‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصة. إظهار كافة الرسائل

عطبُ في أجهزةٍ حساسة





في جسدٍ تورمت فيه غدد الطاعة والعبودية وعَطِبَ جهاز الاستقلالية والتحرر. 
اقترح طفلٌ في المرحلة الابتدائية من معلمه أن تُصبغ جدران قاعة الدرس بلونٍ مغاير عن لونها المُعتاد لطرد الملل والضجر، رحَّبَ الأستاذ بفكرة جديدة كهذه، وعزم على التغيير، لم يكن عقله قد اعتاد على البدأ والتفتُّقِ من دون أمرٍ ونهي، ولم يجد في نفسه تلك القوة من التحرر الإنساني ليصبغ جدار غرفة، نسيمُ البحر لا ينعش الجلد المحترق، لذا أحال الطلب إلى مدير المدرسة الذي رحب ورقص ووعد بالنظر والبحث. هو شجاع ويقوى، بيد أن عادة العبيد قد ألقته داخل قضبانها مُكبلا بأنواعٍ من الدرن لم تعهده البشرية، هو يريد والعبودية تفعل ما تريد، نسيم التجَرُد طهورٌ تتقيأهُ البركةُ الضحلة، أُحيل الطلبُ إلى مدير التعليم بالمنطقة، "طالبٌ نجيبٌ يريد أن تُصبغ قاعة الدرس" ، يا إلهي، لا نقوى، قلوبكم غلف! لابد من إخطار الوزير، نسيم التَّخْلِيَة يحملُ من اختار طريق النبلاء فقط، وصل الطلب إلى مكتب الوزير، الطلبُ تفاجأ، أنا طلبٌ فوق طاولةِ وزيرٍ مشلول، نصفُه يعمل ونصفه منزوع، لا يملك الإرادة، "يُحال إلى ذوي المشورة"، هكذا كُتب على الطلب، ثم أعقبها نصف توقيع. نسيمُ الانعتاقِ حُرٌ مقِلال البيض، تخبَّط أهل المشورة ثم قاسوا، بما أن الدِّهان للجدار كالغيثِ للأرض، والله وحده مُنزلُ الغيث، فالنتيجة أننا لا نتجرأ بالقول في قضية كهذه، فالأمر ليس للعبيد، نسيمُ الانفلاتِ أعزُّ من أن يقف على شواطئ الخذلان، تورَّم الطلب كغدة التَّبعِية، وأُلقيّ به أمام ديوان الحُجَّاب، حاص القوم، سُمع لهم أزيز وأنين، يريدون ولكنهم لا يستطيعون، زغاليلٌ أصابها وابل، تنادوا بأنّ الدِّهان مُضر، أولادنا أكبادنا، نبحث عن الجودة، سنخلق لجنة شراكةٍ مع دولة عظمى لبحث هذا الطلب، نسيمُ الانفكاكِ لا يحمل ذوي الريش المنتوف، في الصباح تتحدث الصحف في صفحاتها الأولى، مُدير الديوان يعلنُ عن قيامِ لجنةٍ مشتركة "محلية-صفراوية" للتشاورِ في إنشاءِ مصنع للدهان القابلِ للتمددِ والطي والتحدثِ والذي سيُقدمه هديةً لطالبٍ من أبنائه كان قد طلب منه ذلك. نسيمُ الحريةِ لا يُحرك راية الأنانية، أنهى الطالب دراساته العليا وعمل في لجنة حكومية أجنبية خطت على ورقةٍ ما: وافق السيدُ الأعظم.


الثعبان الأسود.





انتشر بين حيوانات الجزيرة وباءٌ غريب، وباءٌ يُعشعشُ في الجمجمة بين قشرة الرأس وبين المخ، يبدأ صُداعا ثم ينهشُ المخَ مسبباً آلاما قاتلة حتى يصل لمرحلته الأخيرة فيخرج قيحا وصديدا من العين اليمنى معلنا دنو لحظات الفناء. فَنِي أثناء تلك الحقبة القاسية من حيوانات الجزيرة كل حكيم، شمرت الأرض عن كل شيطان التحف تربتها، وحلّ الفراغ مُشردا الهواء، كأنها لعنة أرواح الأموات، عادت تنتقم لأجساد المقابر تحمل معها أصوات برزخ العذاب وسحق العظام.
تنفلق ثمرةُ الجوز عن قطران الحقد فيخرج منها نبتتان تلتفان حول بعضهما صعودا إلى السماء، تصعدان حتى لا يُرى رأسيهما، يتحولُ السحاب لمعاول هدمٍ، وتمطرُ السماءُ أحماضَ الكوي والحرق، تهرولُ الأشجارُ تتلفتُ أين العذاب؟ عمَّ الوجع والوصب ثم عمُّ الهدوء فجأة، لم يبقَ إلا الثلة، يأكلون التراب، يلتحفون الجلود، يموت عقلاؤهم، يسقطون من غير رأي في كمائن <الثعبان الأسود>، يئِسوا واستسلموا للعهد الجديد، أصبح الثعبان الأسود عنوانَ السلام و رسولَ الأمن والأمان وحامي الأعراض ومؤمن القوت والزاد، رسم لهم لوحات الجمال على ماء، أحال التراب مالا في خيال، جسَّد لهم من الوهم مالا يُتوهم، أقعدهم على حرفٍ يحسبونه القرار، صاح كبيرهم من دون صوت أن "يحيا الثعبان" وردد صغيرهم أن "كلنا الثعبان".
توالت وفود غربان الليل حين فتور قوة الشمس، سن الثعبان قوانين البقاء، وسنن اللقاء، فمن أراد البقاء فليركع، وإلا فالأنياب مشرعة وأحواض السم تفور محمحمة، ومن أراد اللقاء فالعصرُ من نصيبه والقيدُ حليفه، أضحى حمورابي الجزيرة، استوى على العرش يضرب بذيله، وينفث من فمه، أبناؤه يحترفون التمثيل والإعاقة، وأحيانا الجنون والشحاذة، كان الأسود يأوي لفراشه فيوقن أن عرشه دائم مادام الهوان، أكل كبير الثيران، ونفى عظيم الفيلة، ونافق بين التماسيح فنهشت كبيرها، انحنى له الزمان كُرها في الفناء.

