رجالٌ من التاريخ




إن أردت التاريخ فهذا مجاله، وإن أردت الأدب فهنا منبعه ، وكأنك تشربُ من جدولٍ ماؤه التاريخ وحوافه الأدب. في تناغم عجيب وتلاحمٍ ساحر بصنعة صانعٍ ماهر و مُحترف بارع. مع رجال من التاريخ و في ليلتين حلقتُ فيها مع الشيخِ الأديبِ المرحوم ( علي الطنطاوي ) رحمه الله في حدائقه ورياضهِ الغناء وعلى سفوحِ جباله الخضراء، يصعد بي واحداً ويهبط بي الآخر . حُزتُ الفوائد الشريفة وقطفتُ الثمار اليانعة ونلتُ الربح الوفير الذي لم أجدهُ من مطالعةِ كُتبِ التاريخ وتعقيدات المؤرخين، وزادني أن أذاقني إياها في كأس الأدب الطنطاوي الشفاف اللامع وأسلوبه البليغ المُقنع الدامغ.
كتابٌ كان حلقاتٍ في الإذاعة السورية فطبعها في كتاب قلما تجد نظيره و شبيهة . فيه سير الأولين وقصص اللاحقين ، فيه الموقف النبيل والمُقام الشجاع والرسو المنيع، تجد فيه الشعر الفصيح والطٌرفة الأدبية والقصة الشعبية .
هو كسفينة ارتحلت وطافت بك البحار المحيطات وزارت من الأرض الجزر الشرقية والشواطئ الغربية في رحلة سياحية ، مدفوعة التكاليف ومقبوضة الثمن، تتضمن برامجها إعمال للعقل و إظهار للفكر وانشراح للنفس مع طاولة للأكل طوال الرحلة تحوي أكل الهنود وموائد العرب وطعام الترك ومشارب من الأندلس والمغرب .
تقعد فيها مع الحنبلي حيناً ومع الغزالي بُرهة  ومع المُهلب لحظة ومع عُروة أخرى، تتعرف على أحمد بن داؤد و الأميرال أسد بن الفرات وقاضي قضاة الأندلس بن بشير ،  وخطيب الزهراء المنذر ، وسلطان الهند أورانك، وباني مُرَّاكش يوسف وشارح القاموس الزبيدي وقراقوش المظلوم و (رضية ) المنكوبة وأبو دلامة المُضحك والشاعرة التيمورية العاشقة المُحبة المحرومة الفاقدة. والشاعر الذي رثى نفسه، وأيضا تلتقي بسيد شعراء الحب العذري الشريف الرضي. لن تمل الرحلة ولن تضجر من السفينة ولن تحقد على القبطان، فلن تجد رحلةً مثلها ، ففيها بصمة لن تراها عند غيرها وفيها دمغة اُختصَت بها عمن سواها .