مُسِنَّةٌ غير مرحبٍ بها






مُسِنَّةٌ غير مرحبٍ بها

قبيل مساءِ يوم حار، كانت مدينة "الدمام" تلف سكانها تحت رطوبة إبطها الخانقة، وعند محطة توقف الحافلات، ينتظر البسطاء من أصحاب الأعمال حافلتهم اليومية تُقلهم إلى مخادع نومهم.
يجلس "كتاب" كذلك يتأمل واقعه، معاناةٌ حامضة ترجُّ جسده النحيل، وصداعٌ يُفتتُ رأسه، يستشري طعم الليمون على لسانه، وتهرب الابتسامة منه كما يهرب الناس، استقلَّ تأثيره على واقع متسارع محموم بحمى المال، تخرج أمام ناظريه مشاهد ماضيه الزاهر وأصداء كلمته المسموعة وسلطانه القوي.
تقف الحافلة متأوهةً متألمة، تقطر عجلاتها عرقا، وتتمنى لو خرج هواء روحها لعل ارتخاءها يُعجل براحتها من حمل هذه الأكوام المتكدسة من البشر.
يُصارعُ "كتاب" للحافلة متمتماً "لم أعد أقوى الوقوف، ولن أصل لبيتي واقفا بين هذه الأرتال". كأنه حطّ من المشتري ارتمى بجسده بجانب ابنة عمه المُسِنَّة الوافدة منذ أيام من بلاد الغُربة ليصدر صوت ارتطامه صوتاً ضحِك منه فقط راكب واحد. أراد مُصافحة قريبته فما غاب عن أنفه رائحةَ الهمِ التي تفوح من جسدها فأثار في نفسه الشفقة والوفاء ليسأل عن حالها.
صديقتي "سينما" ما هذا الشحوب؟ يبدو أنك متعبة أليس كذلك؟
-         الجسد يا ابن العم في راحة، والروح في عناء، ولكن دعك من المراوغة يا شقي، فلا تستطيع أن تخفي أنتَ مظاهر النكد والإعياء تحت هذه الوجه المتلبد بالسواد.
-         أنا كتاب، وكتابٌ مفتوح، وهذه شقوتي، فحالي لا يخفى عنك، فما أزال ميتا بين الأحياء، رحلَ مجدي، وأفَلَت شمسي، مُقسِمة ألا تُشرق، فاستمرَ ليلي من غير انبلاج.
أمسكت "سينما" بأطراف أصابعها رأسَها وأغمضت عينيها كمن أرادت خلع الواقع كُله،،
-         يبدو أن ليلك يا "كتاب" أكثر صفاء من ليلي، ولكنه ليلٌ في كل حالاته. تأكلني الحسرة وينهش لحمي طول الطريق وعناء المُهمة، وصلت إلى هذه المدينة ولم أجد عملا كما أملت.
-         ولكنكِ لستِ المُلامة، فهناك جَشِعٌ ومُفسِد.
نظرت "سينما" عبر النافذة، تتمنى لو تهرب إلى حيث يقع بصرها، ولكن صوت هدير "كتاب" لم يجد في نفسها صرخةً تردعه.
-         عزيزتي، تراكم المشكلات مشكلة، والشجاعة في تقديمِ البديل، وفعلُ الاتفاق بيننا أنفع لنا.
أحست "سينما" بأن هناك وحيٌ جديد، وسحابة مُثقلة بالخيرات وراء ذلك الوجه الكالح، فنطقت عيناها بحبُ المزيد. و"كتاب" بشقاوته لا يجهل حديث العيون.
-         ألستِ عند العامة أكثر ظهورا وأقوى بيانا مما يُنقش بداخلي؟ ألستِ تمتلكين قُدرة الإبلاغ بجمال وجهك وحسن صوتك وبهاء ألوانك؟
ثم أراد أن يُلقي ورقة الإقناع بعدما لاحظ اقتراب جسدها منه بأن اقترب منها يهمس:
-         ثم لا تنسيْ كسلَ هؤلاء وشغفهم بالسرعة والاستعجال، ثم أن قليلا منهم من يُقلب صفحاتي ويفارق أحضانك!
-         نعم..
-         إذن عودي فالعود أحمد، ولكن أنصتي للخطة، اخلعي عنكِ عُهر أصلك، وثقافتك المستوردة، ارتدِي من ثيابهم وتحدثي عن آلامهم واشربي من مائهم، انبثقي كنبعٍ أصيل من بين جبالهم، يحمل طعم الأرض وأصالة الجذور. لا أخفيك عزيزتي فقد عاشرتُ هؤلاء القوم، هم يحلمون بصوت لهم يُسمع وصورة تُجلِي حقيقتهم وسط أدغال الحاضر، كوني لهم عونا على إبداع منهج خاصٍ بهم، اقتربي مني،،، هم مقتنعون بعدم جدوى عملك بينهم وأنتِ تمثلين ثقافة غير ما اعتادوا عليه، ثم أنك بذلك كمن تقوقع في قوقعة ويخشى الخروج.
-         وأنتْ، ماذا عنك، وماذا تقصدُ بأن الاتفاق بيننا أنفعُ لنا، وأنتَ بوتقة الثقافة ومدارها المُستحكِم؟
-         أنا ابن بيئة هؤلاء القوم، ظاهرٌ مِن حُرِّ مجتمعهم، ولكن القافلة رحلت وأنا نائم، سأفتح لك صفحاتي فانهلي منها ما راق لكِ. تُراثي، قصصي، حكاياتي، رواياتي، حِكمي التي نقشوها بأصابع الزمن. تعلمين أنِّي لم أحصل على جواز سفر لتخطي الحدود، فقط بكِ أُصبحُ نورسا يُحلق، وروحا تُحركُ العقول، فأزرعُ بكِ بذور أشجار الفضيلةِ شتاءً وأحصدها صيفاً.. ما رأيك؟

