طريق العلم الأوحد.






لم تسعفني الذاكرة لتذكر كم كان عمري عندما طرقت سمعي حكايةٌ مفادها أن علماء الولايات الأمريكية أرسلوا لعلماء اليابان إبرةً لا تُرى بالعين المجردة لإثبات قدرتهم وحد تفوقهم في العلم وتقدمهم في الاختراع، فما كان من علماء اليابان إلا أن قاموا بثقب تلك الإبرة وإعادة إرسالها للولايات الأمريكية التي وقف علماؤها موقف الحيرة والدهشة والاستغراب.
أحقا كانت تلك الحكاية أم خُرافة؟ فكلاهما في مقدمة الركب يقودان، وأفُكاهةً كانت تلك الحادثة أم هُزالة؟ فالبلدان في نعيم العلم يرفلان، يقودان الأمم من كهوف الظلام لفسيح الأنوار، ويرفلان في نعيم المجد فلا يزاحم أقداهما قدم. يقول زكي نجيب محمود: "لا نهضة عربية إلا بفتح المختبرات للطلاب والعمل بالتجربة والأخذ بقوة بجانب العلم التجريبي"، سئمنا التنظير وحفظ القوانين، ينهش العجزُ قلوبنا جراء أسئلةَ عرِّف، وضعْ علامتي الصح والخطأ. نحن قومٌ لم يخلقنا ربُنا ناقصي أذن ولا عين، ولا زواحف أو نمشي على أربع، نحن بشرٌ كما هم بشر، ولكن حظنا جعل طريقنا مسدود، وسبيلنا مردوم، في غرفٍ محصنة، خاف منا أحدهم فأقر: كمموا الأفواه، ابتروا الأصابع، فقئوا الأعين، نحن أعلمُ بالضرر والضرار. في أبنائنا حباً للاستكشاف سُحق، وشغفا بالغوص في الأعماق خُنق، وولهاً بالتجربةِ والمشاهدة مُحق. تنبجسُ منهم أنوارُ محبةٍ لفتح الأصداف لا يقل وميضا عن إشعاع الآخرين، الفارق أن أشعتنا كلما أبرقت اصطدمت بمرايا الخوف والمنع والاستبداد فإما أن يعود حاسرا منكسرا إلى مبعثه، أو يتسلل من خلال الشقوق لعله يجد سبيلا كما السبيل التي سلكها أحمد زويل.
في التاريخ عظات وعبر، وقف عِلم اليونان عند الوصف والمشاهدة فما أحدثوا ثورة، ثم أخضعها العرب للتجربة والتحقق فترجرجت أركان الأرض، ثم خمدوا فخمدت، ثم أكملها الغرب الحديث من داخل المختبر فتزلزت السماء قبل الأرض.
أعجب من وفودِ رجال تعليمنا عندما يقومون بزيارة لليابان مثلا فيما يسمونها زيارات لتبادل الخبرات! العجب يدور في فلك أن هناك من يعلم سر النجاح ولكنه لا يشتهي!

عودا إلى حكاية اليابان والولايات الأمريكية فقد سبقهما "أبو حيان التوحيدي" بألف سنة  عندما ذكر في امتاعه ومؤانسته بأن فيلسوفا نزل بمدينةِ فيلسوفٍ آخر فأرسل الفيلسوف المقيم إلى الزائر كأس ماءٍ ملأى يُشير إلى غزارة علمه واستغنائه عنه، فما كان من الفيلسوف الزائرِ إلا أن طرح في الكأس إبرةً يُشير إلى أنّ علمَه سينفذ في علمِه. هي ذات الأسطورة إذن، تتناقلها الركبان وتُحورها الثقافات، والنتيجة أن هناك أمةٌ تعمل وأخرى تستغني بالوصف والحكاية.

الوعي المزيف.







