عدسةٌ مُكبرة







في ذلك الجو المشحون بشحنات البرق وهزيم الرعد وزعزعة الخَريق، كانت (هديل) الطفلة البريئة لم تكمل عامها الثامن، عينان براقتان كسرهما الزمن، خدان متوردان جثى عليهما طائر الأوساخ، الأنف تسيل سيولُه، الثياب مرقعة. مُحتبِئة عند باب المسجد لعلها تجد من يسد جوعها أو يطفئ لهيب عطشها.
جلست متكورة وذقنها على ركبتيها وكأن جزيرة العرب بأوديتها وينابيعها وروضاتها ونخيلها ربضت كلها فوق كتفيها شاحَّة بأقل فضلَة عيشٍ للمسكينة.
قُتل أبوها وحُرِّمَ الخروجُ على أُمها قسرا اتقاء الشبهات، فأصبح البيت بلا أبواب والصنابير من غير حنفية، والقناديل من دون زيت.
لا أمَرَّ من عيش الجوع تحت عناقيد العنب البعيدة، ولا أقسى من جفاف الحلق عند مجرى الأنهار العذبة.
أصبحت (هديل) الوردة النظِرة التي نثر بذرتها جاهلٌ في تربةٍ عقيمة، فلا الجاهل أمسكها ولا التربة رَبَّتها. هي المشؤومة التي أصبحت عنوانا لفساد المجتمع وبُخل الغني بل سطوراَ من البلاغة في وصف تملُّق أهل المعروف، وتبيانا لمجاري الصرف النتنة لرؤوس الأموال.
أصبحت عنوانا لكذبةِ مصلحة الزكاةِ وخدعةَ كفالة الأيتام ولجان الرعاية والشؤون الاجتماعية. أصحبت (هديل) هيكلا تعليميا يشرحُ للبشر كيف تم تفسير (إنما الصدقات للفقراء...) وكيف تم تطبيقها على الواقع الذي حرَمها من لقمةِ الكفاف وأسبلَ على غيرها دُثر الغِنى.
هي إطارٌ أبيض يُبين سواد الصورة وشُؤم المنظر الحقيقي لصورةٍ رسمها مُرائي بريشة العطفِ والدين.
لم يقسُ على (هديل) أكثر من أنها تعلم أن شبكات الري التي تسقي مزارع الأغنياء خارج بلدتها كانت تجرُّ مياهها من تحت قدميها الحافيتين. ولكنها آلت على نفسها إلا أن تكون المجهر الذي يُخبرُ العالم بوجود الميكروبات الضئيلة التي تختفي عن الأعين لتجد المتسع لتنهش جسد المجتمع، لعل أحدا يأتي بمُبيدٍ حشري ويقضي عليها.


