ملاحاة رجل ( 2 ) .





بعد أن تناولنا للخصومةَ التي تعرض لها ( أردوغان) في وقت سابق. فسنأتي هنا إلى ذكر الرجل الثاني الذي أودُ أن أُلمح له ولو بلمحةٍ وأوجز له بمُوجِزٍ عن أقواله وأعماله ومما رأيت من صفاته الكريمة وأخلاقه النبيلة وكيف قوبلت بالملاحاة والهجاء.
هو – كما رأيته – أحمدٌ وراشدٌ  وسعيدٌ وهذا رسمه وصفته واسمه ، ففضل الله واسعٌ يؤتيه من يشاء، فطابق الاسمُ الحالَ والصفةُ وافقت الموصوف.
حمل شمعةَ العلمِ بيده، ليسلط ضوءها على أركانٍ مظلمة، وزوايا حالكة. بعد أن كان الكثير منا يسير في دروب العتمة والسواد، ويتخبط ويحتطب كما ساري الليل وحاطبه. جاء وأهدى لنا سراجاً منيراً، وقنديلا مضيئا. ينير الطريق ويضيء الوجهة ليميز الصالح من الطالح والطيب من الخبيث. والفصل بين صادقٍ وأمينٍ ومُخلِصٍ وبين كاذب وخائنٍ ومحتال. في زمنٍ هو زمنُ المتاهاتِ وعصر الظلماتِ والأزمات.
تجده حينا مفكرا عميقاً، وتارة أديباً باهرا، حريريٌ في مقامَة و معريٌ في قصيدة. ومن هنا انفجرت براكين الحقد والحسد وسالت من فوهات خصومه حمم الحنق والغضب. اختار طريقاً يكشف فيه الحركة المتصهينة في مجتمعنا متمثلةً في قنوات ومؤسسات إعلامية كقناة العربية وصحفية الشرق الأوسط والجزيرة والرياض.
لم يحارب شخصا لذاته، ولم يقاتل أحداً لمصلحة في نفسه، بل سعى للسلم والسلام، والصلح والمهادنة. هو فقط سلط الضوء، وأخضع الأمر للدراسة. فأذعنت له الحقيقة، فكشف المؤامرات، وأظهر الخيانات، وأبان الصداقة من العداوات. أزال الغُمة، ومحا الظُلمة، فأسفر الفجرُ، وتفتحَ الزهرُ.
لم يذكر شيئا لم يذكروه في وسائلهم الإعلامية، فقط هو محَّص وتعمق وتَبَحَّر. ومما أورده حربُ هذه المؤسسات والقنوات على الحركات الإسلامية وكيف يستهزء أصحابها بالدين والإسلام والقران. وأيضا كيف ذهب بعض إخواننا لِلعقِ أقدام اليهود والصهاينة وكيف قدموا ما يستطيعون لإرضائهم ونيل ودهم وطلب عطفهم. ليس لسبب مقنع، ولكن هو طبع من يتَّبِعُ من يعطيه قطعةَ اللحمِ الأكبر.
قمتُ بزيارة لموقع وزارة الخارجية الإسرائيلية فوجدت ماذكر الدكتور أحمد بن راشد صحيحا وحقيقة. وكيف أن وزارة الخارجية الإسرائيلية تُعيدُ نشرَ مقالات من يُطلقون على أنفسهم ( مثقفون) والذي تتواءم أفكارهم وكتاباتهم مع سياسةِ وخبثِ ودناءة اسرائيل. خذ مثلا لا حصرا: ( أمل الهزاني) و ( نبيل الحيدري) و ( محمد ال الشيخ ) و( عبد اللطيف الملحم) و ( عادل الطريفي) و الكثير الكثير. ولكن خذ مني النصيحة فقبل أن تقرأ لهم عليك بتناول دواء ( البروميسازين) الذي يمنع التقيء والغثيان لأنك ستجد رائحة الخيانة وسم الغدرِ ونتانة الأخلاق.
ابن سعيد لم يكذب على أحدٍ ولم يفترِ، فهمْ من يتمنى ويحلم بدولة اسرائيل الكبرى وموت كل ما هو فلسطيني وعربي.
ابن سعيد عرَّى قناة العربية ونزع عنها جلبابها وبيَّن كذبها ودجلِها وكيف تصنعُ الكِذْبة مثل جبل أحد ثم تُرسل خرافها للتحليل والتزيين و الإقناع بأن هذا هو الحق المُمَحص من الخداع والغَرَر.
ستجد عزيزي القارئ أن من حاربوا الدكتور ابن سعيد على ثلاثة أضرُب:
الأول: رُؤساءُ الإعلام و العاملون المباشرون في قناة العربية سيدة التصهين وقِبلة الفاسدين من مذيعين ومذيعات وممن لا يختلف عندهم لقمة العيش أحلالٌ كانت هي أم حرام.
الثاني : من لا يعمل في القناة بشكل مباشر وهم على صنفين إما أنهم قد استضيفوا سابقا في برامجِ القناة ويريدون المحافظة على هذا البريق واللمعان المزيف. أو أنهم يسعون ويحلمون بالجلوس أمام كاميرات العربية.
الثالث: وهم (القُطعانُ) كما أصفهم وهم الأغلب وممن رأى عيوب الناس فأنكرها ثم رضيها لنفسه وهم ملوك الحُمْق. فالبَلَهُ وضَعهم تيجاناً على رأسه والغباء يأخذ منهم وصفه. المنقادون وراء تماثيلهم والساجدون الراكعون لأصنامهم فإن يمن الصنم يمنوا وإن شمَّل شملوا. لا يفقه إلا ما لُقِن ولا يصدِّق إلا ما أُخبِر. عطلوا العقول وعاشوا دون المأمول. فالأفئدة خاوية، والقلوب كالأكوازِ مجخية، لا تعرف معروفا ولا تنكر منكراً. وبالعامية نَصِفُهم بـ ( يدربي راسه (
هذا ما فعله أحمدٌ بن سعيد, فلماذا تنادوا في النوادي ( أن اقبلوا معاشر القطعان ) ولماذا اصطفوا كلهم في صفٍ واحدٍ ضده إن لم يكن على حق؟ وإن لم يكن أصابهم في مقتل؟




ملاحاة رجل (1).