الكلامُ صَلِفٌ تيّاه، لا يستجيبُ لكل حال، فلا أقوى أن أُحضر دِّقه وجِلّه، ولكن سأحاول أن أجلوه لعلكم تلحظونه بردائِه وإزاره. تسحرنا الصورة، ويشد عنان عقولنا جمال التصوير، نرتعي من موائد الأفلام الوثائقية حد الشبع، نُثَبت عقولنا كأهدافٍ في مرمى سهام نشر العلم بالطرق الحديثة، فتصيبُ منا في مقتل ونحن نرجوه في مأمن، نستقبل بلا تمحيصٍ رسائلَ وراءها فكرٌ مؤدلج، وصورٌ تكاد تكون صحيحة.
من الأكيدِ أن مشاهدة الفيلم الوثائقي أمتع للنظر، وأيسر على الفهم، وأقدر على التذكر، وأرسخ في الذاكرة. ولكن يجب الحذر من المعلومة المغلوطة والثمرة المُثلَّجة والهدايا المُغلَّفة.
كنا نقول لا تُصدق كل ما تسمع، واليوم نقول لا تُصدق كل ما ترى، وراء كل صورة قناة، ووراء كل قناة شخص، ووراء كل شخص فكرة، والفكرة تحتمل الخطأ أكثر من الصحة، لأن الحقيقة ناصعةٌ واسعة، فيتم اختزالها في رُكن أوحد، ويُنظرُ لها من خلال زُجاج المُعتقد ودخيلة النفس، ثم تُشكلُ من صلصال مصلحة الشخص وطين طائلةُ المكسب.  فالاختزال هو انتقاء ما نريده أن يُسمع ووأد ما لا نريده تحت أرماس التراب. الكثير من المسلمات التي كنا متيقنين من صحتها، أثبتت خطأها مع إشعالِ أول وهجٍ من مصابيح التعلم، وورود أول منهلٍ من مناهل الكُتب.
شخص ما يملك مالاً كَرِمال نجد، تنبتُ فيها أشواك حمضية، فمن السهولة عليه بمكان أن يُزينَ شوكه ويبعث فكرتهُ ويُؤثر بها ويقود المجتمعات المُغيبة، بإخراج متطور وسرد مُختزل للحقيقة ولكنه مُقنع. شخصٌ ما يملك نصف علم، فيُفتي ويشرح ويُصنف ويخلط باطله بالحق فتُصدقه الحشود ويقع المحظور. في حادثة تفجير أبراج التجارة، تجد العشرات من الأفلام الوثائقية تناولت هذه الحقيقة، كلٌ منها حسب مصلحة صانعيها ومُنتجيها، فهذا يُؤل وذاك يُفند والمُشاهد يتوه وتضيع الحقيقة الناصعة.
صنيعُ العقل قبول الأمرِ أو رده، تطييبه أو تشنيعه، ويستطيع ذلك إن كان المعروض غير متلبسٍ ولا مُستتر ولا مزيف ولا مُزور، ولكن بضاعة اليوم مُزجاة، تخلطُ بين العُلَبِطَ  والسَّجاج، وبين العسلِ والماء. فإذا كان العقل لا يملك أدوات تؤازره وتُسانده، ومعاول تُناصره وتُعاضده، فحتما سيقع في الوعي المُزيف.

هنا ومع هذا السيل الهادر لابد وأن يكون للفرد قاعدة متينة من الثقافة وبُعد النظر، وسلاحا نافذا من النظرِ الناقد، والعقلية النافذة التي تتورع عن الهفوة، وتبتعد عن الكبوة، ووحدها القراءة هي من تمنحك قاعدة واسعة تستطيع بها المقارنة والمفاصلة ورد الشبهة وتقبل المعلومة. أوجبتُ على نفسي أن أصنع لها درعا متينةً لا ينفذ منها إلا أصح الصحيح، فقد طال الأمدُ على لُبدٍ، ومللتُ أن أبقى قطعة شطرنج.

الأمانة، تموت خنقاً !