عادت "سينما" تنظر للخارج وكان الليل قد ازدادت ظُلمته، وتفَشى مرض الخوفِ بداخلها، فصَلَّت ألا يكون مستقبلها كذلك. حيثُ حمى الجدال تكون الطاغية، وحيث الشعور الصاعق بالضياع. 

شكرا ياسر ..







تلقيتُ دعوةً كريمةً للمشاركة بجُهدِ المُقلِ في صحيفة إخبارية حائل، فكانت عندي ثمينة غالية، فيَّاحة فيَّاضة، جوادة سخية، بين طياتها شرف الداعي وأصالة الراغِب، فوقعت مني كما يقع الماءُ من ذي الغُلة الصادي.
وقد قالوا: من أكرَمك بالداعي فأكرمه بالوصل، ولا وصل عندي يوازي شرف الداعي إلا الوصل المحض وشدّ حبال عُرى الإنعامِ بعُرى المنح.
وما أنا إلا طالبُ قبولٍ وخاطبُ أُلفةٍ برَحلٍ قليل من حروف، وزادٍ زهيد يخرجُ من قلم، فالأماني أن يجد هنا متسعاً وفي أعينكم إعجابا، وبداخل أفئدتكم رضا وبيانا.
يُقال من ابتغى هدفا حتما سيصل، ومن عرف الطريق أدلج، ومن أدلج بلغ، ومتى ما كان الهدف سامي المقصد، عالي الرُتبة، كان أقوى أثراً وأوضح حُجة وأوقرُ في القلوب والأبصار.
وهنا بإذن الله ستكون الحروف كريمةً ككرم حائل، واسعةَ الصدر من غير حائل، بطبعٍ يتْفِقُ دون لونٍ حائل، وكما أخبرني الداعي فأسبوع والِد وأسبوع حائِل، والمُراد ردُّ جميلٍ لأهل حائل.
وعلى هذا المنبر نبتغي الأمانة سراجَا, والصدق منجاةً، فنحْذق أماكن الزلل، ونُبصر عثرات الطريق، فنُزيحها بهمة التعاون ونُجليها لخدمة البشر، بالمِعولِ الناعم والقلم المُبين. فاصبروا على كِظَّتنا واحتملوا ثِقَلنا، والأيام تُولِدُ التآلف. ولن أنتهي حتى يبلغَ الشُكر للأستاذ ياسر، على ثقته التي أدعو الله أن لا أُخِيب ظنه فيما ظنه بي، فمن ظن بك حسنا فتيقن به حسناً. فالشكر لك أبا عمار متَتابعاً يَتْرَى، فيه من المِسك نَفحاً وعِطرا. 

تذكرةٌ لحامل قلم






تَذكرةٌ لحاملِ قلم

رأيتُ مُصطفى الأدبِ، صادقَ البيان، رافعَ العربيةِ، الأديب "مصطفى صادق الرافعي" فيما يرى الرائي فإذ به رجلٌ مُقذَّذ، على عرش مُدجَّل، في بيتٍ مُنجَّد، على نهرٍ قد استنهر، وفي مُستقرٍ قد استبحر، يلتقط الحرفَ فيغدو كالكوكبِ الوضّاء ويعلو بالمعنى فلا يتململ بل يستقر في مكامنِ النفوس، فنظرَ إليّ بعين الناصح وقال:
إن من عادتي أيا بُني وأنا أكتبُ الفصولَ أن أدعَ الفصل منها يتقلبُ بالخاطر في ذهني أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس وأترك أمره للقوة التي في نفسي فتتولد المعاني من كل ما أرى وما أقرأ وتنثال من هُنا وهُنا ويكون الكلام كأنه شيءٌ حي أُريدَ له الوجودُ فوُجِد. ثم أكتبُ نهار الجمعة ومن ورائه السبت وليل الأحد كالمدَد من وراء الجيش ثم أبعثُها وتُنشر للقراءِ يوم الإثنين.
فقالت نفسي: ومن أجل هذا حقاً أنت أديبُ العربية وما أنت في جَهدك حتى تُعمل في سبكِ المعاني فتنبثق السبيكةُ من بين خاطرك وفؤادك وفكرك حتى يرتَشفها قلمُك من مِحبرةٍ يكاد سنا برقها أن يذهب بالأبصار.
وارتفع الرافعي مترفِّعاً فوق القمم ثم برزَ من بين الحشائش "أنيسُ بن منصور" ضاحكا مستبشرا بعد أن سمِع دُرَّ الحديث يقول: أما أنا فأكتب كُل صباح مع بزغة طفل ذاك الصباح، فأضع رأسي، ينسكبُ ما فيه حتى تغدو البيضاء الخاوية مزركشةً بالسوادِ المُوَشَّى، فيها ما يريحُ فكري وصدري ثم أبعثها في ذات اللحظة فتكون بجهدٍ قليل ووقت مستمر.
فجال في خاطري أن نعم وهي كذلك تأتي كالوجبة السريعة، طيبة المذاق سهلة الهضم تُوجبُ التخمة قليلة الفائدة. ثم سَرت عني ظُلمة الكّرى، وداعبت أصابعُ اليقظة أجفانَ النوم، فما بين صحوةٍ وغفلة، حتى سمعتُ الشاعر العباسي "مسلم بن الوليد" يقول لأبي العتاهية: والله لو كنتُ أرضى أن أقول مثل قولك:
الحمدُ والنعمة لك          والمُلك لا شريك لك
لبيك إن المُلك لك
لقلتُ في اليومِ عشرة آلاف بيت، ولكني أقول:
موفٍ على مُهجٍ، في يومِ ذي رَهَجِ      كأنه أجلٌ يسعى إلى أملِ.

