شكرا ياسر ..







تلقيتُ دعوةً كريمةً للمشاركة بجُهدِ المُقلِ في صحيفة إخبارية حائل، فكانت عندي ثمينة غالية، فيَّاحة فيَّاضة، جوادة سخية، بين طياتها شرف الداعي وأصالة الراغِب، فوقعت مني كما يقع الماءُ من ذي الغُلة الصادي.
وقد قالوا: من أكرَمك بالداعي فأكرمه بالوصل، ولا وصل عندي يوازي شرف الداعي إلا الوصل المحض وشدّ حبال عُرى الإنعامِ بعُرى المنح.
وما أنا إلا طالبُ قبولٍ وخاطبُ أُلفةٍ برَحلٍ قليل من حروف، وزادٍ زهيد يخرجُ من قلم، فالأماني أن يجد هنا متسعاً وفي أعينكم إعجابا، وبداخل أفئدتكم رضا وبيانا.
يُقال من ابتغى هدفا حتما سيصل، ومن عرف الطريق أدلج، ومن أدلج بلغ، ومتى ما كان الهدف سامي المقصد، عالي الرُتبة، كان أقوى أثراً وأوضح حُجة وأوقرُ في القلوب والأبصار.
وهنا بإذن الله ستكون الحروف كريمةً ككرم حائل، واسعةَ الصدر من غير حائل، بطبعٍ يتْفِقُ دون لونٍ حائل، وكما أخبرني الداعي فأسبوع والِد وأسبوع حائِل، والمُراد ردُّ جميلٍ لأهل حائل.
وعلى هذا المنبر نبتغي الأمانة سراجَا, والصدق منجاةً، فنحْذق أماكن الزلل، ونُبصر عثرات الطريق، فنُزيحها بهمة التعاون ونُجليها لخدمة البشر، بالمِعولِ الناعم والقلم المُبين. فاصبروا على كِظَّتنا واحتملوا ثِقَلنا، والأيام تُولِدُ التآلف. ولن أنتهي حتى يبلغَ الشُكر للأستاذ ياسر، على ثقته التي أدعو الله أن لا أُخِيب ظنه فيما ظنه بي، فمن ظن بك حسنا فتيقن به حسناً. فالشكر لك أبا عمار متَتابعاً يَتْرَى، فيه من المِسك نَفحاً وعِطرا. 

تذكرةٌ لحامل قلم






تَذكرةٌ لحاملِ قلم

رأيتُ مُصطفى الأدبِ، صادقَ البيان، رافعَ العربيةِ، الأديب "مصطفى صادق الرافعي" فيما يرى الرائي فإذ به رجلٌ مُقذَّذ، على عرش مُدجَّل، في بيتٍ مُنجَّد، على نهرٍ قد استنهر، وفي مُستقرٍ قد استبحر، يلتقط الحرفَ فيغدو كالكوكبِ الوضّاء ويعلو بالمعنى فلا يتململ بل يستقر في مكامنِ النفوس، فنظرَ إليّ بعين الناصح وقال:
إن من عادتي أيا بُني وأنا أكتبُ الفصولَ أن أدعَ الفصل منها يتقلبُ بالخاطر في ذهني أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس وأترك أمره للقوة التي في نفسي فتتولد المعاني من كل ما أرى وما أقرأ وتنثال من هُنا وهُنا ويكون الكلام كأنه شيءٌ حي أُريدَ له الوجودُ فوُجِد. ثم أكتبُ نهار الجمعة ومن ورائه السبت وليل الأحد كالمدَد من وراء الجيش ثم أبعثُها وتُنشر للقراءِ يوم الإثنين.
فقالت نفسي: ومن أجل هذا حقاً أنت أديبُ العربية وما أنت في جَهدك حتى تُعمل في سبكِ المعاني فتنبثق السبيكةُ من بين خاطرك وفؤادك وفكرك حتى يرتَشفها قلمُك من مِحبرةٍ يكاد سنا برقها أن يذهب بالأبصار.
وارتفع الرافعي مترفِّعاً فوق القمم ثم برزَ من بين الحشائش "أنيسُ بن منصور" ضاحكا مستبشرا بعد أن سمِع دُرَّ الحديث يقول: أما أنا فأكتب كُل صباح مع بزغة طفل ذاك الصباح، فأضع رأسي، ينسكبُ ما فيه حتى تغدو البيضاء الخاوية مزركشةً بالسوادِ المُوَشَّى، فيها ما يريحُ فكري وصدري ثم أبعثها في ذات اللحظة فتكون بجهدٍ قليل ووقت مستمر.
فجال في خاطري أن نعم وهي كذلك تأتي كالوجبة السريعة، طيبة المذاق سهلة الهضم تُوجبُ التخمة قليلة الفائدة. ثم سَرت عني ظُلمة الكّرى، وداعبت أصابعُ اليقظة أجفانَ النوم، فما بين صحوةٍ وغفلة، حتى سمعتُ الشاعر العباسي "مسلم بن الوليد" يقول لأبي العتاهية: والله لو كنتُ أرضى أن أقول مثل قولك:
الحمدُ والنعمة لك          والمُلك لا شريك لك
لبيك إن المُلك لك
لقلتُ في اليومِ عشرة آلاف بيت، ولكني أقول:
موفٍ على مُهجٍ، في يومِ ذي رَهَجِ      كأنه أجلٌ يسعى إلى أملِ.