أمقت حد العجبِ رجالَ الأمنِ, وأكره حد الغرابة تلك العيون الساهرة، بيني وبينها شناءة، ظاهرها عداوة تُحرق، وباطنها مخاصمة تّتقد. بُغضٌ ما هو بالهزل في موضع الجد، ولا بالجد في موضع الهزل، لا للشخص أقصد، بل للفكر المتذبذب وللفهم القاصر و للطبيعة الجانحة عن الفضيلة وللهوى المُتصادم مع كل حرفِ قسمٍ أقسموا به. رأيتُ جماجم تحت أغطية الرأس قد وجَدت ربيعاً بعد قفرٍ، ومالا بعد فقرٍ، وعزةً بعد صِفر المكانة. لا أُبالي، نعم أمقتهم وما أنا بحسير.
لن أركبَ موجة التعميم والتخصيص، فالمنطق موكل بهما وعقول الرجال ليست على استواء، فلنتخطى هذه العتبة الصغيرة.
يُقال في علم النفس أن لكل شعور داخلي دافع خارجي، ذكره الشخص أم نسيه. من هنا فمَقتِي تلَبَّسني عن حقائق لن تُحيله وِداً، وحَنقي من دلائل تشمئز منها الأنفس الطاهرة. فهاكم من عجائب الوقائع وغرائب البدائع، ما يُحزن السامع ويُؤلم المسامع، وما هي بنقلٍ من بطون الدفاتر، بل عينٌ تراه الأصاغر والأكابر. هاكم ما حاك في الصدر ولم أكره أن يطَّلع عليه الناس.
بالقرب من الحدود الجنوبية تلتقي الأجنبي المخالِف يسرد عليك قصص ألعاب المطاردة مع رجال الأمن، يلقون القبض عليه بين غابات سود، هو وماله، فينجو هو ويهلك ماله. اختلاء بين أشجار، مساومة على مال، يدفع المخالِف دائما ثمن حريته من ماله أو جهاز جواله. آخرُ يقول متحسرا: سلبوا مني سلاحا ناريا كنتُ قد سرقتُه، وهنا انتكاس الموازين فالمسروق أصبح مملوكا، ورجل الأمن سارقا. ودائما ما يُكْمل المُخالف بقوله: ما أرخصَ ثمن الحرية!
كنتُ أعملُ منذ سنوات كسائق أجرة في العاصمة، عرفتُ شاباً من باكستان، أفضى إلي بأسرار التزوير وطرائق الاستغلال وسُبل الهروب المضمونة وأوقات الاستسلام المناسِبة، ودائما ما يكون النجاح حليفه لأنه كما يقول: وراء كل عملية هروب ناجحة رجل أمن يقبِض، ووراء كل سهرة خلّابة ضابطُ أمنٍ يُسَّهِل، وخلف السُتر تُمسكُ الباشوات بأجهزة التحكم.
لا نعلم عن ماذا يبحث الباحث؟ ولا عن ماذا يستخبر المُخبر؟ ولا عن كينونة أمنٍ وراء رجل الأمن؟ المكافئات مُجزية والمرتبات عن غيرها مُستعلية، فأحال الحلال سحتا عن طمع، واللذة سُقما عن جشع.
كُل أمرئٍ راجعٌ يوما لشيمته ،،،،، وإن تخلق أخلاقا إلى حينِ.
عندما اكتمل بناء سور الصين العظيم وأُحكمت أسواره وأبوابه، لم تختفي السرقات ولم ينتشر الأمن، لأن رجل العصابة، دخل من عند حارس البوابة، مُقابل ثمن الخيانة. الأمانة ليست برفع الشعارات الخاوية فحسب، بل تنزيلٌ من غير رياء، وإخلاص من غير افتراء.

من يقود القطيع؟







يحكى أن تاجر قماشٍ دخل سوق المدينة فباع بضاعته كلها إلا الأقمشة السوداء، فشكا ذلك إلى صديقه "مسكين الدارمي" فاحتال له بحيلةٍ لطيفة، وأنشدَ له أبياتا طلب منه أن يذيعها في المدينة قال فيها:
قُل للمليحةِ في الخِمار الأسودِ ،،، ماذا صنعتِ براهبٍ متعبدِ
قد كان شمر للصلاة ثيابه ،،، حتى وقفتِ له بباب المسجدِ.
وانتشر الشعر في شوارع الدينة وذاع، فما ترك بابا إلا طرقه ولا سمعاً إلا ولجه، وما بقيت فتاة مليحة كانت أم غير مليحةٍ إلا وذهبت تشتري خمارا أسود ليُقال لها أنتِ المقصودة بشعر الدارمي. وباع التاجر بضاعته، وارتحل مسرور الخاطر ممتلئ الجيب. 
هذا النص ظاهره طُرفة يخاتلها دهاء، ومزاح في قالب خديعة، يُعربُ بجلاء عن قوة تأثير وسائل الإعلام وسطوتها على عقول المجتمع وقوة تحكمها على اقتصاد السوق ومكسب التاجر. 
أما باطن النص وخلف حروفه البريئة فهناك مؤامرة وحشية وسطو غير مسلح، هناك رسائل موجهة لمجتمع مُستهدف يفطن لها من يفطن. فتيات المدينة ذهبن للسوق وفي يقينهن أنهن في كامل حريتهن من غير إجبار ولا إكراه، فكُنّ يتمخطرن في عرصات السوق تمخطر الظباء الآمنة، يشترين الخُمر السود وما دار في خلجاتهن أنهن مُنقادات، لا يَملكُ أمرهن غير الدارمي ذاته.
هذا النهج هو ذاته ما تعتمد عليه الديموقراطية والحرية الحديثة بزيفها وخداعها في توجيه عقولنا، فالشركات الرأسمالية الكُبرى هي من تتحكم بفعالية في سياسة وثقافة كل المجتمعات.
أصاب خلل بسيط مطعما من مطاعم البيتزا مما نتج عنه عجزُ المطعمِ عن صنع بيتزا الدجاج لمدة يومين، لم يرد صاحب المطعم اضفاء منظر العجز على مطعمه أمام زبائنه المغفلين، فقط وضع عند واجهة المطعم صورتين، إحداهما مُضيئة براقة بألوان جذابة وحجم كبير لبيتزا الخضار، تنتظم على سطحها قطع الخُضار كما ينتظم الدُّرُ على صدر حسناء. والأخرى بتصوير مُبتذل مشوه مُصغر لبيتزا الدجاج من غير إضاءة واضحة. لم يتعجب أبدا صاحب المطعم الذكي من أن كل زبائنه خلال اليومين وبشكل تلقائي لم يطلبوا غير بيتزا الخضار.

