توفيق الربيعة .





إن أجدبت الحياة، واغبرَّ أرضها وغار ماؤها وتساقطَ زهرها وأُقحوانها، ثم التحفت ثياب البؤس وعِمامة الفقر، وسرت تلفحُ بسموم الرياحِ وتضربُ بسياطِ الهجير. فلا غرابة حينها بأن نسمع أصداء الشكوى وأنين الضجر من كل كائنٍ ينبضُ فيه عِرق الحياة الذي يشتاق للفرح بعد جور الحزن، وللسعادة بعد ظلم البؤسِ، وللنعيم بعد نيران الجحيم.
ولكن الغرابة تأتي حينما يُقْدِمُ من يشْتُم جمال الربيع ويلوم فرحة المطر ويستهزئ برقصة الأرض عند معانقتها سحابة الخير.
الأيام حُبلى بالمفاجآت، وقد تلدُ بيننا عِظاماً مبعثرة في ثياب أصحابها لا في قبورهم، فترمينا بأعمى بصيرة، أحمق رأي، أعتى من الصخر وأقسى من الهجر، حسودٌ ضجورٌ ملول مُحب للشرِ كاره للجمال مُتيمٌ بالدمامة. يَنْأَى عن الرياضِ المُبتسمة، يحلُمُ بنارٍ تأكلُ أخضرها وتُبقى أغبرها، هو كذلك القلبُ الحسود والعقل الأرعن.
وإلا فلماذا تلك السهام المسمومة من أقواسِ أولئك؟ أتريد النيل من ناجحٍ برهن واقعا على نجاح إدارته، وأثبت قدرته على شقِ ضوءٍ للفجر في جدارِ اسْوِدَاد الليل, وأوقد شمعةً في جوٍ خانق مُظلم؟
هو كذلك النور قاتلٌ لمصاصيِّ الدماء، مَقصيٌ من سُراةِ الليل ودُواج سراديب الظلام، لألا تُكشف عوراتهم وفساد منتدياتهم وخُبث خطواتهم. ولا غرو فالذوق فسد، والأدب شُنق، وفسدت أشياءُ كثيرة كانت كلها صالحة.
سرْ أيا – ربيعة- ودع من يعوي يعوي وحيدا مُتهدل الآذان، فالأرض قد سئمت طلحةَ الجدْب، وعَفن الفساد، وتلهفتْ لزهرٍ يجولُ الندى فيه وتفوح معه رائحة الصلاح.

كم من صاحبِ سؤدد نالته الحجارة، وقُذف بألقاب الهُزْءِ وسَقط الكلام، وكم من متسلقٍ عُيِّر بالجنون والخَبال، خِيفة مُعانقته قِممَ الجِبال. أيا – ربيعة التوفيق – لم يسدْ أحدٌ قومَه إلا بقوة الشكيمة وصلابة الفؤاد وحُسن بُعد النظر، فخذْ من نور الله سراجا واتكأ على عصا الحقِ ولا ترقُب نوالاً من بشر، فالهمة العالية لا تتواطأ ودناسة أخبث البشر.