نعم أعزائي، ما هي إلا كذلك فشتان ما بين الأمانة والهواية، فالأولى حملُ راية وقيادة أمة وكشف ظُلمة والأخرى للمتعة واستمطار النوم من سحائب الأرق، بل الأُولى ورق وردةِ "الأُوركيد" تفتَّقت عن عبقٍ لو اختار العبق أن يكون له اسماً ما اختار غير اسمها، والأخرى نبتة لاحمة تكون أفخاخا حمراء زاهية تفتَّقت فكانت لاصطياد الحشرات. فالخيارُ لك فُكن جاهدا لنفسك ومُتعبها تنل مجداً سائرا في القوم، أو كُن فقاعة صابون تعلو بالنفخ بين أوداجها ويثيرها التصفيق ثم ما تعدو أن تنحبس وتنفجر وتختفي عن الوجود كأن لم تكُن.

رسالة إلى وزيرنا الطريفي





إلى وزير الإعلام "عادل الطريفي" :

لا أخفيك فأنا عيِيٌّ في سبك سبائك التهاني والمُباركات، وفي تقليد قلائد المدح والثناء السابقةِ لأوانها، فمنك العذر فهذا جُهد المُقل، فلا في الصمتِ نقصٌ لكامل، ولا في الثناء زيادة لناقص، فخذها حوراء حنونة، ناصعة مُشرقة كفلقِ الصبحِ الوضّاح وكعين الشمس لا يسترها غربال.
كما لا أخفيك أنّي قد زورت حديثا في نفسي ثم آثرت محوه عن نشره، وجعلته تحت الصفيح لسذاجته وسقْطه، ولعلمي أنك عليمٌ بما قد كنتُ أضمرت، فمن مثلبةِ الكمال ترديد ما قيل وتكرار ما أصداؤه تُتناولُ من فمٍ إلى أذن مع تعاقب الساعات والأيام.
ما أرانا نقول إلا مُعارا                         أو معادا من لفظنا مكرورا .
فذاك السترُ وهنا الإبانة، فصحافتُنا عليلة، فرائصها ترتعشُ آناء الليل، وريقها يجفُّ في الغدو والأصيل، شفاهنا مُغلقة، عليها حرسٌ وحُفَّاظ، يسمحون وينزعون، عقولنا تُضرب بالسياط وتُنَصَّبُ في دهاليز الظلام، أقلامنا مكسورة وأوراقنا مُجدِبة، والطُرق حصباؤها الجمر تُفضي إلى خَلاء.
يتنادى القوم بسقف الحرية الصحفية بأحاديث نسمعها أحلاما ما بين هاجعٍ وهاجد، نطردها سرابا ما بين لاهثٍ وناصِب، شعارات تُرفع مُخرَّقة بِخرقِ التزييف والخديعة.
لك أنتَ أن تستحيل بها رايةً خفاقة، ودروبا سوية متزنة، عالية عن السفسفة والسفسطة، بل نقية نقَّادة بنّاءة، لك أنت أن تسمح للحق بمزاحمة الباطل وللباطل بمناكفة الحق، دعها حلبةً أدبية فكرية، كلٌ يُدلي بدلوه ويضربُ بقدحه، من مُنطلقٍ إنساني واحترامٍ ذاتي وكشفا لما في الفكرة من نور، من غير تجريح لشخص أو سبٍ لذات بل بيانا يسمو بالذائقة ومعنى تتحرك به العقول، اجعلها ميدانا تُجندلُ الفكرةُ الفكرة، ويُسقطُ الحرفُ الحرفَ.
فَكُن من الناس كالميزان معتدلاً       ولا تقولن ذا عمي وذا خالي .
مجتمعنا زاخرٌ كالبحرِ في أعماقه، أقلامٌ فيَّاضة، عقول وضَّاحة، ألسنٌ سوية، أقعدها الرقيبُ، وعقَد أجنحتها التأويل، وطوى أقدامها الحذرُ والتحليل.
عبقرية الحرفِ لا تكون في رسمِ الطريق للأفكار، وتقريرِ حدودها بالحدود، بل في إرسالها على وحدةٍ من التسديد تستقر به في النفوس البشرية، فضاءُ القلمِ فضاء، وسماؤه سماء، لا تحده إلا حدود النَّيِل والتقريع، فاجعله في عهدك يسمو ويُحلق، ويعلو ويُنافس، ويجولُ ويناقش، إن كّتب فاللؤلؤ وإن محا فالحكمة. القلمُ المبين يكون للصحيفة منارةً لا مصباحا، ودُرة لا خرزة، وتاجا على ناصيتها لا حذاء تسير به. فنصف التمويه رذيلة والنصف الآخر نقيصة.