شاع أن له أتباع، بين الوسائد وفي الخدور، ينقلون قليلا مما يسمعون وكثيرا مما لا يسمعون، حتى أصبحت الحيوانات تتخيل الحبال أفاعٍ سود، ضرب الخوف أطنابه وأناخ ركابه، كانت اللقمة بخوف، والبولة بخوف، ومنتصف الطريق بداية، وآخر الطريق ليس له علامة، الأخ يُخوف أخاه بأن "سيأتيك الثعبان الأسود"، وكأن الوباء تبدل ولم يرحل،  والثعبان الأسود سريع الغضب، لا يهدأ ولا يستكن، أكل القلوب والأكباد، واستقدم الذباب والجراد، وأمر السحالي بأن تحرس المباني، والحيات لتتبع الهمَسات، منح نفسه عقلا من رماد، القول من غير تفكير والعمل من دون تدبير، فاستناب عنه قيدا وكرباجا، فازداد خوفا وريبة، أرسل زبانيته في الأرض حاشرين، اسحقوا كل حالية لبن، اقيموا عرشا من الهلع. امتلأت الجحور وضجت الكهوف، قال: فناء الثلثين بقاءٌ للثُلث، أُقيمت المشانق وهُتف: أن الأرض للثعبان يُورثها من يشاء، فأعادت الحيوانات: هو المالك يؤتي مُلكه من يشاء.

مملكة الليقرال









كان هنا قبل ألف سنة، لم يكن تَخطى بعدُ سن الطفولة سوى بأقل من مئتي سنة، كان في صمته بحة، وفي حديثه شدوٌ، مجرد جوالٌ غجري، الآن ملامحه لم تتغير كثيرا، فقط برز تورمٌ في كفِه الأيسر بالقرب من أسفل أصبعه الإبهام. في هذا المسار من الزمان كان يجد الرائحة النتنة التي تنبعثُ من خلف تلك الصخور. والتي تخطتها الشمس، بعد ذلك بفترةٍ قصيرة، عندما ظهرت عليها لأول مرة، تخطتها احتقارا لها، ورِفْعَة عن نتانتها، لم تعتبرها إلا وَرَماً شاذا في كف الزمان المستوي بالقرب من إبهامه الصغير.
كان هنا بعد أن سمع بالملكِ الخوار، الذي يسكن في الجوار، تاجٌ على مملكة "الليقرال"، هو ذات الملك العالمُ بكل شيء عدا الخطط العسكرية وقيادة الرجال، كان يحلم بأن يكون له تاريخا يذكره ومجدا يبنيه لأحفاده، فما استقام له فكر ولا انتفع بمشورة، لابد وأنه كان أخرق، بل أخرق، حتى أن حفيده الرابع والذي كان من غير عينين بالوراثة كتب في مذكراته أن جده الرابع كان أخرق.. لم تُشرق عليهم شمس منذ ألف سنة. يجهلون كيف كانت البداية؟ كان في كتبهم أن هذا الزمن هو زمن ستغزوهم جيوش قادمة من مكان يُسمى الشمس، في السماء! فإن هم حاربوهم وردوهم فهو الخلود لهم.. وأثناء ذلك و تحت عفاريت الظلام ولسعات البعوض يجلس الملك متحسرا على حظه الذي أنجبه في هذا الزمن.
 
يدخل الغجري مملكة "الليقرال" بصوفِ ثعلب ولحافٍ من وبر، تُغطيه ملاعق وكؤوسَ من الجص الأبيض، كان من ذوي العجائب الخرافية و التي اقتنصها من رهافة سمعه وطول عمره ومن معاشرته الضباع.  سمع ما وقع على الملك الخوار من همٍ وحَزن، فاستأذن لرؤيته ليعرض الحل المستعصي أو  يبعث بريحٍ تُجلي هذه الكادرة، أدخله القائد للمثول بين يديه لعل السماء تنطق بلسان هذا الغجري مالم تنطق به على لسان وزرائه وحاشيته، وبعدما أبدى القائد للغجري أمانيه أمام عجزه، وغاية منتهى فكره أمام جبنه وضعف قلبه، حكّ الغجري رأسه، أخرج له قارورة صفراء من بين ملاعقه وكؤوسه، ناولها للقائد وقال: نصرك بداخلها، وخلودك تحت غطائها، اشرب منها ثلثها واسكب الباقي في ماء شرب الجند، ستندلع فيكم الشجاعة والنيران وتؤازركم الحيات والثيران،، هذا بول تنين الأرض الخامسة المتعدد الرؤوس، مَن شربهُ يخرُّ له الطغيان تحت قدميه، وتركع الأهوال لعبادته، ولكنْ احذر،  فأعينكم ستنطفئ ويخرج منها الجراد الأزرق، استبشر الخوارُ بعد تأكدهِ أن الأعين نوافذ للخوف فإن هي أُغلقت لم يعد للجبن مدخل ولا مولِج،، ملأ القائد ثياب الغجري بالذهب وولى لأمر حاله، حان الوقت كما ذكَرت الكتب، وتغيرت السماء وبدا كما لو أنها فعلا ستغزوهم جيوش الشمس، هالهم النور وارتعدت فرائصهم، وأمام جيوشه بدأ بول التنين ينساح في حلقِ القائد مرا علقما، ليُبقي لجيشه ما يُبقي لسد رمقهم وعطشهم للنصر، كما قال الغجري اندلعت نيران قلوبهم وتسمَّلَت أعينهم جميعا حتى الدواب،،
أشرقت الحقيقة من خلف تلال مملكة "الليقرال"، في ذات اللحظة التي أُقفلت فيها أعين المغفلين وفي ذات اللحظة التي صمتت فيها جنادب الليل، أشرقت لا يطفئها بول تنين ولم تشعرْ بمُسَمَّلي أعين. في خطوة خاطفة أشرقت واحتضنت مملكة "الليقرال" وما جاورها من ممالك،  ليلامس شعاعها كل مُضغةٍ صالحة لم تُسمَّل أعينها.
بعد ألف سنة كان هنا، حيث ما زالت الأجساد تخوضُ في مستنقعات الفناء، والأعين منطفئة والألسن تحكي انتصارات "بني ليقرال"، انتصاراتهم التي تغلبت على جيوش الشمس، كما مازالوا يحكونها في المواخير التي تبعث الأبخرة النتنة من خلف تلك الصخور ....... 