نعم أعزائي، ما هي إلا كذلك فشتان ما بين الأمانة والهواية، فالأولى حملُ راية وقيادة أمة وكشف ظُلمة والأخرى للمتعة واستمطار النوم من سحائب الأرق، بل الأُولى ورق وردةِ "الأُوركيد" تفتَّقت عن عبقٍ لو اختار العبق أن يكون له اسماً ما اختار غير اسمها، والأخرى نبتة لاحمة تكون أفخاخا حمراء زاهية تفتَّقت فكانت لاصطياد الحشرات. فالخيارُ لك فُكن جاهدا لنفسك ومُتعبها تنل مجداً سائرا في القوم، أو كُن فقاعة صابون تعلو بالنفخ بين أوداجها ويثيرها التصفيق ثم ما تعدو أن تنحبس وتنفجر وتختفي عن الوجود كأن لم تكُن.

رسالة إلى وزيرنا الطريفي





إلى وزير الإعلام "عادل الطريفي" :

لا أخفيك فأنا عيِيٌّ في سبك سبائك التهاني والمُباركات، وفي تقليد قلائد المدح والثناء السابقةِ لأوانها، فمنك العذر فهذا جُهد المُقل، فلا في الصمتِ نقصٌ لكامل، ولا في الثناء زيادة لناقص، فخذها حوراء حنونة، ناصعة مُشرقة كفلقِ الصبحِ الوضّاح وكعين الشمس لا يسترها غربال.
كما لا أخفيك أنّي قد زورت حديثا في نفسي ثم آثرت محوه عن نشره، وجعلته تحت الصفيح لسذاجته وسقْطه، ولعلمي أنك عليمٌ بما قد كنتُ أضمرت، فمن مثلبةِ الكمال ترديد ما قيل وتكرار ما أصداؤه تُتناولُ من فمٍ إلى أذن مع تعاقب الساعات والأيام.
ما أرانا نقول إلا مُعارا                         أو معادا من لفظنا مكرورا .
فذاك السترُ وهنا الإبانة، فصحافتُنا عليلة، فرائصها ترتعشُ آناء الليل، وريقها يجفُّ في الغدو والأصيل، شفاهنا مُغلقة، عليها حرسٌ وحُفَّاظ، يسمحون وينزعون، عقولنا تُضرب بالسياط وتُنَصَّبُ في دهاليز الظلام، أقلامنا مكسورة وأوراقنا مُجدِبة، والطُرق حصباؤها الجمر تُفضي إلى خَلاء.
يتنادى القوم بسقف الحرية الصحفية بأحاديث نسمعها أحلاما ما بين هاجعٍ وهاجد، نطردها سرابا ما بين لاهثٍ وناصِب، شعارات تُرفع مُخرَّقة بِخرقِ التزييف والخديعة.
لك أنتَ أن تستحيل بها رايةً خفاقة، ودروبا سوية متزنة، عالية عن السفسفة والسفسطة، بل نقية نقَّادة بنّاءة، لك أنت أن تسمح للحق بمزاحمة الباطل وللباطل بمناكفة الحق، دعها حلبةً أدبية فكرية، كلٌ يُدلي بدلوه ويضربُ بقدحه، من مُنطلقٍ إنساني واحترامٍ ذاتي وكشفا لما في الفكرة من نور، من غير تجريح لشخص أو سبٍ لذات بل بيانا يسمو بالذائقة ومعنى تتحرك به العقول، اجعلها ميدانا تُجندلُ الفكرةُ الفكرة، ويُسقطُ الحرفُ الحرفَ.
فَكُن من الناس كالميزان معتدلاً       ولا تقولن ذا عمي وذا خالي .
مجتمعنا زاخرٌ كالبحرِ في أعماقه، أقلامٌ فيَّاضة، عقول وضَّاحة، ألسنٌ سوية، أقعدها الرقيبُ، وعقَد أجنحتها التأويل، وطوى أقدامها الحذرُ والتحليل.
عبقرية الحرفِ لا تكون في رسمِ الطريق للأفكار، وتقريرِ حدودها بالحدود، بل في إرسالها على وحدةٍ من التسديد تستقر به في النفوس البشرية، فضاءُ القلمِ فضاء، وسماؤه سماء، لا تحده إلا حدود النَّيِل والتقريع، فاجعله في عهدك يسمو ويُحلق، ويعلو ويُنافس، ويجولُ ويناقش، إن كّتب فاللؤلؤ وإن محا فالحكمة. القلمُ المبين يكون للصحيفة منارةً لا مصباحا، ودُرة لا خرزة، وتاجا على ناصيتها لا حذاء تسير به. فنصف التمويه رذيلة والنصف الآخر نقيصة.

وفقك الله للخير.