برق في ذهني هذا المصطلح وأنا أرى وأسمع الكثير من الملاحاة في المجالسِ ومواقع التواصل الاجتماعي، وهذا طبعيٌّ ومألوفٌ بيننا نحن العرب، فالرجل منا وهو على كرسي الفراغ ووسائد الخلاء والخواء لا يطفئ لوعته إلا النقد واللوم وتكسير مجاديف قوارب الآخرين حتى لا يصلوا إلى ما لم يستطع هو الوصول إليه .

سأعرض بين يديكم مثالين لرجلين نالهم الكثير من النقد والملاحاة والخصومة لا لشيء إلا أنهما صدعا بكلمة الحق، وتناديا بكشف الخونة الكذابين من مؤسسات وأشخاص لهم مشاربهم المتعددة وطقوسهم السرية، ومصالحهم التي تشترك أحيانا وتفترق أحيانا. وأنا هنا لست إلا مجرد مسلطٌ للضوء إلى أمر أزعجني وأساءني، فلكل وادٍ في العين منظر، ولكل بقعةٍ في النفس أثر.

الرجل الأول هو الرئيس التركي ( أردوغان)، الذي صرح مرارا بتوجهاته الشخصية التي لا تتنافى مع مصلحة دولته تركيا ومصلحة شعبه الذي اختاره وانتخبه، والتي أيضا لا يجب أن تتقاطع مع مصالح المسلمين فنحن في فرقة عن بعض وعزلة عن مصالح بعض. ورجل في قامته يملك الحرية التامة في قول ما يريد وعمل ما يريد وهو أعلم بهذا ولا يضره نباح من نبح أو صياح من صاح. وفي تصريحاته الأخيرة على ما يدور في دولة مصر وما حصل فيها من قتل للأبرياء وسفك للدماء قد أثار غضب البعض وهم قلة قليلة عددا، ولكنهم وللحق كثيرون عملا. فقد أصابهم الذعر من تصريحاته وصار حالهم كحالهم يوم القيامة، أو كأنهم في معركة شديدة، فالقنابل تتوالى، والقذائف تتعاقب كالمطر إذ انهمر، عندها تكاتفت القلة القليلة وقاموا بملاحاة الرجل وسبه وشتمه وإلحاق الأذى اللفظي، وقاموا بهجومهم السخيف وعيروه بأجداده العظماء، وهذه حيلة العاجز وبضاعة المفلس. وقد قالها الشاعر :

إذا لم يكن للمرء عينُ بصيرةٍ…. فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفرُ.

ومن هم أجداده يا ترى ؟

هم خلفاء المسلمين ، هم من حكموا الدنيا بأسرها من مشرق الصين إلى مغرب الدنيا. هم من ركعت لهم جبابرة العالم ، وأباطرة أوروبا وملوكها. هم من كان البحر الأحمر بعظمته واتساعه بحيرةً مغلقةً في دولتهم. هم من حق الحق ورفع راية التوحيد والعزة والخلافة. بمثل هؤلاء يُعير ( أردوغان) .

أنى يرى الشمس خفاشٌ يلاحظها …. والشمس تُبهر أبصار الخفافيش.

عيروه بالخلافة وليس بعجب. فهم مصابون بداء انتكاس المفاهيم وقلب المصطلحات. فالخلافة أمرها عظيم وشأنها جسيم على أحلام العصافير. وهي في كأسٍ أكبرُ من أن يُساغَ بجرعة واحدة. تلك الخلافة التي فتحت القسطنطينية التي بشر رسول العالمين فاتحها . والتي كانت عاصمة الرومان ومقرهم وعقر دار الأرثوذكسية الشرقية التي يتباكى عليها اليوم ( صعاليك القوم ) والذين ساءهم دخول الإسلام إليها وانتشار العدل في أرجائها ويتمنون أن لو كانوا موجودين حين فتحها حتى يجهزوا على الفاتح أو يغدروا به فداءً لدولة الصليب وفداءً لملوكها وقساوستها.

عيروه بـ ( سليم الأول) قاهر الصفوية ومُذل المجوسية الأنجاس أعداء االله والدين صاحب الرسالة لتي قال فيها مخاطباً اسماعيل الصوفي : ( إن كنت رجلاً فلاقني في الميدان ولن نمل انتظارك ). عيره ب (عثمان الأول) و ( سليمان القانوني) و ( عبد الحميد الثاني) قاهر اليهود حافظ الأمانات والعهود.

يقول كبيرهم ( محمد ال الشيخ ) : تجد الدم والقتل أين ما حلوا الترك . نعم عزيزي تجد الدم والقتل وكذلك تجد التسامح واللين بابا مفتوحا على مصراعيه. ولك أن تقرأ ما كتبه ( توماس أرنولد) وكيف كان يدخل المسيحيون طوعاً إلى الإسلام ، وكيف لجأ يهود أسبانيا إلى سماحة وعدل الترك. وأن (مقاريوس ) بطريرك كنيسة أنطاكيا كان يقول :( أدام الله بقاء دولة الترك خالدةً إلى الأبد) مما رأى من عدل الإسلام وسماحة أهله.

وليت (آل الشيخ ) وأطفاله ينسبون الدم والقتل لمحاكم التفتيش التي كانت تقام ضد أخوته في الدين في الأندلس ولكنها صعلكة العلم والتبجح والكبر وبيع الحرف لصاحب الشيك الأكبر.