كيف أصبحت أديباً؟






إليَّ عزيزي القارئ ولا ترتعب، وادنُ مني بلا وَهَلِ، فلستَ بالفراشة ولستُ من النارِ، بل قطرٌ على قطرٍ، وزُلال باردٌ سلسبيل، وسماءٌ مزينةٌ بالقناديل، فاجْهَد جَهْدَك معي كُله، فهنا نصائح كتاجِ المُلك، على جبينٍ من ذهب، وحروفٌ لن تجدها إلا عندي وسبعة من البشر، أنا منهم وهم ليسوا مني، فسبحان الواهب المنان، يُقسمُ فلا يُسأل، ويَرزقُ من غير حساب. أما بعد: فقد طالعتُ سؤالا وصلني مفاده كيف أصبحتُ أديباً؟ في رسالةٍ بليغة موجزة، جمعتْ الجزالةَ والرصانةَ في زِقٍ من السلامةِ والنصاعة، فالجواب هنا سمعا وطاعة، والنصح عندي في محضر الجماعة، لا في خلوةٍ أو مناعة، فأنا شمعةٌ ومنارة، وذو علمٍ ومهارة، لم تسطع الشمس على مثلي، في قبائل سلامان ولا عند أثْلِي.
فاعلم يا صاحبي أنني جاهل جهلا مُركبا، لا أُفرقُ بين رأس الخروف وكراع الشاة، ولكن كُنتُ ممثلا بارعاً، والناس كانت تحت وطأةِ جهل ثقافي وليل أدبي مُظلم، فأضحت الساحة خالية لي ولأمثالي من الأقزام. فحملتُ في جيبي قلما، فمظهري مظهر صاحب أدبٍ ومُحبرُ ورق.
في (تويتر) أُغردُ صباحاً بصورة القهوة، وعصراً اسرقُ أبيات (المعري)، وفي المساء اذكر رواية (البؤساء)، ثم أقذف بغضبي على (لورانس) وفُحشه في (عشيق الليدي شاترلي)، ثم اختم سهرتي وكأني (ابن زيدون) لولادة، أو (ابن عباد) للرميكية، اعملت النسخ واللصق حتى سئما منى، فأنا لا أعرف من هؤلاء، ولا في أي كوكب سكنوا، فقط حفظتُ كيف أكتب أسماءهم.
جعلتُ صورتي في مواقع التواصل وأنا أحتضنُ (جواهر الأدب) و (بيان) الجاحظ ، فالصورة غطت على جهلي وحُمقي. أما في المجالس فأتحدث عن الأماكن والرحلات ثم أعقبها بأنه قد ذكر ذلك (ابن خُرَداذبه) في كتابه، فتنبهر العامة من صعوبة الاسم ولم يسأل أحد عن حديثي، ولكني أَعطيت انطباعا عميقا بكثرة أدبي وغزارة منطقي المُزيف. أكثرت من ذكر أدونيس، ونازك الملائكة، حتى ولو لم أقرأ لهم، فأيضا لن يسألني أحد.
خلعتُ عباءة الخوف وتسلحت بالكذب، فكتبت في ملاحظات (جوالي) باستخدام خاصية الإملاء التلقائي فانثالت الكلمات أمامي بلا معنى ولا ترتيب، فنُسبتُ بعدها لأصحاب الرمزية العميقة والسر الكامن في (كرش) الكاتب، وفُتحت لي الصفحات البيضاء، وتكالبت عليّ الفتيات والنساء. حفظت كلمات مثل (لا يروقني هذا)، (لا عجب في ذلك)، (حريٌ بك)، (أُهيطل)، (الصيف ضيعتِ اللبن) فأذكرها عند تناول الطعام و عند دخول الخلاء.
أزور معارض الكتاب والتقطُ (سيلفي) مع صحفي أراه، ابحثُ عن مذيع وأصافحه وأقوم بـ(صورني وأنا مدري)، أحمل الكتب أمام الكاميرا كالحمار ثم أضعها وأخرج، لم أنسَ أن أُعرِف عن نفسي في الفيس بوك بأن لي كتابان تحت الطبع وأن الرقابة عرقلت طباعتهما. أحملُ ملحقا لصحيفة ثقافية أنَّا ذهبت واقرنُ معه ديوان شعر كنتُ قد ابتعته منذ سنين، ولازلت أجهل صاحبه.
لا أفقه في العربية الفصحى شيئا فحفظت بيتا واحدا فقط من إحدى المعلقات فتراني في كل مجلسٍ انسبه إلى شاعر فمرة يكون للطرفة ومرة لِزُهير، بل إذا نسيت أسماءهم نسبته للعشماوي أو حافظ ابراهيم.

أعملتُ فأسي في حطبِ الكثير من الأدباء، فأغلو في العيب وأَقتصد في الثناء. وهكذا عزيزي  أصبحتُ أديبا أريبا أُذكرُ نظيرا للحريري والهمذاني والطنطاوي. فخُذ هذه الوصفة عني لترقص رقصةً مُشرفةً على مسرح الجهل وأمام جماهير ابتليت بالعمى والصمم، وكن حياً بكذبك، راسخا بهذرك، خالداً بحشوك، تغنى بكلمات الشك، وعَبِّر بحروف الاعتراض على المنهج الرباني، واجعل أدبك يخرج من بطنك لا من قلبك، وستأكل بقلمك وتشرب ما لم يدركه غيرك.