مُسِنَّةٌ غير مرحبٍ بها






مُسِنَّةٌ غير مرحبٍ بها

قبيل مساءِ يوم حار، كانت مدينة "الدمام" تلف سكانها تحت رطوبة إبطها الخانقة، وعند محطة توقف الحافلات، ينتظر البسطاء من أصحاب الأعمال حافلتهم اليومية تُقلهم إلى مخادع نومهم.
يجلس "كتاب" كذلك يتأمل واقعه، معاناةٌ حامضة ترجُّ جسده النحيل، وصداعٌ يُفتتُ رأسه، يستشري طعم الليمون على لسانه، وتهرب الابتسامة منه كما يهرب الناس، استقلَّ تأثيره على واقع متسارع محموم بحمى المال، تخرج أمام ناظريه مشاهد ماضيه الزاهر وأصداء كلمته المسموعة وسلطانه القوي.
تقف الحافلة متأوهةً متألمة، تقطر عجلاتها عرقا، وتتمنى لو خرج هواء روحها لعل ارتخاءها يُعجل براحتها من حمل هذه الأكوام المتكدسة من البشر.
يُصارعُ "كتاب" للحافلة متمتماً "لم أعد أقوى الوقوف، ولن أصل لبيتي واقفا بين هذه الأرتال". كأنه حطّ من المشتري ارتمى بجسده بجانب ابنة عمه المُسِنَّة الوافدة منذ أيام من بلاد الغُربة ليصدر صوت ارتطامه صوتاً ضحِك منه فقط راكب واحد. أراد مُصافحة قريبته فما غاب عن أنفه رائحةَ الهمِ التي تفوح من جسدها فأثار في نفسه الشفقة والوفاء ليسأل عن حالها.
صديقتي "سينما" ما هذا الشحوب؟ يبدو أنك متعبة أليس كذلك؟
-         الجسد يا ابن العم في راحة، والروح في عناء، ولكن دعك من المراوغة يا شقي، فلا تستطيع أن تخفي أنتَ مظاهر النكد والإعياء تحت هذه الوجه المتلبد بالسواد.
-         أنا كتاب، وكتابٌ مفتوح، وهذه شقوتي، فحالي لا يخفى عنك، فما أزال ميتا بين الأحياء، رحلَ مجدي، وأفَلَت شمسي، مُقسِمة ألا تُشرق، فاستمرَ ليلي من غير انبلاج.
أمسكت "سينما" بأطراف أصابعها رأسَها وأغمضت عينيها كمن أرادت خلع الواقع كُله،،
-         يبدو أن ليلك يا "كتاب" أكثر صفاء من ليلي، ولكنه ليلٌ في كل حالاته. تأكلني الحسرة وينهش لحمي طول الطريق وعناء المُهمة، وصلت إلى هذه المدينة ولم أجد عملا كما أملت.
-         ولكنكِ لستِ المُلامة، فهناك جَشِعٌ ومُفسِد.
نظرت "سينما" عبر النافذة، تتمنى لو تهرب إلى حيث يقع بصرها، ولكن صوت هدير "كتاب" لم يجد في نفسها صرخةً تردعه.
-         عزيزتي، تراكم المشكلات مشكلة، والشجاعة في تقديمِ البديل، وفعلُ الاتفاق بيننا أنفع لنا.
أحست "سينما" بأن هناك وحيٌ جديد، وسحابة مُثقلة بالخيرات وراء ذلك الوجه الكالح، فنطقت عيناها بحبُ المزيد. و"كتاب" بشقاوته لا يجهل حديث العيون.
-         ألستِ عند العامة أكثر ظهورا وأقوى بيانا مما يُنقش بداخلي؟ ألستِ تمتلكين قُدرة الإبلاغ بجمال وجهك وحسن صوتك وبهاء ألوانك؟
ثم أراد أن يُلقي ورقة الإقناع بعدما لاحظ اقتراب جسدها منه بأن اقترب منها يهمس:
-         ثم لا تنسيْ كسلَ هؤلاء وشغفهم بالسرعة والاستعجال، ثم أن قليلا منهم من يُقلب صفحاتي ويفارق أحضانك!
-         نعم..
-         إذن عودي فالعود أحمد، ولكن أنصتي للخطة، اخلعي عنكِ عُهر أصلك، وثقافتك المستوردة، ارتدِي من ثيابهم وتحدثي عن آلامهم واشربي من مائهم، انبثقي كنبعٍ أصيل من بين جبالهم، يحمل طعم الأرض وأصالة الجذور. لا أخفيك عزيزتي فقد عاشرتُ هؤلاء القوم، هم يحلمون بصوت لهم يُسمع وصورة تُجلِي حقيقتهم وسط أدغال الحاضر، كوني لهم عونا على إبداع منهج خاصٍ بهم، اقتربي مني،،، هم مقتنعون بعدم جدوى عملك بينهم وأنتِ تمثلين ثقافة غير ما اعتادوا عليه، ثم أنك بذلك كمن تقوقع في قوقعة ويخشى الخروج.
-         وأنتْ، ماذا عنك، وماذا تقصدُ بأن الاتفاق بيننا أنفعُ لنا، وأنتَ بوتقة الثقافة ومدارها المُستحكِم؟
-         أنا ابن بيئة هؤلاء القوم، ظاهرٌ مِن حُرِّ مجتمعهم، ولكن القافلة رحلت وأنا نائم، سأفتح لك صفحاتي فانهلي منها ما راق لكِ. تُراثي، قصصي، حكاياتي، رواياتي، حِكمي التي نقشوها بأصابع الزمن. تعلمين أنِّي لم أحصل على جواز سفر لتخطي الحدود، فقط بكِ أُصبحُ نورسا يُحلق، وروحا تُحركُ العقول، فأزرعُ بكِ بذور أشجار الفضيلةِ شتاءً وأحصدها صيفاً.. ما رأيك؟

عادت "سينما" تنظر للخارج وكان الليل قد ازدادت ظُلمته، وتفَشى مرض الخوفِ بداخلها، فصَلَّت ألا يكون مستقبلها كذلك. حيثُ حمى الجدال تكون الطاغية، وحيث الشعور الصاعق بالضياع. 

أكوانٌ أربعة ..





أربعةُ أكوان .