( أردوغان) يا عزيزي لا يبحث عن ( خلافة ) فهي أكبر وأشمل . ولكن كن أكيداً أن لمزك إياه بتلك الكلمات ما هي إلى عز له وفخرا بأمجاده وأجداده ولكنها الغضبة النجدية على محمد علي باشا التي لم تُنسَ مع الأيام ، وكذلك الخوف من الحكم ( الإسلامي) للمنطقة والذي قد يقفل مراقصكم ودور السكر والعربدة .

أما  الرجل الآخر الذي أريد التطرق له فسأتركه للقاء القادم خوف الإطالة.

رابط المقال في الصحيفة. http://t.co/hreoFRo2je


مجزرة في رابعة







وفي عامِ أربعةٍ وثلاثين وأربعمائة وألف ولسبع ليال ذهبن من شهر شوال وقعت مجزرةٌ عظيمة ومعركةٌ جسيمة، وَصَبُها شيبَ الشباب، ووقعُها قطَّع الأوصالَ والرقاب. في مكانٍ يسمى رابعة العدوية، من أرضِ مِصر الأبية، أرضُ المعالي والنصرُ دِيرة الإخلاص. و المكرمون أحفادُ ابن أبي العاص، معركةٌ ليستْ ضد مشركٍ أو كافر، ولا ملحدٍ أو من الشهادةِ نافر، تلك كانت حرباً ظلوم، من ظالمٍ على مظلوم، لم تَطْوُل كما داحسَ والغبراء، أو  البسوسَ النكراء، بل صبَّحوهم مع بزغت الشمسِ، وقبل أُفولها لم يبقى لهم من همسِ، ويروى أن فيها سالت الدماءُ في الأزقةِ والشوارع، ونالَ القتلُ من كل حاصدٍ وزارع، وكان البدء بالكهلِ والطفلِ الرضيع، والنحرُ والذبحُ وكلٌ بما يستطيع، وكأنها حربٌ عرقية، قاصيةُ التخيلِ لا أخلاقية، قويٌ متسربلٌ بالسلاح، مقابل أعزل ريحُ الضعفِ منه فاح، لا لذنبٍ ارتكبوه، ولا لجرمٍ فعلوه، فقط لحقِهم في وطنِهم خرجوا، ولرئيسهم المنتخبُ سألوا، كانوا يشهدون الشهادة، ويؤدون الصلاةَ على سجادة، مؤمنون بالله موحدون، وللأمانات هم محافظون، أُطلقت عليهمُ النيرانُ وهم عزَّل، والرصاص من كل حدبٍ يتنزَّل، رفعوا أصابعَ الإبهامِ، لينجلي الحقُ من تحت الأوهامِ، وفاضت الأرواحُ لبارئها، وتوالت التكبيرات في نواحيها، كانت نكسةً بليغة، ووقاحةً جريئة. قتلوا الأبرياءَ وأعدَموهم، ثم مثلوا بهم وأحرقُوهم. من بقي حياً نشُط في الأبحاث، فلم يعد يفرقُ بين ذكورٍ كانوا أم إناث،  كانت سقطةً أخلاقيةً للعسكر، لمن به عقلٌ أو تذكر، ويروى أيضاً أن جيش مِصر كان  أمامَ الأعداءِ هوانا. فإذ به ضد الأبرياءِ لم يتوانا. لم يواجه أو يهدد إسرائيل، ولو بالتلميحِ أو بالنزرِ الضئيل، فتاريخُه الأبيضْ، للعار والخزي قد تعرَّضْ، قاده قائدٌ أهوَّج، أبدعَ النفاقَ وللكذبِ روَّج، وبالعهد غدَرَ وخَان، وجاوزَ رايةَ الحقِ للبهتان، وفيما ذُكر أنه يكنى السيسِيْ، رئيس الدفاع جالب المآسِيْ، لاصب الله عليه شآبيب الرحمة،  وأعطاه ما يستحقُ من قِسمة


 