وفقك الله للخير.

فاحِّص







بما أننا نسبحُ مجبرين في نظام يتقنُ انتاج البرامج التي تأتي مصادفةً بمسميات على وزن (فاعل)، فلا ضير إن أضفنا واحدا على الأربعة الموجودة إن كانت فعلا أربعة فقط، فأنا قليل الاطلاع على البرامج الحكومية الفاعِلة.
ما سأقترحه سأطلق عليه برنامج (فاحص)، إنه اسمٌ جميل أليس كذلك؟ فمن الواضح ألَّا علاقة له بالمال والجِباية ولا بمحافظِ نقود المساكين.
"فاحصٌ" هذا يستهدفُ كُل ماله علاقة بالكتابة الصحفية، فإن أثبت جدارته وفاعليته فلا مانع عندي من بيع براءة اختراعه لدور النشر والطباعة، وإن أراد موقع "تويتر" أن يُخضع محتواه العربي لسُلطته ونظامه فلا ضير في ذلك والأجر على الله.
"فاحصٌ" هذا مُلمٌ بكل علوم اللغة العربية –التي قبل أيامٍ تشدَّقنا وتفاخرنا بيومها العالمي الذي لا نعلم عنها إلا به– وبكل أقسامها وتصنيفاتها، فيكون جهاز مرورٍ للنحو والإعراب والبلاغة والبيان والبديع وغيرها، وما على الكاتب المُحترم إلا أن يبدأ الكتابة حتى يقول له "فاحص": هل تقصد هذا...؟ أرأيتم لم أسلبْ منكم ضحكةً ولا مالاً! فقط نريد بيانا وتبييناً!
لا شك سنعاني في البداية من خللٍ في "فاحص" لما سيعانيه من شدة الضغط من جراء كثرة التصويب والتعديل وطرح أسئلة "ماذا تقصد؟" والإنباءِ بنبأ الكلمة المحجوبة لظروف أمنية، أو التي تُشطب فورا لمساسها بما لا يجب المساس به، وهكذا دواليك حتى يُصبح عادة وتقليدا متبع. ولكن من الفوائد المجتناه من بين أفنان تعقيداته المتداخلة أن تزداد نفوسنا وقلوبنا وعقولنا صقلا وقدرة على التذوق وعزلا لنداءات الوقاحة التي تُطالبُ بالانخفاض لمستوى الأدنى والأكثر رواجاً، وعزل السُّخف الذي ينحلّ صديده من العقول.

"فاحصٌ" هذا لن يُدشَّن رسمياً ولن يُحتفى به، ولكن لنُدشنه نحن في ذواتنا وعلى ألستنا، نرتَضعُ منه مادة نبني بها العقل والنفس، فما من لغة يُسفهها أهلها إلا كانوا أهل طيشٍ وهوى، وما من أحدٍ ينتقدها إلا لما حاك في صدره من صعوبةِ ارتقائه لسُلمها لجهالة تعتريه وهوى يستهويه فبنى دونها حاجزا فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً. فلنُلقي بهم وبعاميتهم خلف أظهرنا و لنُثبِّت "فاحصا" بنسخته الكاملة التي تقبل التحديث التلقائي ومن دون أدنى معاناة وسنفرح لاشك بالنتائج.

هيَّاب .





أقفُ على جبلٍ رقيقٍ مشدودٍ بين الحقيقة والزيف..
حقيقةٌ هاوية.. وزيفٌ مُهلك...
لحظاتٌ خاوية.. وفِكْرٌ مُمْسِك...
العقول تحت قِحَف الجماجمٍ حالِمة...
فإذا انشطر الجسدُ فالروح دائما مُستحكِمة...
جراحُ الضميرِ ومالحُ الذكريات المؤلمة..
خياراتٌ شائكة، ولن تُشاركني الحصباءُ دماءَ أرجلٍ حافية.
....................

حروفٌ ذات قروح .