نعتقد يقينا بأننا نملك حرية اختياراتنا، ولكن هذا يتنافى مع مبادئ هذا العالم المتوحش، نحن فقط مجرد عبيد وإن تأزَّرنا بالعِتق. عندما أرادت بريطانيا تدمير الدولة العثمانية دُمرت بأفواه البنادق العربية، عندما أرادت الرأسمالية فوز أوباما بالانتخابات الرئاسية فاز أوباما، عندما أرادوا نشر الأمركة قدموها لنا طُعما مع "همبرجر" لذيذ وفيلمٍ مُثير ودبابةٍ قوية، أثارتنا الأضواء كما أثارت قبلنا "رفاعة الطهطاوي" و "طه حسين"، كل هذا وغيره لعبةٌ يُتقنها الكبار فقط كما أتقنها "الدارمي" في القرن الثاني من الهجرة.




.

أضعتُ دليلي






اجعلها على حِجاجك الأيسر أو نُصب عينيك فلا تزيغُ وتتوه بين مسالك غاباتٍ موغلة أو في صحراء فاغرةٍ تتكالب عليك عندها أضياف الهوام وأوهام الضياع وتلمعُ أنيابٌ في ضُحى نهارٍ مُتقدٍ بين صور الآلِ ورسمات السرابِ الذي يحمل غيثاً في جعبتهِ بقدر ما يحمله من بؤسٍ وجفاف.
لم يعتقد من قال "اجعلها على حجاجك" أنها يوما ستحتجبُ وتهجر وتُهاجر، تحتجبُ بأسمالِ النأي، وتهجر أسمارَ التفَكُّه، وتهاجر عن عرصاتٍ كانت لها سماء.
تجدُ لبعض من يكتب ويُملي الحرف وجهةً أرادها باختياره لها هدفٌ لا يقوى تحقيقَهُ إلا بعلامات وإشاراتٍ تُنبههُ إن مال عن الطريق وغفل عن الهدف أو اغتر بتلك الذات البشرية المتهافتة أو استقبح منها ما لا يُستقبح في العادةِ أو أبان عن شيءٍ مكروه بزلة قلمٍ ساهي العقل ذاهبِ القلب.
ولستُ عن صحبي بمعزل، وما تحدثت إلا عن نفسي وحالي، ولكن الأيام إنما هي ثياب تُلبسُ وتُخلع، وما هي في تغير طبيعتها وتقلبِ أحوالها إلا لأنها تُلبسُ وتُخلع. بالأمسِ كنتُ بدليلي دالاً للطريق، وكان به الطريقُ لاحباً حَسنَ الدلِّ والدلال، أما اليوم فدليلي أفَل، ومُعيني توارى وذهب، بوصلتي مادت، هاجت وجاشت، وما كان من شِمالي أن أَضيع شمالي. لقد طواكَ الليل ولفكَ بكل ثقل الظلام.