من لا عقل له يُحدث ذي عقل. ( ابراهيم البليهي في حائل ) *








أُلقي على سمعي أن الكاتب والمفكر بعد صلاة العشاء،  سيكون في اللقاء، ليزيل الحُزن والشقاء. ولسابق علمٍ عندي بأننا نملِك أزمة تعريفٍ للمصطلحات فلا وجود في قواميسنا العقلية لتعريف لكلمات مثل ( مفكر - مثقف - كاتب ) أو لأي من الكلمات العائمة المطاطية التي تستخدم كثيرا في الإظلال والتموية والتحريف والتزييف، فالأمر فيها على سعته، وللكل الحق في أن يدلي بدلوه مع الدلاء، ويُبَسِّط تعريفه بما يوجب الإدلاء.. ومع هذا أحببت أن أحضر اللقاء .
 (مفهوم العقل) عنوانه, وفي النادي الأدبي مكانه.
استهلَ نابغةُ عصرهِ، وداهيةُ قومِه، حديثَه وكأنه في معركة، وللآخر لا يرجو سماع كلمة ولا رؤية حركة، ذاكرا سلبيات المجتمع وخص بالذكر أهل مدينة حائل، من حازوا تاج الطِيب وقمة الشمائل، والقاصين عن النقصِ والرذائل، معبرا عن استيائه مما كان في حفل استقباله، فهو كما يرى حاله، من عريق السلالة، شريف الأصالة، ذي السمو والجلالة.  
العنوان جذاب، والأفكار أخاذه، والفقرات لافته. ولكن تحت الرماد نار تلظى. يغفل عنها غائب اللُّب، جاهلُ العلم، طيبُ النيةِ والسريرة .
مد يده لكنانته وأخذ سهماً من سهام شتائمه وسبابه ليرمي بها معارضيه بكلمات خارجة عن السياق،والذوق والأدب،  فقتل مبدأ الحرية من لقاء الحرية التي يتغنى بها هو ومن على شاكلته. وأقام تناقض الفكرة مع وأدِهِ لحرية الرأي والمشورة.
جاء ممثلا للحرية والتفكير – كما يقول – وكيف تستخدم العقل وتحرر الذات من عادات المجتمع وتقاليد العامة وأن تجعل ساحتك فاضية خالية من كل شيء – كل شيء- ثم تبدأ بملئها بأفكار ومبادئ تأخذها من العدم وتأتي بها للوجود.
تُخرج مُسلماتك من بوتقة عقلك وتحشر مكانها معطيات تتعاطى مع معطيات العصر وتعصر معها قليلا من التحرر والعري الأخلاقي وتتخلق بأخلاق ارسطو وافلاطون. وتتصورها صورة جنائزية كصورة الصحراء المصابة بالعطش والأرض التي تنهار.
هرطقة وصف كلمات بجانب بعضها البعض, كسراب بقيعة يراه الضمان الماء حتى اذا جاءه لم يجد شيئاً.  
يقول أيضا يجب أن تخلي ساحة تفكيرك مما علق بها من تراث ودين ومبدأ وانطلق للسماء ولكن من غير قاعدة ومن غير أسس. وكأنه لسان حاله يقول: يجب العودة لما قبل العصر الترياسي لنرى الديناصور ثم الانطلاق من جديد، مع الحذر من الديانات والرسائل السماوية كما الهر والكلب والثعلب والخنزير.
ثم أردف بجملة فضفاضة يقول فيها ( العقل يحتله الأسبق إليه ) هذه جملة صحيحة ولكن أكمل يقول (والعقل يرفض تماما التخلص منها). وكان يقصد أن من سلم عقله لأغلال الدين وقيود المشايخ والعلماء فإنه لن يتخلص منها أبدا. وكذلك من ألحد ونشأ على اللادين . ألم يعلم الاستاذ ( البليهي ) أن المنطق والواقع يتنافى مع كلامه. فالواقع يقول أن الكثير من الملحدين نشأوا وتربوا على اللادين وبعد أن بلغ من العمر عتيا ورسخ كل هذا في عقولهم الواعية واللاواعية أو ما أطلق عليه هو ( العقل المتكون والمكون ) وفي لحظة إيمان وتفكر مَحَى وتخلى عن كل ماكان مؤمنا به طوال ما مضى من عمره وألقى بكل هذه الخزعبلات، نادما على وقته الذي أضاعه ثم أقبل على الحق مؤمنا مطمئنا . ولنا في الكثير من الشخصيات المعاصرة الأمثلة والبيان مثل : زكي مبارك ، و طه حسين ، وعبد الرحمن بدوي و مصطفى محمود وغيرهم الكثير الكثير.
لاحظت كغيري ولعه الشديد بالغرب وبالثقافة اليونانية تحديدا، واعتبارها هي أول العلوم وبداية الفكر البشري غاضا بصره عن ما سبقها من اقوام وحضارات كالمصرية والكلدانية، بل وانبهاره الشديد وتمجيده لكل جديد، من غير تصفية أو تحديد. وبالمقابل كرهه الشديد لنفسه أولا ولقبيلته ثانيا ولأمته ولعروبته ثالثا. فقد كان هذا الثالوث مرعبا له، يسهده ليلا ويخنقه نهارا، وفي نفس الحال كان يجلد نفسه بسياط التخلف والغباء كل ما وجد الوقت المناسب لذلك الجلد. وعرفت منه قلة عقله عندما حار وارتبك في مفهوم  (خير أمة أخرجت للناس) مع أننا نقبع في ذيل القائمة من حيث التقنية والعلم والسياسة والقوة الاقتصادية متغافلا عن بقية الآية الكريمة التي تدعونا للأخذ بالاسباب ومن أهمها الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا الأمر الذي يستحيل أن يتطرق له البليهي وزمرته .
ثم عرج على التاريخ، وأبدع في نسف وتقويض كل مجدٍ عربي وكل فوزٍ إسلامي على مدار التاريخ، فلا أدري أهو جاهل بالتاريخ أم هي كثرة بحوثه وكثرة إطلاعه على الباطل وكثرة ثقافته – كما وصفها هو – أعمته عن غيرها.
سألته هل هذا التخلف الذي يقول هو تخلف شعوب أم تخلف حكومات ؟ فالتف على السؤال وأجاب بأنها تخلف ثقافة. قلت وما هي الثقافة في تعريفك ؟ فسكت.
أسقط إسقاطاته الغبية السمجة عندما ذكر أن الحضارة الغربية لم ترى النور إلى بعد أن كُسرت الكنيسة - هو اختار لفظة (كُسرت) وكسر الكنيسة في مدلولاتها هو هدم الدين بكامله. فلم يقل هدم سطوة الكنيسة أو كسر ظلم الكنيسة بل قال هدم الكنيسة، ولك أن تستبدل لفظ (الكنيسة) بالمسجد. وهذا هو ما يريده .
وكعادته - وعادة إخوانه في الفكر العقيم، وقلة الحجة وسقم النقاش- وفي شدة غضبه وحنقه الغير مبرر لم ينسى أن يأتي على سب وشتم الداعية الدكتور محمد العريفي فهو ديدنه وديدن من أرسله، ولكنه لم يتجرأ على التصريح بالاسم مخافة أن يفهم مقصده فقال بالحرف وكأنه أنشتاين العصر ( أنا لست مثل من يتبعه أربعة ملايين متابع في موقع تويتر لأن الأغلبية تتبع السهل المنقاد المكرر للكلام. أما المثقف والمفكر وصاحب النظريات الجديدة فلا أحد يستمع له).
سأله أحد الحضور ( من هو المفكر ؟ ) قال هو الخارج من داخل القمقم ؟ ويقصد بالقمقم  مظلة الشريعة والدين .
اسقاطات لم يفهمها البعض والبعض فهمها حتى عندما قال إن الاستبداد السياسي ولى وذهب وما زال الاستبداد الثقافي وسيزول عن قريب. فلم يجب عن سؤال ماهية الاستبداد الثقافي ؟ مع أنه يتكلم من على منبر حر ولم يلجمه أحد.
عزيزي المفكر ( البليهي ): أنت كمن يريد أن يبيع الفحم في سوق الذهب. فبضاعتك كاسدة، وما من منبر صعدته إلا وكان تفسخ لفكرك وعري لعقلك وأظهر سوادا لنيتك.
حربك هي حرب على الدين، تحت مصطلحات أنت لا تفقهها ولا تفقه مدلولاتها. ولكنه الانقياد والخضوع ولعق الأحذية مقابل المال،  وممارسة دور الببغاء في المجتمع، وليس هذا بجديد فقد سبقك اباطرة وعمالقة ومفكرين حق، فتكسرت مجاديفهم على صخره، وسحقت جماجمهم تحت أقدام حاملوه.
فأنت وحزبك تتداعون في هجمة فكرية لطمس هوية الأمة وإذابتها في الثقافة الغربية المفلسة الدنية، ( وودوا لو تكفرون )، رضعوا الحق فتقيؤوه، وقبضوا على الصدق ثم قذفوه.
فمحارب الحقِ والبهتان لا يسلم من العطب، كمن يقطع الصلب بالخشب . 