بداخل صندوق مضلع

واسعٌ تجري فيه الجبال
ضيقٌ لا يحتمل نسمة الهواء

رقيقٌ يَشِفُّ عن بعضه
غليظٌ مُتَقرح ككعب راعي بدوي

في سماديرِ سكرةٍ
أم صحوةِ مُتنبه؟
على تلك الأرض تُقِلُّنا
خطواتٌ تجرنا
تحت ليل بهيمٍ يُظلنا
-
تائهٌ حائر
في بادية يلفها سراب
سرابٌ من أمل
عند كثبان من رمال
رمالٌ من خَيبة
-
كنت قد ابتُليتُ بلدغةٍ
فما هلكتُ، وما برئت
أحثُ السير فتتعثرُ الخُطى
أنتشل الخطوة فيذروا الغبارَ ريحٌ
ريحٌ فيَّأها هجرٌ
هجرٌ أثار كُل تِلك الزوبعة
أُحيلُ عن عيني
أرى الظلامَ نوراً
أُحدقُ، فإذا النور ما هو إلا مسمارٌ مسمومٌ تّدُقه مطرقةٌ بانتقامِ صليبي
أكوي هذا القرَحَ المُمِدَّ
بكلماتٍ كانت من الماضي
كانت
تُدفئ الضجيع، وتُشبعُ الرضيع
-
لن أجد إلا هذا الثرى الجعدَ الذي لا أثر فيه لنجاة أو خسارة
أو ربما في تلك الحواشي الحَرَجَة مُظلمة الجوانب
-
سأبقى في ذات الصندوق المضلع
الواسع الضيق
ستفتقدني
ويردها إليَّ جورُه
تبحثُ عن حياتها بعيدا عن رُفات روحه
ويردُها إليَّ عدلي
تبحثُ عن حياتها قريبا من حُطام قلبي
ستبحث عني
في كل مكان
ماعدا مكان!
هو ذات المكان عند كثبانِ الرمال

في البادية التي يلفها سراب
سرابٌ من أمل
ورمالٌ من خيبة . 

إنعاش المُحتضِر .






هل من المقدسات العقدية أن نقبعَ على كرسي التعليم لمدة يجب أن تكون اثنتي عشرة سنة؟ ثم هل المُخرجات التعليمية الحالية تعطي دليلا على فاعلية تلك السنوات الطويلة؟ وهل ما حازه الطالب من معرفةٍ وعلم بذي عمق وفائدة توازي بها تلك المدة من السنوات؟
أعتقد أننا سنتفق على هزالة وضحالة ما يجنيه الطالب في مراحل تعليمه العام فهو لا يعدو أن يُلِم بقليلٍ من المعرفةً بالقراءة بلسان أعجمي أو ببعض الحساب باستخدام الآلة الحاسبة أو حفظٍ لتاريخٍ غير مُدقَقٍ أو معرفة بتضاريس شرق اسيا وصادرات دول حوض البحر المتوسط.
البيت التعليمي لا يحتاج لترميمٍ هش، ولا إلى اجتهاداتٍ مُخجلة، أو مشاريع من غير هدف واضح. بل يحتاجُ إلى ثورةٍ عارمة وزلزالٍ يقضُ البنيان كاملا فيخر على الأرضِ رُكاماً بعد هرمه وهشاشةِ عظمِه عن مقاومة متطلبات العصر. ثم بعد ذلك نرفعُ الأسسَ من جديدٍ ونبني الأركان ونقيم ثقافة حية وعلما نسمو به الأمم.
العلمُ يكون بالتدرج دون الوصول إلى درجةٍ من البطء المُمل الخانق، فلماذا لا يقصُر التعليمُ العام مراحلَه إلى تسع سنوات؟ وهي كافية وأكثر, ولا يدركها إلا من لمس ظلام وتكرار مناهج التعليم.
تسعُ سنواتٍ ينصبُ فيها الإفهام في مسالك شتى من أبواب الفن والعلم والتعلم ثم نرتقي بعد ذلك إلى المرحلة الجامعية التخصصية لنقطف ثمار العلم ونُحصل الفائدة. وتضاف السنوات الثلاث المُقتطعَة إلى مراحل التعليم العالي فهي أقدر وأكمل على الغوص بالمُتعلم في عمق التخصص الذي يختاره. وبذلك تكون المرحلة الجامعية المُقترحة أكثر من الحالية بثلاث سنوات ولا مانع من اختصارها هي أيضاً.

في الجامعة تكون المسؤولية أكبر والهمة أعلى والثقة بالنفس أكبر وهذه من أهم العوامل المساعدة على إنجاح التعليم. المساحة أضيق من أن نأخذ بكل التفاصيل ولكن أرى أنها تستحق التفكير.

مُكاشفة.






اقتحم عليّ مكتبي شيطانٌ شرِبَ كأس الغضب وزرط شوك الغرور، فانتفخ حتى سد الباب وأحكم بناءه ولم يبقى من الحائط إلا بناءً مصمتا لا باب له.
جلس مستوفزا على جمر الغضى، متهيأ كذئب الغضى، وبه من الغيض ما يشد به حبلا من مكانه إلى أبواب جهنم.
سألتُه ما بك يا رجل؟ قال: يعيرونّي بما لست من أهله! ويقحمونّي في دروبٍ لم أسلكها، ويقذفون سمعي بأقذع الوصف وأقبح النعت. ثم أجرى لسانَه مجرى السيل الهادر وقال:
نحنُ مجتمع محافظ نعتز بالقيمة العالية والراية المرفرفة، لم يقع الذباب على طعامنا ولم تصبْنا الأوبئة، خُلقنا منزهين عن كل درن، مبرئين من كل عيب.
صحيح أن المخدرات كالنار في شبابنا مثلها في الهشيم ولكننا مجتمع مُحافظ. صحيح أن السجون غَصت بالمجرمين المغتصبين، يُسليهم القليلُ من المظلومين ولكننا مُجتمع محافظ.
صحيح أن ليالينا تتناوش فيها حمرةُ الشفاه مع حمرة الكؤوس فتصطبغ بالأحمر القاني عن السواد الكئيب ولكننا مُجتمع مُحافظ. صحيح أننا لا نُدرك من الصلاة إلا قفزاتها وحركاتها، ولا نحفظ من الدين إلا تعريفاته، ولكننا مُجتمع محافظ.
صحيح أن شبابنا يقلد الشرنقة في لباسه حتى تصرخ أعطافُ الجسد فيتمايل كأغصان الحنظلة، ولكننا مجتمع مُحافظ. صحيح أن بناتنا يحملنّ من الأنوثة ما يُثقِلهن من اللحم والمعاني في أعين الناظرين لهن فقط، ولكننا مُجتمع محافظ.
صحيح أننا نحتقر الغريب ونستهزئ بالفقير ونركُلُ العجوز ونخنق المسكين ولكننا مجتمع محافظ.

