كيف أصنعُ إمعة؟




استطاع الإنسان القديم تدجين الأغنام وسياستها كيفما شاء، يُطعمها ويسقيها فإذا أمِنت واطمأنَّت سلخ جلدها وأكلها بعد أن يستنفد لبنها وصوفها. وعلى الضد من ذلك لم يستطع حيلةً مع السبُع، صاحب العقيدة الثابتة والرأي الحُر، أرضه كل الممدودة، وسماؤه كل المرفوعة، لا أمر عليه ليرضخ، ولا سلطة ضده ليُسجن، مشاكسُ هو السبُعُ يُثيرُ غضبَ مُدجن الخراف.
ذهبَ رجلٌ يُدعى (الرجَّال بن عنفوة) من المدينة المنورة إلى أهل اليمامة إبان خروج مسيلمة الكذاب، وجمع الناس وقال لهم: لقد أتيتكم من المدينة وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنه أشركَ مسيلمة بن حبيب في أمر النبوة، ومادام الرسول قد مات، فأحق الناس بالنبوة والوحي يكون مسيلمة. فارتد جُل أهل اليمامة.
نجِد في الطبقات البشرية أن أصحاب الوسائد المخملية ومُلّاك القرار يهيمون عشقاً بتلك الجمجمة الصغيرة المُنقادة بخطام التبعية، طافحون نفوراً من الأخرى الكبيرة المُفكرة المُحلقة، لذا ابتُكرت أساليب ناعمة تنمو فيها شجيرات الإمعات وتزدهر أزهار التبعية المُلونة الزاهية ليُعجب بمنظرها الأحمق ذو الجمجمة الصغيرة.
منذ السنة السادسة من عمر الطفل ومع انطلاق طريق التعليم الرسمي يبدأ الاخطبوط  بمد أذرعه حول ذلك الطفل خشية أن يفلت منه أو يفر، ومنذ اليوم الأول، يُسقَطُ على رأس الطفل جلاميد الأوامر والنواهي، ونظرات الاحتقار والفرض والسيطرة، يُصاب المسكين بزلازل في القشرة المخية وأخاديدَ في مراكز اتخاذ القرار وذوبان كامل في أجهزة الثقة والتحكم. يُغذى بقناعات مستهلكة صاغها والٍ خائف ومسؤول قبض الثمن وإعلامٌ رمادي ومناهج "تجهيلية" من ذات الورقتين والعشرين رسمة توضيحية.

هكذا تكون بداية معادلة هدم "الإمعة" لتكون نهايتها "فاي"، شابٌ فارغ لا يعلم حقا ولا صوابا، لا يُفرِّق المسكين بين يمينٍ يأكل بها وشمالٍ يغتسل بها. ويستمرُ الهدمُ بمحاولاتٍ تمنع تدفق سُبل التصحيح وكسرٍ لأنوارِ كشف المستور، أو بإلقاء منشورات في الطريق -كأنها تُقرأ بالصدفة- للتحذير من محاولة سلك طريق غير هذا الطريق المرسوم، فكل الطرق خطرة إلا طريقنا، وكل الأودية سحيقة غير وادينا، وكل البحار غادرة سوى بحرنا اللطيف الذي لا يموج. لا ينسى المُدجِّنُ فائدة التكرار والتكرار، حتى تترسب القناعة في العقل عند أعمق نقطة وتُحاط بجدران الممانعة الذاتية. هكذا يتأكد المُسيطر من سيطرته على هذا المسخِ المكونِ من شكل خارجي جميل ومحتوى داخلي فارغ تتشطر الأكباد رحمة به. ولكنه مع هذ التبعية المقيتة وسفرهِ مع الدهماء السوقةِ فهو يُقدمُ خدمة جليلة للمجتمع، فالإمعةُ يسير مع كل الاتجاهات، ويُجامل الجميع، لا يبحث عن مبدأ أو قيمة، لا يثير السلطات ولا يغضب الحُكام، يُشترى بأبخس الأثمان، فلا يُكلفُ سيدَه إلا قيمة أكله ونومه، يُقنعه بنطالٌ ممزق رُسم له في مغرب الأرض، أو وجبة شهية صغيرة أُرسلت له من مشارق الأرض، مستيقظٌ وهو يظن أنه نام عدة ساعات تحت تأثير الفودكا المُحلّاة وومضات المشهد الصامت، مُسالمٌ لا يسأل عن السبب والعلة، ولا يهتم بعلوم طبيعية كانت أم إنسانية، سَنتُه فصلٌ واحد، ومنزله بعيد جدا عن حي التفاعل، بل لا يجد الوقت ليُزيح غُبار نظارته المكسورة، ولا يعثر على مكان يدفن بهِ جلبة خطواته المُقيدة. يلينُ ويَقبلُ أنصاف الحلول، يعيش التذبذب كحياة، لذلك لا يعي أعلى صواب هو أم على خطأ؟ سوق السمك عنده كما سوق البجع، الرائحة واحدة، المهم ألا يشرب اللبن مع السمك. وفي الحلقة الأخيرة من هدم الوطن يستلقي أحدهم على أريكة وفيرة بيده اليمنى جهاز التحكم عن بعد وبالأخرى سيجارة كوبية ويعتمر قبعة مكسيكية ليبدأ الإمعةُ بالرقص وإضحاك السيد بدسِّ أوراق مالية في جيبه المكتنز.