*هي قديمة قليلا, فقد كتبتها ثم أضعتها ولما وجدتها نشرتها..

تبسُم الكلمة مع صاحب كرشِ مستسلمة .




قيل أن كل ذي كرشٍ، يكون ذا عقلٍ.
من المبدأ الذي يقول الجسم السليم وعاءٌ  للعقل السليم .
فسأضرب المثل من غير اعتداء، وأطلب الصفحَ على الأخطاء، فأنتم أصحابي من أهل الذكاء، وأهل المشورة والدهاء، فاقبلوها مني رغم الخَواء، وبلا غيظ وحقد وهذا رجاء.
فهناك من بني جلدتي هوامٌ تسير، تأكلُ اللحم والثريد، بالبلع والزريط.
كفه المخراش، لا خوف ولا ارتعاش، يلتقم اللقمة مرميًا على الفراش، غالقًا سمعه مبتعدا عن الفهمِ والنقاش، ومن الفراش يُنقلُ إلى غرفة الإنعاش، فلا يُسأل أميتٌ هو أم عاش.
المعدةُ خلاط، تُتقنُ الشبك والاختلاط، وهرسَ كل ما على السماط، مهما بلغت الأصناف والأنماط، فلا  يصيبها المللُ ولا الإحباط، بل من نشاطٍ إلى نشاط. ولو دخلها ما بين طنجةَ والرباط ، ما زادها إلا من الشحمِ أمشاط.
ولا تسأل في الفمِ ماذا صار؟ فقد توقف العقل واحتار ، فنادى يا رب يا ستار، وأسدل من العجبِ الأستار، ففي القطعِ كأنهُ الصارمُ البتارِ، وفي التقليب كأنه مكينة عطار، فترى الداخلَ من اللحمِ والثمار، يصيبُه الخرابُ والدمار، فلا يقوى إلا أن ينهار، أمام صاحب القوةِ الجبار، وبعد أن كان حقيقة أصبح تذكار، ولا فرق عنده بين باردٍ أو حار، أو حامض  أو به رشةَ بُهار، فالكل بين فكيه في حصار، ومن ضرر إلى ضرار، ولا مهرب من هذه الضروسِ والأسوار، إلا لكرش ٍ وأمعاء، كأنها أكبر وعاء، أو دلوٍ من ضِمن الدلاء ، لا تعرف الشبع والاستغناء ، ولا التعب والإعياء ، أو الخجل والحياء، فلها من القرقرة أصداء، وبالليل تطلق الثُغاء، فصاحبها مسكين في عناء، فقد أصابه البُعد والجفاء، ومله الأعداءُ والحلفاء، وكرهَ انبعاثَه الأصدقاء، وليس معه من بنات حواء، لا حمراء ولا صفراء، فقد تكوَّر كالخنفساء ، فداءه من غير دواء، فكم أعياء من الطب والأطباء ، فهو يلتهم الغداء في انتظار العشاء.

فيا أهل المشورة والدهاء ، هل هو من معشر السعداء أم أخٌ لأبناء التعساء ؟



زواج بالصدفة .