تنبه فجأة كما لو برقَ برقٌ وضرب دماغه ثم أطرق وقال في حشرجة المتألم: والهفاه، مجتمع محافظ اغتر بضخامة اللفظ فلم يُقدِّر ما فيه من انحلال واضمحلال للواقع.


خفايا الروح من بعد البُعاد.








بين جوانح الصدر لهفةٌ ولوعةٌ واشتياق من أثر نوازل الأيام، ومُكابدة القهر والآلام.
فما الحب إن لم يكن لذة يغمرها وجع؟
وشهية يناكفها امتناع؟
ومُتعة يُنغصها أنفه؟
ولهفة يُعارضها إعراض؟
ولوعة يضايقها مجافاة؟
أو شوقٌ يُكابر عليه حبيب؟
كلها تُعمِلُ في القلب كما تُعمل المَعاول في الأحجار الصم حتى نسمع لها صليلاً وزجلاً.
بل ما الحب من غير حنين، وما حنينٌ من غير ضياع، وما ضياع من غير فتاة قضى عليها القدر بمكانٍ ناءٍ بعيد.
حنينٌ يصحبه أنين، وأنينٌ بكفه مباعض الجراحة،
يجرح، يُدمي، يستثير أمطار العيون.
يُمازجه عزلةٌ عن البشر عسى أن يكون حاجزاً عن إزعاج البشر.
هي كذلك الأيام عندما تمضغُ بأضراسها أوقات التزاور من أطباق الحُبِ ثم تتلمظ وتلوك أقداراً كُتبت ثم تتمطق بلسانها بعد أن لذَّ لها المذاق الذي نحاول معه الامتناع والإحجام فيذهب جهدنا مع رياح تلك الأيام، التي تُقابلنا بظهرها وتلتفت لنا وهي تُرْمِزُ بحاجبيها عجبا وسخريةً وتهكماً.
هو الحنين المُلقى على فراش الموت يرتجي نوالاً من محبٍ ولو كان قميصا مُوشىً برائحة حُبٍ كان ينتشي بها لحظات العناق.
كُنا وكان ثم مازلنا وزال.
بتنا وبات حتى بِنَّا وما بان.
أُواه هل من تلاقي يهبُّ من تحت أطباق رمسهِ ينبعثُ ينفضُ عن أكفانه تراب الوداع والانفصال.
أُواه هل من حبالِ وصلٍ تصل ما انْبَّت وانقطع.
أُواه هل من ترياقٍ يُصَبُ في أوردة المُتلهف المُشتاق الوالهِ من ريقِ ذاك البعيد.
أُواه منك أيا ذاك البعيد.

أيا ذاك البعيد......