1
سئمت المكان ، والأطفال جداً مزعجون، عقرب الدقائق الكسول لا يتقن القفز ولا يكمل الدائرة بسرعة؟ وهذا الجسر الكسول متى سيصحو ليقذف بي خارج المكان؟  ثم بعدها ليعود لنومه وشخيره المعهود . 
كرهتُ العشيرة، والازدحام والضيق، و أهفوا إلى ما وراء الجسر حيث لا أشواك ولا سجون ولا حُفر الطريق ولا شرطي المرور ولا جسر أيضاً يستعبدك خلفه. كل هذا كلام مسموع وأساطير قديمة فمن عبر الجسر أبدا لا يعود إلينا ويخبرنا بما شاهد.
نشوةُ الجديد تأسر عقلي الصغير، هيا يا عقرب،  سأبني لي كوناً كبيرا وشاسع ، لا أريد أحداً،  سئمت المكان المُغطّى.
أخبرني (السراج) بأن واحداً من هؤلاء المزعجين سيتوج ملكاً، واحدا فقط منهم.. الملكُ يكون هو أول من يصل إلى باب القصر قبل الآخرين. مهما يكن فهذه فرصتي وسأقبض عليها بأسناني فلا حياة لي هنا.

2

أُطلُ من نافذتي العتيقة، أرى في الشارع حركة لا تتكرر، الكُسالى يهرولون، والمزعجون يهرولون، إنها المنشطات، لعنة الله على من يعطيها لهؤلاء الأطفال المزعجون، يتناولونها فيصبحون أزعج وأزعج من الإزعاج نفسه، أغبياء !!!
يصرخ بي أحدهم و بصوت متعجرف: هيا انزل لقد استيقظ الجسر! ماذا ؟ ماذا يقول، الجسر؟ أحلامي ! فُرصتي ! القصر ! النساء ! الجديد ! صرختُ حتى  خَرجت لهاتي: إني قادم، ارتديت بنطالي وهرولت مع المزعجين أصحاب الذيول، أخترقُ جدار الوقت، فالسراج قد قال : إن فُتح الجسر فكن الأسرع الأسرع الأسرع . أكره هذا الجسر، سيقذف بالدفعة الأولى منا ويعود للنوم، يجب أن أسرع أكثر، أضع كفيَّ على صدري، أَخفض رأسي قليلاً، كل ما فيّ يدفعني للأمام، حتى ذيلي !

3
وأخيراً عبرت هذا اللعين وقذف بي للأمام بعيداً : هُبَّاااااا.
ما أجمل التحليق في الحرية، تباً للسجن. أصداء تطرق أذنيَّ: هبَّاااااا ، الكل كان يقول : هُباااااااا ..
لقد عبروا معي، لم تنتهِ الرحلة إذن، من هنا تبدأ، سأريكم يا أصحاب الذيول القصيرة، هذا طريق يبدو أقل ازدحاماً، وهذا منعطفٌ حاد، ويلي سأرتطم بالجدار، آآه لقد نجوت، الطريق طويل، ها أنا أمام القصر، أين هو الباب السري، أين؟ أدورُ حول القصر، المزعجون مازالوا بعيدين، ولكنهم سيصلون حتماً، السرعة، السرعة ، أريد ماءً، اصمت أيها الحلقُ الغبي، ما هذه بساعته. أنظرُ خلفي، المزعجون يقتربون و ينظرون إلي مخرجين ألسنتهم، هناك نقطة حمراء صغيرة على جدار القصر، أقترب منها، أضع يدي عليها فينفتح باب الجنة، أدخلُ ويُغلقُ الباب و تُسحب الستائر وينتهي فصل السرعة، أين الماء...

4
احتفاء من الخدم، كل هؤلاء عبيدٌ عندي ! أأنا أستحق؟ ربما من أجل السباق. ولكن لماذا أستحق؟
موائد الأطعمة مد البصر، والجاريات كالنجوم، و(السراج) لم يخبرني بكل هذا ولا بنصفه ولا بربعه ولا.. ولا ..
سوق، متحف، سهل، جبل، وادي، وردة، وسواس، رحى، أشياء لم أكن أعرفها ولا أدري كيف عرفت أسماءها، لن أشغل عقلي وسأستمتع.

إنني أكبر وأكبر، منذ أمد بعيد كنت بين المزعجين ولم أكن أكبر، وما تغيرت، أما هنا فأتضاعف، سأكون مثل هذا القصر، ولكن من بناه؟ أرى عبيدا بلا أفواه. مع الطعام سيكبر رأسي وأهتدي لشيء، وما شأن رأسي؟ لا أدري، هناك شيء يتحكم بي. سأكتفي بالأكل ..
قرعُ نعالٍ على الأرض ! أحدهم قادم بل قرع اثنتين، هل دخل المزعجون؟ لا يمكن، ( السراج ) لا يكذب هو قال واحدٌ فقط. ولكنهما اقتحما الباب وكسراه، قيداني بسرعة بأطراف السرير، كمماني، أوثقا الرباط، تُصارعُ الصيحاتُ لتخرج من أنفي، أخرج الأول سكينًا وغرسها في صدري، وشق الجلد وأدخل يده بكاملها وانتزع قلبي وهو يرفرف كطائرٍ مذعور بين يديه، ألقاه مع النافذة بدمٍ بارد وأخرج من كُمِّه قلبا آخر و زرعه مكان القلب القديم، هدأ صوتي، وغشيتني السكينة، خاط الجرح ومسح الآخر عرقي وخرجا كما دخلا ..
يا إلهي !!!
ماذا ؟ يا إلهي !!! ماهي يا إلهي !!
لساني حلو الطعم وعيني ترى الجمال وسمعي يصغي، جسدي يكبر، وعقلي يكبر .
صفعتني فكرة وقالت: أين كنت يا مجنون وأين أصبحت ؟ ( السراج ) لم يخبرك بكل شيء ,,, ثم حلقَت وذهبَتْ بعيداً.. لم أعد أراها لأسألها .