طريدا ذليلا يجر رجليه الحافيتين فوق لهيب رمال الصحراء، راعياً في إحدى القبائل الصحراوية ولم يدر في خلده وعقله في حينها أكثر مما يدور في هوى من تغنَّم غنما وتأبَّل إبلا و الاهتمام بها لتأمين لقمة عيشه من ألبانها ولحومها. ينام ملتحفا السماء من دون أن يقلب ناظريه في نجومها فلا شيء يشغل تفكيره البته.
غادر بعد فترة وجيزة من تلك الصحراء بعدما استغنى أصحاب القبيلة عن خدماته. سارت به قدماه حتى وصل سور قرية صغيرة لا يعرف عنها شيئا فأجبره الجوع والعطش والبرد على الولوج ليلوذ بأهلها لعله يجد لقمة عيشٍ أو شربة ماء.
وكان في  الطرف الآخر من القرية رجلاً أعجمياً في عينيه زُرقه وفي وجهه حمره ،  كبير الرأس، عريض المنكبين ، من ملامحه كأنه من بلاد لا تغرب شمسُها. تُحبه النساء الصغيرات وتُفتن بنات البدوي بماله وسطوته وحسن معشره وبلاغة لسانه. وكان يَعشق فيمن يَعشق فتاة تسمى ( صباح) تملك حانة صغيرة في مكانٍ قصي مظلم من أطراف القرية .
تلاقيا – البدوي و الأعجمي – في حانة ( صباح ) وأعجب كل منهما بالآخر فتسامرا طويلا وتحدث كل منهما عن نفسه, ومن شدة ما وقع بينهما من تآلف ومودة وولاء عرض الأعجمي على العربي الزواج من فتاةٍ عربية يعرفها ويعرف حالها، متكفلا بكل شيء من أمورِ الزواج، واصفا له هذه الفتاة بأنها فتاة منزويةً على حالها ، لا أحد يعلمُ عنها شيئاً فقد عاشت في بلدٍ نائيٍ عن أعينِ البشر. وسبب عزوف الرجال عنها كان بسبب ملامحها البشعة  في أعينِ الكثيرِ من المهتمين بأمور الجمال والوسامة وطيب المعشر، فهي دميمة المظهر قبيحة السلوك. ذاكرا له أنه قد تقدم هو لخطبتها ولكنه كان يخاف العواقب ففي طبعه خوف المجازفة وكُره المغامرة. فعدل عن خطبتها لنفسه على أن يساعد في خطبتها من رجلٍ هو يختاره.
فتح البدوي فاه مستغربا، وحرك رأسه موافقا، فكل هذه العيوب لا يراها عيوبا وكفى بها أن تكون أنثى فقط ومدفوعة المهر أيضا فقد أمده عريض المنكبين بالمال والعتاد والرجال الذين يسيرون معه كنوعٍ من الوجاهة والرفعة.
تقدم لخطبتها فرفضته وهي قانعه, فجر أذيال الخيبة راجعاً باكيا لصديقه الأعجمي. فرسما الخطة وقررا أخذها عُنوه.
وفي ليلة متسربلةً بالكُحل كانت الفتاة نائمةً مطمئنة فهجم عليها وشرع في البيت هتكا واستبدادا وفي الأهل قتلا واستحلالا. ثم تزوجها غصبا وقهرا وظلماً بغير شرع ولا ذمة بحضور الأعجمي الذي كان هو الشاهد والولي وكاتب العقد ودافع المهر.
لم تحبه ولم تهنأ بعيش معه ولكنها كانت تملك من الصبر والوفاء ما تنوء منه الجبال فقد كان مثالا للكذب والخداع وحب النفس والكبر والغرور.
وزد على هذا كله حبه لرغباته فقط فهو دنيويٌ لا أُخروي، و أرضي ترابي لا سماوي نوراني.
تَهَنَّأ بها حد الشبع ،وتجمَّل منها وجَمع،  وتشرَّف بنسبها وسَطع.
 افتتحها عنوة. وولدت له أولادا فاسقين وقليل منهم الصالحون. وفي الحال يتم وأدَ من صلُح أو سجنه والربت على رأس من فسد وحِفظه. ففي قلبِه خوفٌ من صلاح أبنائه فصلاحهم يقظ مضجعه ويهدد بقاء أمهم معه، فصلاحهم برٌ بها، والبرُ بها نجاتُها من ظلمه .
ومع طول العمر وسير الأيام ورثَت الفتاة المالُ الكثير، وأصبحت من أصحاب الدراهم والدنانير. فتبدل حالها، وأورقت أشجارها، وفاح عطرها، وسطع نجمها، وانتشر اسمها وصيتها .
فزاد ظلمه لها، وطمع فيما أبدته من ورثها وحقها، فاغتصبه لنفسه كما اغتصبها من قبله. فكانت تخبئ منه ما تستطيع أن تخبأه . ولكنه كان يصل إلى كلِ ما معها وإن لم يستطع بنفسه فبمعاونة صديقه الأعجمي الذي قويت روابط الصداقة بينهما من بعد ما ورثت ما ورثت.
ومن سوء ذوقه وفساد سريرته يغتصب منها مجوهراتها وحليها وقلائدها ثم يهديه لبنات الهوى وصاحبات الخَنى اللاتي يلتقي بهن في كل ليلة من لياليه. فعشيقاته كثر،  ومن أجل أن يقوى على مصاريفهن فلا مجال له إلا بالسرقة فتمادى فيها وأوغل في تدنيس يديه، وفي وضح النهار أيضاً فلا خوف من الجليل ولا تقى من العظيم.
ثم علَّم أبناءه من حوله كيف هي حياته وسيرته الاستبدادية، فساروا على نهجه وسلكوا أثره. فهذا يغظ الطرف عن الآخر في الفساد لكي يغظ الطرف هو عنه أيضا .
ظلم و نتانة وخلاعة وفسق وفجور كانت حياته وأبناءه .
وغلبَ الفسادُ في البيت، وصار الفاسد منهم في عيونهم مصلحا والمصلح فاسدا، انقسم البيت على نفسه، وعمت الطبقية والحزبية على أساس الفُحشِ والغِناء.
ومع غلبةِ ما هم عليه من فساد وانتكاس في الفطرة . ضاق الأبناء الصالحون الذين نجوا من المعتقلات والسجون والتعذيب ذرعاً وسئموا حياة الظُلم والظُلمة. ولكن ليس باليد حيلة ولا يوجد للنجاة أية وسيلة.
ألفوا حياة الخنوع والسكوت، بل حتى خيانات أبيهم لأمهم أصبحت من ضمن المشاهد التي اعتادوا رؤيتها والتعايش معها. فلم يعد المنظر يهزهم والمرأى يزعزهم. فالأمر أصبح سيان.
فعادوا للتشكي والتألم والعويل والنواح.
وقبل أيام أتاهم الناصح ينصحهم بأن يطالبون هذا الأب الظالم إما بالحفاظ على أمهم والرعاية بها وبهم أو أنه يسارع إلى طلاقها والهروع إلى أحضان مومساته وعشيقاته.
ولكن يا ترى هل يستمعون النصح أم يبقوا على برهم لأبيهم رغم قسوته..

كالبحر أنتِ.