أبعد عني القدر من كنت أرى نفسي تتوازن به على ميزان حُكمهِ وعدالة نقده بكل منطق الوفي الصاحب والمُحب المُخلص والقاضي العادل. كنتُ كلما وجدتُ نفسي أكثر ضياعا كلما وجدتُ نُصحه أكثر بياضا. في اللحظة التي كنتُ أعتقد أن عليَّ أن أموت فيها كان هو كل ترياق الحياة. لطالما أرحتُ قلمي عن البناء بعد التشييد لآخذ بتلابيب نُصحه وبمقبض سكين نقده فأُعمل تشييدا بعد التشييد. فتغدوا كلماته كملكات جمالٍ مجردات من البهاء الدنيوي ما إن يقعن على شيءٍ حتى يُصبح أكثر رقةٍ وألقاً، يفوح منه عبق الورد. رحل بعد أن كان لي قبل ارتحاله إبرة الشمال، لقد كذبتُ، إنما هي من كنتُ أجعلها على حجاجي الأيسر أو نصب عيني من غير أن تتزحزح قيد أُنملة. 

هدوء العاصفة



بفضل المنان، الكريم الرحمن، الناصر القوي الأمين، القادر الولي المتين. تمت وسكنت العاصفة، عاصفة المجد والإباء، عاصفة الكرامة والنخوة والشهامة، عاصفة الحق رفعِ الراية. برسمِ الشريعة فاءت الشرعية، وبمنهج رب السماء عاد رب الغبراء، صرخ الصنديدُ فَظَل العدل، ووجم الرعديد فَضَل البغي. هي الرسالة مضمونها:
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا  ......  أو تنزلون فإنا معشرٌ نُزل،، 
وقعت كلمات وقف الحرب فكان موقعها موقع الروح من البدن، ووقْعها وقع الماء من ذي الغلة الصادي. فالفرح صالحٌ محمود إذا وافق الموضع ولما يجاوز المقدار. فلله الحمد الذي سدد سهم الحق في رمي الباطل وحلَّ عقال الشر بيد الخير.
في الحرب تتعارك الفحول وتفتح المنايا أفواهها، فيكون لها في دفتر الأيام دم، وفي بيوت الشجاعة فراق وهجر.
للحرب وجهٌ قبيح ينزُّ بصديده وقيحه ليتقاطر قطرة قطرة على صفحات أُناس اكتنفتهم من غير رأي، وأحاطت بهم من كل جانب. للحرب زئيرٌ موحش تخطف مخالبه الأرواح وتمزق أنيابه أوصال العروق. للحرب مرداة صخرٍ تتهاوى، ترضخُ في مسالكها كل يابس غليظ شرس، ناهيك عن كل هامد وديع سلس. للحرب مثالب لا يعيها إلا من عاشها وعايشها واكتوى بنارها، لهذا لا يبغض الحرب مثل جندي.
للحرب سباع تظهرُ لمن كان يملك الشجاعة ليخوض غمارها فقط.
فلنرفع أكف الحمد لمن حمانا من نارٍ كانت ستأكل أخضرنا ويابسنا، وأبدلنا نعيم الأمن بجحيم الوحشة، ونرفع أكف الدعاء دعاءً لمن حملوا أرواحهم على أكفهم، وودعوا زوجاتهم وأطفالهم، لمن ذهبوا لردع البغي وقالوا سنعود فقالت الحرب لن تعود. لمن ترك حُبَّ الأب والأم والزوجة والابنة وهو موقنٌ أن الموت مُمسيه فإذ به مُصبحه. لمن لم يعزب العقل عنه ولا خذله رأيه ولم يركن لبلادة وجُبن وخناعة فنالته رصاصة الشهادة من بندقية الحاقد. لنرفعها دعاء بالرحمة وتضرعا بالمغفرة وابتهالا بالرضا، لنرفعها بُغيةً للقبول ورجاءً للصبر وأماني بحسن المآل.


رسن العقول ..