5
تتزلزل أركان الأرض من تحتي، ويتموج القصر، انقشع الهدوء وهبط الزلزال، الدماء من حولي تغمرني، غاصت قدمي، جدران القصر تقترب من بعضها، تدفعني للخارج باتجاه البوابة التي تُفتح لأول مرة، هو غضبُ صاحب القصر لا محالة؟ الخدم سئموا حياتي كما سئمت أنا حياة المزعجين، سأُطرد من الجنة ولكن إلى أين؟
سقطتُ على رأسي، انزاحت غمامةٌ بيضاء من على عيني، أرى مالم أكن أراه، إنه عالم العمالقة. ما بها هذه المُكممة ترفعني من قدميَّ وتضربني؟ تكرهني! .. إني أبكي .. أبكي!! وما البكاء؟ وما هذه المياه من عيني؟ أين أنا؟ مازال الرحى يطحن في رأسي، لا يجد من يقوى على إيقافه. عالم مزعجٌ آخر إنها عقوبة ولكن ممن ؟ يا إلهي، لم أفعل شيئاً في القصر سوى التهام ما كان في الأطباق. أمامي شيءٌ عملاق وعقلي كالحصاة، حولي وحوش ما عدا واحدة ..
أرفع بصري لا أرى أبعد من السقف، اختنقت وأريد الهواء، سِرتُ في ممرٍ طويلٍ إلى باب صغير، هذه هي المُحرِقة وتلك الزرقاء، هذا النسيم والطير والسفن البيضاء بالأعلى وماءٌ في الأرض، عجيب!
القلب الجديد ينبض، قشرة الليمون صفراء حامضة، وقطرات السماء أيضاً، رحيق الأزهار أَسود, واللؤلؤ قاس، الشمس تشرق والناس تتقاتل، في داخلي جزيئات تتحرك، تتوالد، تتصارع، هواء يدخل و ماء يخرج، غيبيات تتزاحم فوق رأسي وفي رأسي، فقط أقف تحتها في سكينة .
البحار تُزمجر وتضرب الأرض بلا رحمة، أشجار باسقة وحشرات ذرية، عنكبوت يشد من أوتار شبكته ولا يقوى حياكة السجاد، ونحلٌ مُتكاتف ولا يعرف الحب، ما هذا كله ؟ ألن تقف تلك الطاحونة في رأسي؟ إني مهذار ولساني أطول، هذه فتاة تختلف عني، شعرها طويل فقط ، جذبتني كالمغناطيس، هناك من كل شيء اثنين، واحدٌ وواحدة، ما سر الشابين ولماذا قيداني ؟
لا حتمية ولكنني في ظهر سفينة سطحها كالميدان يسع الجميع، تُبحر فوق صفيح من الهواء مرسوم فيه طريق تعبره، أين غرفة القبطان ؟ وأين راسم الطريق ؟
إدراكٌ مباشر ألهمني بأنها سفينة لأنها فعلا سفينة، قد يعلوها فوضى خلاقة ينبثق النظام منها ليرسم لوحة من الرمال يعجز أن يتطور ليبني قصرا من الرمال، وما عقلي إلا بعضٌ من رمال الصحراء .

بعضهم يسقط من السفينة ولا يعود، السفينة عدو الإنسان، أم الإنسان عدو نفسه، ربما السقوط هو النجاة من إزعاج سطح السفينة.

وكزةٌ في جنبِ مزهرية .








ما إن وضعت اصبعها السبابة وسمعت صوت رنة الجهاز الذي يُنبئ صاحب الجاكيت والكرفتة المزركشة أنها ولجت كهفها اليومي الذي تتزاحم فيه الدوائر السوداء أمام عينيها مُعلنة طقوس وخزات الإبر التي تتلقاها كل يومٍ ماعدا يوم الجمعة حتى أدركت أن كل من في هذا المبنى يحتقرها.
كانت تستديرُ وراء حاجز الاستقبال تبحثُ عن نفسها التي فقدتها بذات الإصبع التي عانقت القلم لترسم خطوطا متقاطعة تُعلن بها انتحارها.
تقفُ كل غسقٍ أمام المرآة لتملأ رئتيها بكل الهواء المُهيأ لها، وتُسبل جفنيها لتتدحرج دموع الحنين على وجه كان متوردا نضارة وخدودٍ اشتاقت للورد القاني والذي تكفلت بإسقاطه الأيام لتكشف أوراق الخريف وعواصف البرق الشاتئ، كان فقط بكاءً أبكم.
تتبرج بالقليل فلم تعد تجد من يستحق الكثير. تضع يدها على صدرها فيلتهب ضميرها ناراً تأكل كلَ ما في المرآة، ترتدي السواد الذي مزقته قبل أشهر. يرتج لحمُها متوجهة على الطرقات المنقطعة والموحشة، وحيدة إلا من مرآة السائق التي تلتهمها، لم تعد تشعر حتى بالمقعد المهترئ من تحتها. لم تقوى على مقاومة تلك الابتسامة الصفراء التي افتضت مبسمها  لتثير ضحك فؤادها على عقلها الذي رأى في صكوك الغفران و سماع خشخشة المال مفاتيحا للولوج لحدائق البهجة والصفاء ودكاكين الرجال ومراتع الرقص في الخلاء.  
تمر عبر نفس الصحراء التي تُحادثها كل صباح، وفوق نفس الأفعى السوداء التي ابتلعت والدها، وفي هذه اللحظة احتل رأسها امنية أن تجد فم الأفعى، واشتهت دخوله لتبحث عن أسوار الأمان. ترجلت عند ذات المكان الذي تقف عنده لأداء صلاة الفجر. جدران المصلى الصغير كان قد حفظ عن ظهر قلب صورة الفتاة التي تمزقت وحفرت بأصابعها حفرة للأشلاء.
صوت منبه السيارة يُزعج الكثبان والحصى وهي أيضاً، هو ذات الصوت الذي يرتسمُ أمام وجهها قبل النوم كذَكرٍ طويلُ الأنياب، حاد الأظافر، تتقطر الدماء من تحت شعره ويلوح لها بوقت العمل.
تحيي الزبائن المبكرين بحروفِ ألمِ الألم وغصة الموت وحنق الحاضر، صوت الهاتف ما عاد يفزعها، تمتد يدها كآلة لتجيب وتتحدث مع قليل من أداء واجب القهقهة، لم يزد في أجرها، فمها لا يفوح بالرائحة ومع هذا فقد أصبح عُمرها أكبر من قهقهة.
تلتفت لصديقتها بجانبها والتي تحمل نفس فصيلة الألم، تسألها فتجيبها على عجل وهي تشمُ رائحة الأنين المتعفن: فقط أغمضت عيني وأشحت بوجهي لأتركه يسرق مني ما أراد، فقط ارتديت ملابسي وعدت وراء حاجز الاستقبال. لتعتريها مسحة المشاعر الحقيقية للمهانة.  
صدى صوت التهاني بالمنصب الجديد يضرب حِيطان الممرات حتى يطرقَ سمعها، تموت أكثر مشاعر العزاء داخلها، يضحكون من حولها من غير حناجر، الكل واضح الأثر عليه مكان اجراء عملية الاستئصال. بيادق!
تصفق بفخذيها وتسأل نفسها: هم أعلم ما كان القربان؟ تناجي روحها التي تحت المقابر: لماذا هم صامتون؟ لماذا المشي أصبح على الرؤوس؟ والمصانع أيضا أصبحت تصنع أحذية للرؤوس؟ وأغطية للأقدام؟ البكاء نجاح، والفرحة شماتة، والذل سُلم. تناولت المرآة الصغيرة المتصدعة وحقيبتها لتصعد السُلم والذباب يلتصق بأردافها وقد تركت روحَها المخنوقة حد الموت خلف حاجز الاستقبال.
رائحة نظافة الممر تُخفي أبشع القاذورات خلف اللوحات المتعلقة بمسامير هشة تخترق الحيطان مُحدثة ندوبا لن يغطيها التابوت. ورقة التعليمات تقدحُ شرارة الحريق بأنه إذا وصل صاحب اللحية الخفيفة المشذبة فيجب اسقاط القلم على الأرض ثم الاستدارة للخلف والركوع لرفع ذات القلم فلا نريد شكاوى من قلة الذوق.
الضحى، الظهيرة، آخر المساء، بعد العشاء، يهزها السائق عبر الطرق المُظلمة هناك حيث الاجتماع، يجب أن نرفع الأوراق الخضراء حتى ولو كانت مهترئة وممزقة فقط يجب أن تكون خضراء .
تعود بيتها لتقضي ليلة أخرى تجر فيها عربة ألمِ الجرحِ النازف وتمسحها بمناديلها المُعقِمة، لا تملك الصوت ولم تعد الأصابع تثير النشوة، فقط تأملُ في أصابع من غير أظافر حادة تجرحها، كانت الأرض رخوة لا تشعر بها.
ارخت رأسها على وسادة الفئران، وارخت معها جفونا لا ترتخي، رأت في منامها الذي يُماثل اليقظة صورةً لمزهرية منمقة، فاتنة، وكأنها البدر في جلائه، منقوشة بنقش اسلامي أصيل تتماوج فيه الخطوط مع الدوائر عبر خلفية بيضاء لتتقاطع عند ألوان زاهية بنفسجية براقه، كانت المزهرية صغيرة القاعدة ثم تصعد قليلا لتنتفخ بانسيابية هندسية غير مزعجة لتصل لفوهة صغيرة كأنها المبسم الساحر، يشع منها النور ولم توضع بداخلها الزهور. كانت في حضن عجوز جليل فتلقفها منه صاحب اللحية الخفيفة المشذبة ليضعها على حافة طاولة الطعام لتأتي هي وبعصا طويلة وتنكزها مع وسطها لتسقط على الأرض التي ما عادت رخوة وتتحطم لأشلاء تتناثر تحت أقدام المارة.. لم تستيقظ من نومها فلم يكن الحلم حتى مزعجا.