كالبحر أنتِ
بسِعته الواسعة وسِحره الساحر وعُمقه السحيق وغِناهُ الفاحشِ من اللؤلؤ وثرواته التي تحسدهُ عليها الجبالُ والأودية والهضاب والسهول.
هو الساحر سحرَ حقيقةٍ لا سحر توهمٍ وخيال وخداع للعين.
الساحر بلونه العجيب وهدوءه المُهيب.
الساحر بوشوشة صوته وعذب همسه.
كمثلُكِ أنتِ.
خلابٌ جذابٌ أخاذٌ فاتنٌ رائع. ففي لحظة قُربي من شاطئه وبمحاذاة مائه تتلبسني الراحة وتسترني السكينة فأنظر إليه مستأذنا ملامستهُ بكفي لأقبض منه قبضةً تذرف قطراتها من بين أصابعي كما تذرف دمعتي غِبطةً عند رؤية محياك.
زُرقته لون عينيك. وأُفُقه سِعة عينيك. وطعمه دمعُ عينيك.
كالبحر أنتِ
عند هبوط ليالي البعاد والفراق،،وإصابتك بما يسمى السهاد،، فوجهك هو البحر عندما يعانق الشفق عند الغروب لتتقلب من روعته العيون والقلوب.
وفي مده وجزره، قُربك وبُعدك ، فبداية الجزر هو إيذانٌ بمدٍ شديدُ القوى، عَرف الحقَ فما غوى.
كالبحر أنتِ
ساحله جذاب ووسطه فتان وجوفُه الجوهر ومِيتته حلال.

لم أرى عناق موجه لصخره إلا كعناقٍ يطفيء جوى عاشقَين قتلَتْهُما الفُرقة وأحيتهُما الضمة.

وقبل المساء تتدغدغُ المشاعر بنسيمه وتلتهب العواطف لجلاء نجومِ سمائه وتشتعل الأحاسيس فلا لغة إلا للحب ولا شيء غير الحب.

في سكونه همسةٌ تتوسط الصمت والنغمة.
وفي حركتهِ قُبْلة تخطف القلب قبل الشفاه.
وفي موجه غَيْرَة تمنع النسيم من إثارة خصلةِ شعر.

كالبحر أنتِ وأكثر
القمر وهو مثال الحب والنقاء، وصورة الجمال والوفاء، ومبعد الهم و الشقاء، يترقب بلهفة  أن يغيب، ليعانق أمواجا تتكسر صورته عليها فتغدو الصورة أبهى وأجمل من الأصل نفسه.

وكما مَنح صورة القمرِ الكمال، فللشروقِ منه نفحة جمال.
يُرسمُ الإبداعُ في منظر ثلاثي المعطيات، بزوغ شمسٍ و تكسر موجٍ مع إحمرارُ سحاب.
يسرق الألباب ويخطف الأبصار ويسلب القلب مع الفؤاد.

وهنا يبقى السؤال قائما، والجواب حائرا،  أأنت أخذتِ من البحرِ صفاته أم هو أخذ منك أوصافك؟


اصطفاف










استيقظ ليجد نفسه مرمياً في برميلٍ أصفر مصنوع من البلاستيك نتن الرائحة تغمره السوائل والقاذورات بجانبه تفاحة فاسدة وقلم ودفتر .
أرخى رأسه المتعب مع زفرة خرجت من صدره محاولاً استيعاب ما حدث قبل لحظات.

 أين كان... وأين أصبح...
تلمس جسده ..  تحسس بدنه..

لقد فقدتُ كل شيءٍ . . . قالها ودمع قلبه ينزفُ قبل دمع عينيه.

 كان حروفا متناثرةً في عقل كاتبٍ حذقُ الصنعة ،متقنٌ لها، مهووسٌ بالإبداع ،مواظبٌ على العبقريه. ثم وبكل أناقةٍ انسكب حرفا حرفا، على ورقٍ فاخرٍ ليبني قصراً من الكلمات ِالسهلةِ المنقادةِ الممتعةِ الباذخة.
خُلقَ واكتملَ على أتم خِلقه. تأزَّرَ بالإبداعِ، وتسربلَ بالجمالِ، وارتدى عباءة الفائدةِ والفضلِ والعموم .

كان يرى ما يملأ العينَ حسناً والنفسَ بهجةً.

برزَ من مكان نشأته مزهوا بنفسه. رافعا أنفه... يمشي مشية الخيلاء وقد ضم بين جنبيه الزاخرِ من اللؤلؤِ والياقوتِ.
وقبل يوم التمائمِ وُزِعت دعوات الاحتفال. وحضر المثقفون من كل حدب وصوب.
ولم يكدر صفوه في ليلته تلك إلا صريرُ قلمِ ذلك المبدع على صفحته الأولى قبل أن يصبح مِلكاً لأحد المدعوين.
وُضِع على رفٍ في غرفة للضيوف وبجانبه بعض بني جنسه وقد لفتت نظرُه تلك الكآبةُ الباديةُ على محياهم، والعمرُ الكبيرُ الذي وصلَ إليه أغلبهم ، بادر كبيرهم بالسؤال :
- لمَ أنتم هكذا؟
- هذا عملنا.
- عملكم إبداء الكدر والكآبة!!!
- لا، بل (الاصطفاف).
لم يتعبْ نفسُه في فهم ما يقولُه هذا العجوز.
نظرَ إلى هيأتِه وتفحص مكنوناته ودرره فوجد الخيمةَ والخباء...الأطناب والأعواد...الإبل والشاء...المساجلة والمنافرة...الحب والغرام...العفة والوفاء...الحداء والغناء...الصبر والبلاء...أسواق الشعراء...مواقف الخطباء...كلام الحكماء...الشتاء والمصيف...الصحراء والريف.

فعندها تيقن أن مستقبلَه مُشرق مُبرق، ومنارته تنير للقاصي قبل الداني.