حنا معكْ في شرْ ولا في قِدا ،،، معكْ معكْ ولو فيها ازهدي،،
أحرفٌ مُزجت، وكلمات صُفَّت، يُمكن من خلالها إدراك حقيقة الشحنة الإنسانية الذليلة. ألفاظ لُطِّخت، وأقوال بُعثِرت، يُدرك من خلالها إمكانية إذلال الإنسان للإنسان بالعبودية. هي بيت من قصيدةٍ تكشف عن حالِ من نظمها بكل جلاء وبيان، زُخرفتْ بلحن جميل حلّقَ بها بين قنوات شعبية لترددها الألسن ويتراقص على نغماتها قلبٌ فارغ وفؤاد لا يعيي ما يسمع.
من مشكلاتنا أحيانا أن نتبرأ من ملكات العقل البشري لنتقبل وبكل جهالة لسان الببغاء المُقلد. وكأن عملية التفكير عملية رياضية صعبة المراس، مُنهِكة القوى، سالبة رأس المال، مُنحِلة للجسد، تُعيبُ من يُعمِلها، وتُسودُ من يُهمِلها.
خلف السُتر جهلٌ مُركب، ووراء الكلمات معاني خفية، يقبع المعنى منها على قواعد هشة ويقوم على منابر من سراب. مالا يقوى على قوله قائل تلك المقولة أنه إنسان، إنسان له الخيار، إنسان يملك حرية نفسه. حباه الله عقلا فعطله باختياره وسلم قيده لغيره فما عاد يقوى التمييز بين صالح أمره وطالحه، وخير عمله وشره. بل هو إعلان مبطن بمدى فداحة ضعفه في اتخاذ قرار، وكِبر احتقاره لذاته، فذاته المسلوبة في سماء الفكر هي وباعترافه كقطيعٍ لا يملك اختيار منطقة رعيه فالأمر دوما يعود لمشيئة الراعي.
ليست بشهامة بقدر ما فيها من خنوع، وليست بشجاعة بقدر ما ترفلُ في وحل الاستعباد، وليست بسمو بقدر ما هي بِركة راكدة لحشرات الكون لا يحركها إلا صخرة تُلقى. فقد تساوت كفتا ميزان الخير والشر فلا عقل ولا شرع يُعولُ عليهما لترجيح إحداهما عن الأخرى سوى قرار من بيده الرسن.
متى نتعلم ألا نقول إلا ما نريد، فقد ضجر الكون كذبا، ومل القلمُ زيفا، وضاق الورق خداعا، وكأن الصدق جُدري والحق فيروس مُعدي. لسنا مضطرين للخداع حتى نبقى على قيد الحياة، ولن نُدفن ونحن أحياء. أجزم أنها العادة الجاهلية والانقياد الأبله للقبلية التي هي ذاتها من جعلت شاعر الجاهلية دُريد بن الصمة يقول في ذات المعنى:
وما أنا إلا من غُزَيَّةَ إن غوت ............. غويت، وإن ترشد غُزَيَّةُ أرشد،

قاموا فقمْت، سكنوا فسكنْت، زمجروا فزمجرْت، صمتوا فصمَتْ، زجاج مطحون في عَظمك، وفراغٌ مضغوط في رأسك، وهذا دليل قطعي واضح الدلالة على عدم وجود هوان أهون من هذا الهوان.


مملكة الليقرال









كان هنا قبل ألف سنة، لم يكن تَخطى بعدُ سن الطفولة سوى بأقل من مئتي سنة، كان في صمته بحة، وفي حديثه شدوٌ، مجرد جوالٌ غجري، الآن ملامحه لم تتغير كثيرا، فقط برز تورمٌ في كفِه الأيسر بالقرب من أسفل أصبعه الإبهام. في هذا المسار من الزمان كان يجد الرائحة النتنة التي تنبعثُ من خلف تلك الصخور. والتي تخطتها الشمس، بعد ذلك بفترةٍ قصيرة، عندما ظهرت عليها لأول مرة، تخطتها احتقارا لها، ورِفْعَة عن نتانتها، لم تعتبرها إلا وَرَماً شاذا في كف الزمان المستوي بالقرب من إبهامه الصغير.
كان هنا بعد أن سمع بالملكِ الخوار، الذي يسكن في الجوار، تاجٌ على مملكة "الليقرال"، هو ذات الملك العالمُ بكل شيء عدا الخطط العسكرية وقيادة الرجال، كان يحلم بأن يكون له تاريخا يذكره ومجدا يبنيه لأحفاده، فما استقام له فكر ولا انتفع بمشورة، لابد وأنه كان أخرق، بل أخرق، حتى أن حفيده الرابع والذي كان من غير عينين بالوراثة كتب في مذكراته أن جده الرابع كان أخرق.. لم تُشرق عليهم شمس منذ ألف سنة. يجهلون كيف كانت البداية؟ كان في كتبهم أن هذا الزمن هو زمن ستغزوهم جيوش قادمة من مكان يُسمى الشمس، في السماء! فإن هم حاربوهم وردوهم فهو الخلود لهم.. وأثناء ذلك و تحت عفاريت الظلام ولسعات البعوض يجلس الملك متحسرا على حظه الذي أنجبه في هذا الزمن.
 