مُوَاءَمَة





غُصْ جوفي لنجعل الدفئ نورا ، أَقبضُ معصمك وأُحيطُ بعنِقك والعين تُبحِرُ في العين.

أتذكّر حبيبي قبل أن أهنأ بقربك سنينَ ظلامي ولحظات عتمتي وخرفشة الخفافيش من حولي في سراديب الكهوف الملتوية حيث كنتُ أعيش. 

كم من صرخةٍ صرختُها وأنا قابعةٌ داخل الوجار، غاضبة آكل من نفسي حطباً لأتقيأه بعد دقائق جمراً يندفنُ رماداً. تتصارع ألواني القانئة وتتقاتل ويُجندل بعضها بعضاً لتمنح الظلام ظلاماً والسواد سواداً .

يحلُ ليلي فلا أنام قليلاً، فلم ينبتْ جفنيّ وأكره الدموع حقاً .
عندما أخبرتُك كم من أختٍ لي ماتت وانطفأت شمعتها من أجل دمعة ، فغرتَ فاك !

أريدُ أن أبكي وأٌحبُ الحياة رغم اللهيب .

كنتُ وحيدةً، لا أرى أبعد من مد يديَ، متكورةً أُصلي من حولي بلهبٍ لأطردهم عني خائفة أن تمتد إلي يدٌ عابثة تعبث بداخلي وتهتك ستري وتُحطم مشاعري التي حتما ستقع .
صرختُ : جوفي خِواء .

الذكريات تُنعشُ الأطباء، فتعال ( عشيري ) نطوف بالشارع قليلاً قبل بزوع الفجر. ما عدتُ أخشى الظلام.

أنت - حبيبي- كنتَ حينها على النقيض تماماً، كنتَ بالقرية المجاورة، كنا نُطلقُ عليكم ( قرية الصقيع ) تعبيرا عن غيضنا عندما تنادوننا ( سكان الظلام ). كنتَ في أيدي الرجال وأحضان النساء والأطفال وتطرد الشياطين. إذا هبط الليل تؤنس المحبين بقليلٍ منك فقط ، وفي النهار تُجلي الحقيقة .

كم أضحك عليكَ إن تذكرتُ لِين عطفك وهشاشة قَدِك وهُيامك بتقليد النساء، لو لم ألحق بك لرحل بك غنجُك من مضارب الرجال وألحقك بمخادع النساء .

ولكن أيضا أتذكر أنك تكره برودة جسدك وتبتغي الرُقي وتحدثُ نفسك: ( لما لا نجمع الآراء الأضداد ونولِّد فكرة جديدة ، سئمنا الاختلاف) .