استيقظ صباحَ أول يومٍ له على يدٍ أنثويةٍ خشنة غليظة تحمِلُه مع وسطه. وتُقلبُه ذات اليمين وذات الشمال.

نظَّفَتُه بخِرقةٍ بيضاء من غبارٍ اعتراهُ في ليلتِه الماضية ثم أعادتُه وولت عائدةً لمطبخها ،، لبصلها وقثائها.

جاءه صبيٌ صغير وأخذه من مخدعه .. كان مستغرباً أن يهتم به مثل هذا الصبي .

وضعه على الطاولةِ ...

وضع فوقه ورقة يرسم عليها. ولم يفتحه.

أشكلَ عليه فهم الحال، ولكنه فضل الانتظار على السؤال.
مرت الليالي و الأيام،

أضحت حياته ملل وضجرٌ وضنك وضيقة.
جلس مع نفسه وحيدا..واستحضر ساعة صفاءٍ واستعان بنظرة جلاءٍ.
استاء، وانتفض، حنق ثم غضب .. صعد الدم إلى قمة رأسه.
ألتفت حوله بعينٍ حمراءٌ لونُها
أحس سكان الرف العلوي بأن هناك زلزالٌ قادم.
صوَّت وصاح

زأر وزمجر
يا قوم

ما هذه الحياة التي رضيتموها ؟
اصطفاف فقط !!!
اصطفاف بالنهار واصطفاف بالليل !!!!
إن الأرضة عاثت فسادا بداخل أحشائي.

واحر قلبي على هذا الحال ,,,, الذي اضحى العيش فيه من المحال.

يرد العجوز...

-         انظر هناك ..

-         أين؟

-         جهة باب غرفة الضيوف....هناك
يدخل بعض البشر لصالة البشر ..
ضحكٌ ودخانُ سجائر وقواريرُ خمرٍ.
يقتربون ... ويلقون نظرة على مكتبة محشوة بمئات الكتب النظيفة من الغبار.
دنا احدهم أكثر
... جثا على ركبتيه
مرر أصبعه على ( حقائق الحق ) وجيرانه.
وجهه لم يوحِ حتى بالإعجاب.
انتصب وصعد بنظره للرف العلوي أخذ ( أوهام الهوام )...داعبه بيده...

وأُعجب بالصور.
سقطت سيجارة من المثقف الثمل.
شبت النيران.
احترق البيت.
احترق الرف.
احترق الكتاب.
انتهت حياته في برميل أصفر من البلاستيك نتن الرائحة تغمره السوائل والقاذورات.... بجانبه تفاحة فاسدة وقلم ودفتر.
تمت ..
 
 

خوف المستقبل.


 

قال لي: إن عمره مقسوم إلى قسمين : قسم يبدأ من لحظة مولده قبل خمس وثلاثين سنة وحتى قبل سنتين من الآن. والقسم الاخر يبدأ من قبل سنتين حتى اللحظة. والعجيب أنه لم ينتبه لهذا التقسيم الحقيقي إلا في هذه المرحلة من حياته مما دعاه لأن يصرح لي بهذا الكلام، وكأنه يرى نهايته أو نهاية خطٍ رسمه لنفسه وسار عليه فترة من الزمن وهو الذي كان متوقعا نهاية مغايرة لنهاية الطريق التي رآها الان.

للتو لاحظ أن نقطة التحول التي مر بها ولم يشعر، وكأنه كان يسير أثناء المرور بها في نفقٍ مظلمٍ أقحمَ نفسَه بدخوله من دون أن يتزودَ بالإضاءة اللازمة، تلك النقطة هي التي جعلت الجزء عنده جزأين ، والعمر عمرين .. ولكن إنزاله للسنتين في كِفة وباقي العمر في كِفة هذا يدل على شيء لم أعلمه حتى اللحظة منه.

مِن أن تنظر لعينيه حتى تعرف أن بها سرٌ لن تستطيع أن تفكه أو تحله, فكل من رآها قال إن بها الكثير من الحزن والوفير من الأسى. فبالرغم من ابتسامته الدائمة وضحكاته العالية إلا أنها خدعت وغررت بالألوف. وهو يحترف تزييف مشاعره حفاظا على مشاعر الاخر.

عاش فترة مع زهرةٍ  حتى شاكته بشوكها فعاف الأزهار وقاطع  الحدائق والجنان وجانب كل فردوس وروض. ثم عاد وبكل شدة وبأس ليقطف كل زهرة استطاع أن ينال منها ليسلبها رحيقها من دون أن يدوس برجله عليها، فقط أذاقهن مما ذاق.

كان يستمتع بمذاق الدمع المر الذي يُذَكره بألمِ الشوكة، حتى إنه قال ذات مرة وهل هناك مذاقُ حلوٌ يضاهي حلاوة مذاق الدمع المر.

ومع استمتاعه بحلاوته تلك أتى الزمن ليأخذ منه إحدى عينيه فتنازل عنها مغصوبا على أمره. ولم يملك إلا أن أعطاه ما يريد بداخل إحدى المقابر.

وهنا وبعد أن كانت معركته ضد الأزهار فقط ، اصبحت ضد الأزهار وضد نفسه. واستمرت المعركة وفي كلا الاتجاهين، وبقيَ مع هذا ضاحكا مبتسما مفتخرا بنفسه. كيف لا وهو الذي ينتقم لنفسه بإيذائه نفسه.

وبعد أن عاش حياة الجندي المحارب، ولحظات الضد والتضارب. وحياة الكر والفر. فإذ به يوقع اتفاقية للصلح ومعاهدة لوضع السلاح .

أضحى يستوحش الهدوء الذي يرى, والسكون الذي سرى. فهي ليست نقطة جديدة بل هي ذات النقطة المشؤومة وذات النفق المظلم، ولكنه لا يريد الولوج هذه المرة حتى وإن تسربل بالعدة والعتاد الذي سينير له الطريق.