يدخل الغجري مملكة "الليقرال" بصوفِ ثعلب ولحافٍ من وبر، تُغطيه ملاعق وكؤوسَ من الجص الأبيض، كان من ذوي العجائب الخرافية و التي اقتنصها من رهافة سمعه وطول عمره ومن معاشرته الضباع.  سمع ما وقع على الملك الخوار من همٍ وحَزن، فاستأذن لرؤيته ليعرض الحل المستعصي أو  يبعث بريحٍ تُجلي هذه الكادرة، أدخله القائد للمثول بين يديه لعل السماء تنطق بلسان هذا الغجري مالم تنطق به على لسان وزرائه وحاشيته، وبعدما أبدى القائد للغجري أمانيه أمام عجزه، وغاية منتهى فكره أمام جبنه وضعف قلبه، حكّ الغجري رأسه، أخرج له قارورة صفراء من بين ملاعقه وكؤوسه، ناولها للقائد وقال: نصرك بداخلها، وخلودك تحت غطائها، اشرب منها ثلثها واسكب الباقي في ماء شرب الجند، ستندلع فيكم الشجاعة والنيران وتؤازركم الحيات والثيران،، هذا بول تنين الأرض الخامسة المتعدد الرؤوس، مَن شربهُ يخرُّ له الطغيان تحت قدميه، وتركع الأهوال لعبادته، ولكنْ احذر،  فأعينكم ستنطفئ ويخرج منها الجراد الأزرق، استبشر الخوارُ بعد تأكدهِ أن الأعين نوافذ للخوف فإن هي أُغلقت لم يعد للجبن مدخل ولا مولِج،، ملأ القائد ثياب الغجري بالذهب وولى لأمر حاله، حان الوقت كما ذكَرت الكتب، وتغيرت السماء وبدا كما لو أنها فعلا ستغزوهم جيوش الشمس، هالهم النور وارتعدت فرائصهم، وأمام جيوشه بدأ بول التنين ينساح في حلقِ القائد مرا علقما، ليُبقي لجيشه ما يُبقي لسد رمقهم وعطشهم للنصر، كما قال الغجري اندلعت نيران قلوبهم وتسمَّلَت أعينهم جميعا حتى الدواب،،
أشرقت الحقيقة من خلف تلال مملكة "الليقرال"، في ذات اللحظة التي أُقفلت فيها أعين المغفلين وفي ذات اللحظة التي صمتت فيها جنادب الليل، أشرقت لا يطفئها بول تنين ولم تشعرْ بمُسَمَّلي أعين. في خطوة خاطفة أشرقت واحتضنت مملكة "الليقرال" وما جاورها من ممالك،  ليلامس شعاعها كل مُضغةٍ صالحة لم تُسمَّل أعينها.
بعد ألف سنة كان هنا، حيث ما زالت الأجساد تخوضُ في مستنقعات الفناء، والأعين منطفئة والألسن تحكي انتصارات "بني ليقرال"، انتصاراتهم التي تغلبت على جيوش الشمس، كما مازالوا يحكونها في المواخير التي تبعث الأبخرة النتنة من خلف تلك الصخور ....... 