فُتحت لي أبواب السماء بقدومِ رسالتك وأريجها الفواح وشذا طيبها العطر، تدعو للقرب وتشتهي الوصال .
جرَّتني الأيادي للاجتماع العاقر، تمددتُ على الطاولة للفحص، إنهم لا يكترثون بي، أُحلقُ فتختبئ الرؤوس. لماذا أخذتوني إذن ؟

مِنجلُ الاستحواذ يقتص الزهرة وأقفاص التعسفِ تخنِقُ الفكرة. الرحمة الرحمة .
انزويتُ، هربتُ، حثيثة الخُطى والأنفاس، حضنتك، مكنتك من نفسي، مزجنا الأخلاط بالأمشاج، طلقتُ وحدتي وظلامي، ملكتُ نورك .
مازلتُ في الوجار ولكن أرى أبعدَ من مد يديَّ بكثير.


ِخِيْرَة







بالقرب من غرفةٍ أسرتها بيضاء، منعزلةٌ في نهاية الممر، مضاءة بأنوار خافتة، تحومُ في أركانها رائحة النظافة. كانت ساعات السحر المتأخر تعلن لحظات السكون القابض على الملل.

وحدي يلفني معطفي الأبيض الخانق لخصري النحيل مع تدلي سماعة الأذن المعلقة على رقبتي المندس رأسها بين نهدي النافرين وصوت حذائي المرتفع يقرع بداخلي نغمات الأنوثة الطاغية فأضرب بها الأرض لترتج معها بقية مفاتني.

منذ أُدخل للمستشفى وطيفه يعتصرُ مُخيلتي وكأنه لوحة وضاءة معلقةٌ أمام عيني. يبدو أنني ولجت به عالما آخر، هل هو عالم الحب الذي أسمع به؟ لن أكابر على زماني فقد جعلت مناوبتي ليلا لأجل رؤيته والسهرِ بجانبه، قلبي يسيرني وجسدي يجرني وابتسامته هي دليل قبوله.
هل سأدع قلبي يموت؟ لقد مت أنا منذ زمن وعادت روحي تحلق فوق تلك الغرفة وتدعوني لأرشف من كأسه لذة الخلود، إنني طبيبة! وتعلمت قراءة نبض القلوب، وسأعلم ما يدور في قلبه بالإضافة إلى أنه لا يختلف عن غيره من الرجال ولن يقوى على مبارزة مفاتن جسمي، وسيأخذني من يدي وسيصهل كالحصان ويقبل رقبتي وصدري ويلثم شفتيّ، وسيمنحني ما تاقت له نفسي، سأخرج سيفه من غمده وأغرسه في جسدي لتشهق روحه وأتلوى تحته كثعبان شارف على الموت.

منذ أصبحت أنثى مطلقة ونسيت طعم لذة الرجل الجامح وجُلّ اهتمامي بعملي، منكبة على كتبي وأبحاثي لأرتقي سلم الحياة ناسية أنوثتي تنهشها فئران الأيام. هجرني زوجي فهجرتُ جسدي وغفلتُ عن احتياجاتي المزروعة بداخلي حتى خبت شعلتها وانطفأت نيرانها وبَعُدَ قعرُ مائها. ثم أتت أعاصيره و قشعت الرماد فانكشف جمر مازال مُوقَدا مُشْعَلا فأشعلتْ معها روحاً قد غفت وأنوثةً قرصها برد الشتاء فجعل أطرافها متجمدة بلا إحساس.
سار بي جسدي نحو غرفته مؤكدا لي أنني سأفوز منه ببسمة أو لمسه أو معانقة.

لم أكن مدركة شدة افتتاني بقوة عضلاته وجمال ثغره وتوقد رجولته التي أذاعتها عينيه إلا بعدما عدت لبيتي و ارتمى جسدي على سريري وغشيتني نيران أنوثتي فأيقظتْ معها جموحي الظامئُ للحب والحنان معلنة سيلاناً قد غفلت عنه.

مازال صدري مكتنزاً وخصري ناحلاً لم يأت حملاً ولم تمر به آلآم الولادة والطلق.

سِرُ جسد المرأة لا يعرفه إلا من ذاق حرارة الحرمان من بعد نعماءَ مسته، سِرٌ غامضٌ أُودِع ولا نعلم متى تنفتح قنينته لتملأ الكون نارا تحصدُ ما يقابلها من جفاف فلا شيء قادرٌ على إخماده إلا بداخل تلك الغرفة.
سأتأكد من تبرجي وسأدخل عليه عرينه كلبؤةٍ فتك بها الجوع، وأحطمُ غُروره بلهفةِ أنوثتي ورائحةَ جسدي وبياض ساعديَّ وعنقي ولن أجعل له طريقا للفرار، سأسمح لشيطاني أن يتحدث عني ويخبره عن مجوني ورغباتي ووحدتي وخلاء الممر من الخوف.
رمقته بنظرةٍ وسألتُه عن حاله ووضعتُ كفي على كفه الأيسر وضغطت بإبهامي حتى احمرّ على وريده وأخبرته عن نبضه وكذلك أخبرت قلبي. يا لحرارةِ جسده الفتي ودفئِ نظراتِه وبهاءِ وجهه وانهزامِ صوتُه، أأصابته سِهامي أم أنه يعاني حرمانا أشد من حرماني؟
في عينيه علامات الانهزام وفي جسده آثار الاسترخاء وصوته تحشرج واغتص به. لم يدر في خلدي أن أهزمه من أول جولة! كيف لا وهاهي رايته البيضاء ترتفع معلنة استعداده.

داخلني الخوف ولا أعلم من أين أتى! بحثت عن شيطاني صرخت أناديه يا له من جبان لقد خاب ظني في نفسي عند لحظة انتشاء جسده. وسْوَسْتُ في أذني بأن الاستعجالَ غير مُجدٍ ودائماً الطبخةُ تكون أشهى إن كانت على نارٍ باردة. انسللت من عنده بعد أن أخبرته أنني سأزوره في آخر ساعة من ليل غد لأطمئن على صحته. 

مرت الساعات ثقيلة كأنها أجساد الفيلة تدك على صدري بأقدام الأرق والتفكيرِ في لحظة العناق، هل سأكون تحته سعيدة؟ هل هو قادر على تسديد ديون الليالي العجاف؟ هل سيترك آثار أسنانه تحت أذني؟ هل سيصيبني بالتورم في صدري؟  أسئلة كثيرة تعصف بأنثى متقدة ترتجي النوم الحقير.