محاورة شيطان







زجرني شيطاني ذات صباح ووسوس في فؤادي متهكما بعد أن فتحتُ غطاء قلمي لأسجع سجع الكهان وأرسم نمنمة الكتابة قائلاً: سأسألك فحدْثني بالبيانِ ولا تحاورني بالألغاز كعادتك القبيحة، أين ترجو من هذا الطريق؟ تبحثُ عن قلم لتُدميه، وورقة لتشوه بياضها الناصع! ألا تأخذ عبرةً ممن سبقوك؟ وهم فيما كانوا فيه أعظمُ منك خيالا وأبينُ بلاغة وأطول قلماً وأعرض قرطاساً! يرشفون من النيل وينبوعك جاف، بمغاريف تحجب أفق السماء وأنت بملاعق الحليب، أخبْرني ماذا أراد الجاحظ من بيانه؟ قلت: هي الفضيلة. قال: والتوحيدي من إمتاعه ومؤانسته؟ قلت: الفضيلة كذلك؟ قال: وصاحب العبرات والنظرات؟ قلت: أيضا أراد الفضيلة. قال: ها قد أقررت ببلاهتك وضيق فكرك، ولكن أخبرني كيف هو مجتمعك بعد نشر تلك الفضائل والانهماكِ في تحبيرها وتعبيرها؟ قلت: الفضلاء عندنا ثُلة ومخالفوهم كَثرة، قال بصوته الخشن: فلماذا –يا معاشر الكُتاب- تُهرقون أحباركم بهرولة أقلامك لنيل مالم يناله من كان قبلكم وهو أجود منكم؟ ثم نهرني وقال: سبقك الأولون فاقعدْ، فلن تزيد في ماء النهر نُقطة، ولن ينقص منه بغيابك قطرة, فلو أن الشمس أرادت أن تُشرق لأشرقت منذ زمن، وما تخطونه هو نفس ما أملاه الأولون في كتبهم ورسائلهم، فلم ينهضوا بمجتمع لسؤدد ولا أقاموا للحق قائمة.
 قلت له: يا جاهلا بالحق قد عرفناك، ويا ناشرا للشر قد مقتناك، والله ما سألتَ إلا مسألةَ الحمقى، فمنك فِطنة لطيفة يخامرها غباءٌ عجيب، فأخبرني أنت كم من طبيب عرفته على مدار السنين والقرون؟ قال: كظلام الليل ونجوم السماء، قلت: فلماذا هي الأمراض باقية والعدوى منتشرة؟ إن أجبناك بمنطوقك الأبله فيجب على الأطباء أن يتوقفوا عن العلاج، فدواءهم عبث وأبحاثهم جهل وسفسطة، أرأيت كم هو قِصرُ نظرك وعظيم عِنادك. أعرفُ أن المطلب أكبر منك، والهدف أعظم من أن تراه، فإن كان الجندي يحمل السلاح، والطبيب يبحث عن الدواء للداء، فلكل رجل سلاحه، ولكل ميدان رجاله، فقافية شاعر في حينها أحدُّ من سهم، ونثرُ كاتبٍ في أوانه أنفَذُ من رمح، ومكسبُ تاجرٍ في وقته يكون كوقع الماء من ذي الغُلةِ الصادي، هو العمل وعمارة الأرض، فكاتب معه قلمه كأسدٍ معه قوته أنّا اتجه لا يخشى الجوع. فإن سلكنا مسالك آبائنا فما في ذلك من عار، فالتائه بالصحراء يهتدي بالنجم، وقبطان البحر في لججه يبحث عن منارة. ونحن لا نأمل أن نبلغ بالمجتمع رأس هرم الفضيلة فذاك مُحال، ولا يوجد بيننا من يطلب أن يكون هو القائد والمعلم للبشر، أو أن يضع نفسه نبراسا يُقتدى به، أبدا ولكن هذا لا يوجب القعود والخنوع، والرضا بالصمت والسكوت. وعقول الرجال في رؤوس أقلامهم والقلم كما قيل أحد اللسانين، فما من دُرةٍ تقع من قلمٍ على سطرٍ إلا ولها حسناء تُزينُ بها جيدها، ولكن هو مبدأ سددوا وقاربوا لا أقربَك الله منه.  

في الصدر أعاصير تُحرق الفؤاد، وتوابع وزوابع لا تستكين ولا تهدأ إلا بخروجها من فم القمقم، فالصياد يُرسل سهام كنانته فمنها ما يصيب ومنها ما يخطئ، وإن أصابت فقد تُصيب ظبية وقد تخترق قلبَ كلب. فكذلك نحن وبقَدْر قوة مصابيحنا نرسلُ ولو ومضةً من نورٍ لعلها تجد تائها فترده أو ضالا فتهديه أو متشردا في دار غربة فتؤنسه. ومن العبث أن نعبث بالعقول ومن العيب أن نتولى يوم الزحف، فما مثلي ومثلك إلا كدافع شُبهة وطالبِ فتنة، فاترك ما أنت فيه واخنس قاتلك الله.

من حديث النفس




نمقُتُ دائما في كوكبنا ذاك الكاتب الذي يتحدث عن نفسه كثيرا، ويحشر كلمة (أنا) بين كلمتي (أنا) و (أنا)، متباهياً بمجده الغابر أو مفاخرا بغابره الحاضر، ندرك منه شدة غروره قبل لين سريرته فكرهنا دخيلة نفسه قبل أن نزدري ضحالة عقلة.
ولكن في رحلة إلى كوكب الأديب (علي الطنطاوي) الوضعُ جدُ مختلف، فلا التربة هي التربة ولا الهواء هو الهواء، ففي حديقته (من حديث النفس) انقلبت الحكاية وارتدّت النظرة الناقدة خاسئة حَسرى. هناك تحدث عن نفسه كثيرا فأحببته كثيرا، وتألم كثيرا فدعوت له كثيراً، نقلبُ الصفحات فنلمس كم هي معاناة هذا الأديب من ظُلم الأيام و كم هو ألمُ تقلب الدهور والحكام، وجور الأنظمة وتجاهل الأتراب.
حفر صخر الشام ولبنان وأزاح غبار بغداد وصارع في القاهرة وحارب في الجزيرة، له همة عالية وروح وثابة، وفكرٌ مؤمنٌ وقلبٌ حي.
أحب لغة القران فنسج أدباً عالمياً لو أن فينا عزة نفس، وخاط ثيابا من الكلمات فكانت للضمائر الميتة حياةً، وللقلوب المكلومة أُنساً، ولفراق العشاق علاجاً والتئاماً.
أحب الأدب فآثر مصب النهر عن التحديق من الشاطئ، هام بالحدائق الغناء من حوله فجرته أقدامه  وغاص أعماقها، يقطف الوردة الزاهية يقدمها بقلم الوفاء، ويتلمس أغصان الحديقة فينبثق الكون كله طربا بروائح الكادي والأقحوان. ويسامر القمر على هسهسةِ الماء فتغدو أوراقه هي جنان الأدب الرفيع.

