رسائل الروح .. ( الرسالة الثانية ) .



مهجة فؤادي وعين قلبي :
أمانُ من الله عليكِ، و سلام من قلب مجروح لقلبك ، وتحية من كبدٍ مكلوم تصلك في مأمنك وتمنحك مأملك، وشوق من الفؤاد يحوم حولك حتى يتأبطك لهيبا و يلتهمك صبابةً. أتدرين أن بين الشوق والزمن خصومة وعداوة ، فلا الشوق ينتظر الزمن ولا الزمن يعير الشوق اهتماماً. فلا رابط بينهما كما ليس هناك رابط بين وقت رسائلي إليك وشوقي لك . فالشوق لك أثيث والحنين لك وافر وفرة الزمن نفسه.
كانت قد ركدت مياه البحيرة وظهرت على سطحها الطحالب، ثم جالت في السماء سحبٌ سود يعقبها سحب سود، مثقلة كأنها سمينة في شهرها التاسع وسوط البرق يسوقها وسط دروب السماء وأزقة الفضاء حتى بلغت مكمنها ونفذ صبرها وتعالت صرخاتها لتنهمر دموعا تتساقط و تُحرك المياه الراكدة معها وتُقيم القلوب المائلة وتبعث في الفؤاد روائح الشوق والحب والجمال .
الصدر كأرض مُقفرة تثور غضبا إذا وطئتها أقدام الهجر ولكنها تُضْحي بمقدم الحبِ روضا من الأنسِ وفنونا من السرور.
هذه حروفك عندما يقرأها ضمير المحب ورسم أناملك إذا خالطت بجمالها شغاف القلوب. ينتفض معها السنُّ في اليد ليسيل ينبوعه على ورقة بيضاء يحيلها سوداء وفاءً لك وإتماماً لوعدٍ قد مضى .
يقال أن القلب منغلق في طبيعته صامدٌ في تكوينه كالحائط الصامت لا ينقبه إلا إزميل الألم ولا يفتحه إلا مفتاح التوجع، وهذا كلامٌ قاصرٌ رماه قائله كسهم ضعيف من قوس هزيل فلم يتخطى حاجزه ولم يصل مبتغاه فاقتصر على الوقوع دون قصد المعنى وغاية المراد وإتمام الفائدة أمام شموخ شيخة السحر وعظمة ملكة الجمال وزعامة زعيمة الملاحة وسيادة سيدة الحسن وسمو عُمدة البهاء.
فما عهدت معك مفتاحا غير مفتاح السعادة الذي فتحتي به قلبي وزرعتيه أتراحا وأفراحا .
علِم الله صفاء ما في صدرك ونُبل ما يختلج قلبك فأجزل لك العطاء وعلى قدر النوايا تكون الأعطيات فألبسك هبة من عنده وزينك بجمال من خلقه فكانت يد الله أحسن الخالقين . منحك جمالاً يأخذُ منه الربيع فتخضرُ منه الأشجار وتورقُ الأغصان وتتفتق الأزهار. ويأخذُ منه الصيف ليَّمجَ نسمات عليلة على قلوبِ المحبين الهائمين وسط أعطاف الليل . ويأخذُ منه الخريفُ دنانيره الصفراء ويبذلها في سوق المحبين كمعاني ذهبية. ويأخذ منه الشتاء برده وعواصفه فتجعل الأحضان أكثر دفئاً والأجساد أكثر قربا والأنفاس متداخلة بدخانها الكثيف الذي يلف العاشقين تحت بياضه ويمنحهم ما يستحقونه من إخفاء عن الأعين و تغطية عن اللوم  وحجاب عن التقريع .
وكأنني بعين الخيال أرى الجمال يبكي حسرةً ويحترق كمدا ويلتهب أسىً ويضطرم شجىً ، فلو أنه خُير في خلْقِه لاختار أن يكون مكانك، فعندما ينظر إليك يرى فيك ما لم يبلُغه وعندما تنظرين إليه يرى في عينيك ما لن يبلُغه .
