حبيبتي، هاهو سربال الليل قد هبط و جفنا عينيَّ هبطتا معه وقد كنت أريد أن أخبرك عن ثغرك البسام وظلك الوارف ومُتنفسك الودود وصورتك القمرية ولكن سأودِعُها رسالة أخرى.