ذاك هو الأدب الذي نشتاق له، بعد أن تآكلت أجسادنا قيحا ودما خلف بيوتنا الإسمنتية الكئيبة،  وذاك هو الأديب الذي نحن في حاجة إليه لفتح نوافذ نسمات الجنة وإغلاق مواخير سموم جهنم، فلعل نفحا من العبق يكتسي ثيابنا أو لفحة من نورٍ تسكن قلوبنا. 

دَجْلُ التاريخ.








يبدو أننا في حاجة ماسةٍ إلى إعادة النظرِ في كل ما حولنا مما نعتقد بحقيقته المسلَمة، فإيماننا بكل ما يُلامِس آذاننا من دون تمحيص أو تقصي لهو اضطراب في تفكيرنا وبصمةُ تخلف لجِيلنا، بل لم نكتفي بذلك حتى نُنَزلَ تلك الأنباء والأخبار منزلة الحقيقة المجردة والصحة المحضة، فهي عندنا لا تقبل النقاش فضلا عن ردها أو رفضها. ففي خضم هذا السيل الجارف لا نكاد نميزُ بين الصالح والطالح.
هنا تجد قصةً طريفة يتبين فيها كيف تُزيفُ الأحداث وكيف تُنتهز الفرص في الإقناع، ودائما الضعيفُ هو الضحية البريئة الذي يُسلِّمُ رقبته لمحزِّ سكين الجزار.
ففي عام (1727م) كان هناك تأكيدا غريباً نشره العالم الفرنسي (بِفون) مما أثار موجة استياء في أمريكا، فقد ألف هذا الفرنسي كتابه (التاريخ الطبيعي) وأملى فيه قوله (إن مياه أمريكا آسنة، وتربتها عقيمة، وحيواناتها صغيرة الحجم قليلة الحيوية، وهواؤها مزعج بسبب الأبخرة المنبعثة من مستنقعاتها النتنة، وفي بيئة كهذه فحتى سكانها الأصليون يفتقرون إلى الرجولة ولا تثيرهم الأنثى).
والغريب أن هذه الملاحظات وجدت مناصرين متحمسين، سواءً ممن يهوون تشويه صورة أي مُجتمعٍ يختلفون معه أو ممن يفتقرون إلى المعرفة الفعلية والبحث العلمي، مما دعا بعالمٍ هولندي أن يُضيفَ باجتهاده لتشنيع تِلك الصورة وتشويهها بأنَّ (أثداء الرجال في أمريكا ممتلئة بالحليب).
هنا قامت ثورة أمريكية لن تهدأ وتستكن حتى يتم لَجمُ التهمة التي تمس الكرامة، فتصدى علماء الطبيعة في أمريكا لها بكل شجاعة وخسة. فجمعوا عظام مخلوق ضخم يشبه الفيل وأطلقوا عليه اسم (المجهول الأمريكي العظيم)، وبدأوا  في تشكيلِ الهيكل العظمي للحيوان المنقرض المزعوم، وفي محاولتهم لإبطال سجالات (بِفون) الحمقاء شطحوا وبالغوا في تضخيم هذا الحيوان، فجعلوا حجمه أكبر بستةِ أضعاف الحقيقة، ومنحوه مخالب مخيفة استعاروها من حيوان (الكسلان) وأضافوا له أنيابا بطريقة تمنع الشك، ثم أقنعوا أنفسهم أن هذا الحيوان يتمتع برشاقة النمر وشجاعته، فصوروه في بعض الرسوم في الصحف وهو ينقض برشاقة على الفريسة. ثم أرسلوه إلى (بِفون) وقالوا في أنديتهم الخاصة: من في فرنسا سيعرف الحقيقة؟
علم حينها الفرنسيون بأنها دجلةٌ من تَدْجيل الإعلام الأمريكي، وبسببِ قوة الدعاية المُصاحبة اكتفى الفرنسيون بالسكوت وابتلاع الأمر على مرارته.
في هذه القصة نتعلم كيف يتمُ بناء الأبراج العالية من السمعة المُزيفة، وتلميعُ المعادن الرخيصة فتصبح ذات بريق بترويج الأكاذيب واختلاق التاريخ المُزور المقرون بالدلائل الكاذبة المقنِعة. ليتناولها الإعلام ويروج لها فتسري بين الناس مسرى اليقين المؤكد والصواب الحق.
قصة الحيوان الأمريكي هي ذاتها قصة المُنقبة الإرهابية الإماراتية في أيامنا هذه، ولكن الفرق في أن بعض القوم امتهن الصنْعة فتمكَّن والآخر ضعيف الإرادة فقصَّر.

خلاصة الأمر، علينا بتحرير عقولنا من سجون الوهم وإعتاق أيدينا من أغلال الغفلة، والتفكرِ فيما حولنا بما منحنا الله من قدرات عقلية، فنُعْمِّلها لما خُلقت له، وستَتبدَّدُ غمامةٌ استقرت أمام أعيننا لم نكن نحسب أنها غمامة.