أنختُ ذات ليلة ما كنت أركبه بعد أن أعياني الشوق وأضناني الحنين وكَدَّني الهوى فجَثَمْتُ مكاني واتكأتُ على جذعٍ عريض تحفه الأشجار من كل صوب، وأفنانها متشابكة الأصابع كأنها تحرسني من ضوء القمر الخجول الذي تختلس أشعته من بين تلك الأفنان، فزارني طيفُك ووافاني خيالك وقَدِمت صورتك فتموجت الأشجار واضطربت الأوراق واهتزت الأغصان احتفاءً بمقدم ذاك الخيال وطرباً لحضور ذاك الطيف فأرواح الأشجار تعرِفُك وأرواح الأماكن تألفُك وأرواح الكون تعشقك .
ها أنت حبيبتي كما ملئتِ ثوبك حسنا وجمالا، قد ملئت قلبي حبا و ودادا. وكما يتمايل عطفك في ثوبه يتمايل قلبي بعشقه، وعلى أنغام أوتار جسدك يتراقص قلبي حباً وصبابة.
قد سبق بها ابن حزم الأندلسي وذكر مادة المغناطيس ومادة الحديد وكيف أنها يتجاذبان متحابان عاشقان فهي الأرواح المجندة المتآلفة . يُرسل قلبك الطري رسائل الأنوثة وإشارات الهيام ونداءات الكَلَفَ المجنون ويبثها حول مدارات الكون برائحة الزَّنْبَقُ وبشذا النسيم تبحث عن الشبه وتُنقب عن النظير  وتُفتشُ عن النِّد لعلها تجد الإلف والإلاف والخِل والخليل فقصدت قلبي بعد أن خبرته وأوقعت فيه وخزة وتركت فيه نُدبة، فتبعها ملبياً نداء الطبيعة واستدعاء سمو الأميرة وأملا في ابتغاء السكينة فهامت به فوق القفرِ لتَهبطَ به المخصبة . ثم أردتِ الهوى فأصبحتُ طالبك ثم نبشتِ قلبي فنضج الدم لتغمسي بذرتك النابتة في قلبي جذوراً من نارٍ لا تخمد تُشعلُ معها قبساً لا ينطفئ .
وكان لك من دون النساء أن سموت بمعانيك النبيلة حتى امْتَنَعتِ، وكان لباقي النساء أن سَفُلت بمعانيها الخسيسة حتى ابتذلت. كان لك من دون النساء أن التهمتُك بكل حواسي ولَذِذْتُ بك، وكان لباقي النساء أن تقيأتُهن من كل حواسي .
علوتِ سراجاً منيراً يُزاحمُ البدر وهُن انحططن بهيماً معتماً يزاحم الطين. لو علمْنَ كيف انتهيتِ لما رُفعت لهن راية ولما اصطففن أمامك في ساحة الحب وسيوفهن صدئه .
سكنتُ بكِ وسكنتِ إلي ، فأصبحنا كالقطعة الجامدة التي لا يدخلها شيءٌ إلا توقف حتى الزمن . نلعبُ ونفرحُ ونقفز وما إن نتثاءب حتى تطردين النعاس بقُبلة من ثغرك ، نضجر ونحزن ونجلسُ وما إن ننتبه حتى تجلبين اللذة برشفة من ريقك .
أتذكرين عندما احتفلَتْ الأجرام بمقدمك وتعانقتْ النجوم في تلك الصبيحة السارية. وانقسمتْ فيها روحي قسمين فكنتِ قسمه الثاني ، وعندها غضبَ القسمُ الأول وأراد اللحاق بك ولكنه حب الحياة ونداء البقاء. عندها أشرق نور المدينة من نور غرتك واستضاء، وانتفخ النهار في حمرة شمس خدك في الفضاء، ثم ظفِر ظُلمة شعرك وأعلن الانقضاء .
نحن أقوام نحيا بالدموع، كيف لا وهي قوت المُحبين الوالهين ، تتساقط لتبني الحياة وتنهمر لتسقي الروح، كالدرر لا يعقدها عقدٌ، ولا يحبسها خيط ، تنطلق حرة على ظاهر الخد لتقضي مهمتها وتُحرق ما بقى ونحيا .
أخاديد الخد شاهدة وينابيع العين نديه وما من دمعةٍ لهيبها يصلى إلا والحب منها يُروى . .
دمتِ بخير......