اغتسلت وأزلتُ بضع شعراتٍ بزغت من مناطق عفتي وصففت جدائلي وتجملت، سكبتُ ما تحويه أدراجي من عطوراتٍ تُذيبُ الحجر برائحتها الفواحة. وصلتُ لذات الممر ولهفتي تسبقُني وخلعتُ ملابسي الصغيرة التي لا أحتاج إليها وارتديتُ معطفي الأبيض وسارت بي أقدامي تسابق الوقت والممرُ شاهدا على غنجي وفرحتي وكأنه يريد أن ينطبق ليحتضنني ويفوز بجسدي ويهدأ من تموجات أردافي.

طرقتُ البابَ ولم أنتظر الإجابة، فها هو أمامي واقفٌ في أشد عنفوانه يتهيأ لبدأ معركةٍ مع أنثى أتته طائعة لتذيقه جسدها الساخن على طبقٍ من الرغبة والرضوخ. سآتيه من خلفِه لأحضن هذا الجسد المثير، أُدخل ذراعي من تحتِ إبطيه وأضمه لصدري واستنشق رائحة فحولته العبقة، أمسكتُ صدرَه فاشتعلتْ نيراني وسالت أنهاري وأسندت أذني بين كتفيه لأشعر به يصدني و يقول: ( إني أخاف الله رب العالمين).

منعطف .




(1)
على كرسي من السنديان الناعم ، أشرب الشاي المُحلى وأنظر للمارة في أحد شوارع العمر . تتقافز أمامي بعض الكرات العتيقة ، ملونة بألوان السماء وألوان جذور الشجر .
وصلت للدرجة الثامنة عشرة من السلم الخشبي الذي (يطقطق) مع كل خطوة أخطوها . كانت من أضخم الدرجات حتى أني أرى فيها حديقة غناء ذات أوراق وأغصان ذات شجون وبيت خشبي التهمته النيران .
في أحد أركان الحديقة خبأت ( آلة المزمار ) وفي الناحية الأخرى رسائل الحب في دفترٍ أزرق صغير . أهوى الإمساك بأعنة الدجاج متخيلاً نفسي أرخي خطامها لتحلق بي بأقصى سرعة . قد كنت محظوظاً فلا أحد في عمري يملك الدجاج ولو كان خيالاً.

(2)
يا لعظمة هذه المباني ...
لم أرى في حياتي غرفة ذات سقفٍ يرتفع خمسين متراً.
سأجرب الصراخ ..
وادي سحيق يحوي مقاعد وطاولات لكتابة الأرقام عليها ومطعم وبعض الأرانب .
هناك أرنب مسالم . وآخر كاشف الرأس ، وأنا ألبس العمامة وأدخن .
أُقحمتُ في حلبة النزال ، وفزت في الجولة الثامنة وكانت المكافئة ( سيجارة ) .

(3)
اكترينا حظيرة مفروشة بحصى أبيض حاد الرؤوس يُطلقُ شرارا عند احتكاكه.

(4)
تشققت لي السماء وهطلت قطرات خفيفة ، جمعتها في إناء وامتطيت غزالة لا يوجد في كبدها المسك . فالرجل صاحب الشارب العريض كان يقول: لا خير في غزالةٍ تُلهيك بمسكها .

(5)
الطريق كان مليئا بالأشجار المورقة التي تُسقى بمياه الصرف الصحي ولكن لجهلي لم أعلم أنها مياه غير صالحةٍ للشرب ، فالماء عندي هو الماء، ما ينزل من السماء وما يصعد في الأشجار . رأيت إحداهن منزوية حزينة، ذهبت لأحتضنها فذابت كالثلج بين كفوف ملتهبة ، احتضنت أخرى فغاصت في الأرض وكأن لم تكن ، غمزتُ للأخيرة فأدارت غصونها بابتسامة خجولة في ثغرٍ أحمر يخفي اللؤلؤ وبقيت معي ، ولكنها كانت شجرةً عاقر .
الأشجار تغيرت وأصبحت كالحرباء ، تزحف وتُغير لونها وتسقي السم للأفاعي وتتحدث أحيانا بعد منتصف الليل .
لم تعد تتشقق السماء ويبدو أنني تغيرت عليها. استبدلت الصخور بالسماء ، فالحفر في الصخر أسهل من انتظار القطرات التي يفوز بها دائماً الأكثر طولاً .
وفجأة وثب أمامي رجل دميم أسود ، ملتفٌ حول نفسه ، جسده مليء بالبراغيث، وتتدحرج الكلمات من شفتيه كالصخر اسمعُ صوت دحرجتها وهي تحطم الجدران وتُكسر الزجاج . يلفني ظهرا كسيجارة ويضعني بين شفتيه ويدخن. كانت رائحتي كريهة ولكنه ورغم حرارة الشمس كان يدخن. لم يطفئني تحت قدمه بل كان يزجُ بي في زنزانةً تحت الأرض مجاورة لغرفة الصرف الصحي .
كان هذا الدميم يُلقنني كيف أكون كلباً مُطيعاً.

(6)
ما زلت بالرغم من (طقطقة) السلم أحفر الصخور فقد زارني أبي ليلة البارحة وقال: بداخل إحدى الصخور ستجد ( إبريق الجن والعفاريت ) الذي سيجعلك تآكل الذهب وتشرب الزئبق .
لم أعد أثق حتى بأبي ... فلا وجود للجن والعفاريت عوضاً عن أن يكون لهم إبريق . فقد أكلت الهواء وشربته .

(7)
لم يعد الطريق مليئا بالأشجار أو أنني لم أعد أراها ، يجب أن لا أشغل تفكيري باختفاء الأشجار ، فنخيل العراق قد أُجتثت من جذورها ، والقانون السماوي أصبح يافطةً تُعلق في الشوارع يقرأها العملاق وتنبح تحتها الكلاب .

(8)
سأتسلق جبال الحجاز، أو سأحفر بداخلها ,, ولكنها أصلب من تلك الصخور والحكومة قد صبت عليها الرصاص .
إذن سأكتفي بالسير في الوادي فلكل وادي في نهايته مصبٌ في البحر .
وهذا وادي من الوديان .
سأصل وسأشرب البحر . ليتني من العمالقة أو أخدمُ عند العمالقة ، لكان البحر تحت قدميّ يتودد بأمواجه فاضربه بالعصا فينفلقْ واضربه أخرى فيُغرق جبال الحجاز .
توقفتْ قفزات تلك الكرات العتيقة على وخزات ذلك النادل الذي أجبرني على دفع ثمن كوب الشاي البارد..