عزائم العزمِ في عواصفِ الحزمِ




لا شيء أرفع من العزة، ولا عزة من دون حزم وقوة. ولا حزم ولا قوة إلا بالله. ثارت الثورات وعصفت العواصف بمن حولنا، والجاهل فقط من أيقن أننا عنها بمنأى، وعن الاكتواء بنارها بمنجى. ففي هذه القرية العالمية لا بد وأن لكل واحدٍ ناقةٌ أو جمل. منذ فترة ليست بالقصيرة كان المد الصفوي يُزخرِفُ قوانينَهُ بمداد الدماء، وبشهوانية الضباع، وبجبروت متجبر، وبطغيان طاغية، قتلَ وسفكَ وقصفَ المساجد وشوهَ الإسلام، خانَ وغدرَ وسبى النساء ويتَّمَ الأطفال. أحاط ببلاد الحرمين إحاطة السوار بالمعصم، أرادها وثنية مجوسية إباحية كما أرادها أسلافه من القرامطة والعبيديين والصفويين. ولكن الحق يأبى إلا الانبلاج ولو من تحت سرابيل الظلام والمحنة. والغراب إن رأى البازي سيولي الدُبر.
في التاريخ عبرة، وفي محاضرات الماضي درس وعِظة، فقد ضاقت بالأمة الإسلامية الضوائق وحاق بها كل حائق، وتآمر عليها أعداؤها لإطفاء جذوتها واقتلاع جذورها، فوقف لها فيمن وقف عماد الدين زنكي وأشهر سيفه وسيف أبنائه وأحفاده حتى أقام العدل وأروى سيفه. ثم دار التاريخ دورته واستأسد الشاه اسماعيل الصفوي حتى سلخ سليم الأول جِلدَهُ سلخ الشاة في جالدران. ثم دار التاريخ أيضا وبذات الدعم الصليبي الحاقد فاستضبعت إيران الفارسية في هذا العصر وحفرت أَوجِرتها في الشام واليمن، فأيقظ اللهُ ملكَ الحزمِ سلمان، فجمع كلمة الإيمان، ورأَبَ صدع الخذلان، وأزالَ تفرقة الإخوان، فأشعل ملكُ الحزمِ عاصفةَ الحزم. عاصفةٌ ثارت بغتةً فلم يفِقْ منجمو فارس وكهنتها إلا بعد أن رجمتهم حجارة العرب عقبَ الرأفة، وضربتهم صواعق الغضب بعد الحِلم، فدكت معاقلهم دكّاً، فخر عليهم غضبُ السماء، وخرج من الأرض كُل هِزبرها. فلا ملجأ ولا منجى، ولن يقِ الفأر جُحرٌ، ولن يمنع القط تودد. لا دفاعا عن وطن وتراب فحسب، بل كرامة ونصرة لراية توحيدٍ يُراد بها التنكيس، وحفاظا لحرمين شريفين يُراد بهما التهديم والتخفيس. يغفل الفرس أن الروح العربية قد تخبو ولكنها لا تموت، والدم العربي قد يبرد ولكنه لا يجمد، وأن الإسلام يَبقى مُوقِدُهُ ومصدر اشتعاله. في عاصفة الحزمِ حزمٌ للهمم الأبية والأنفس الزكية، وحَزمٌ للفرس ومن شايعها في حِزمٍ من حطبٍ يُوقد منها نارٌ في الجنوب العربي تلتهم كل نار أوقدها مجوسي في بيتٍ عربي..


مُسِنَّةٌ غير مرحبٍ بها






مُسِنَّةٌ غير مرحبٍ بها

قبيل مساءِ يوم حار، كانت مدينة "الدمام" تلف سكانها تحت رطوبة إبطها الخانقة، وعند محطة توقف الحافلات، ينتظر البسطاء من أصحاب الأعمال حافلتهم اليومية تُقلهم إلى مخادع نومهم.
يجلس "كتاب" كذلك يتأمل واقعه، معاناةٌ حامضة ترجُّ جسده النحيل، وصداعٌ يُفتتُ رأسه، يستشري طعم الليمون على لسانه، وتهرب الابتسامة منه كما يهرب الناس، استقلَّ تأثيره على واقع متسارع محموم بحمى المال، تخرج أمام ناظريه مشاهد ماضيه الزاهر وأصداء كلمته المسموعة وسلطانه القوي.
تقف الحافلة متأوهةً متألمة، تقطر عجلاتها عرقا، وتتمنى لو خرج هواء روحها لعل ارتخاءها يُعجل براحتها من حمل هذه الأكوام المتكدسة من البشر.
يُصارعُ "كتاب" للحافلة متمتماً "لم أعد أقوى الوقوف، ولن أصل لبيتي واقفا بين هذه الأرتال". كأنه حطّ من المشتري ارتمى بجسده بجانب ابنة عمه المُسِنَّة الوافدة منذ أيام من بلاد الغُربة ليصدر صوت ارتطامه صوتاً ضحِك منه فقط راكب واحد. أراد مُصافحة قريبته فما غاب عن أنفه رائحةَ الهمِ التي تفوح من جسدها فأثار في نفسه الشفقة والوفاء ليسأل عن حالها.
صديقتي "سينما" ما هذا الشحوب؟ يبدو أنك متعبة أليس كذلك؟
-         الجسد يا ابن العم في راحة، والروح في عناء، ولكن دعك من المراوغة يا شقي، فلا تستطيع أن تخفي أنتَ مظاهر النكد والإعياء تحت هذه الوجه المتلبد بالسواد.
-         أنا كتاب، وكتابٌ مفتوح، وهذه شقوتي، فحالي لا يخفى عنك، فما أزال ميتا بين الأحياء، رحلَ مجدي، وأفَلَت شمسي، مُقسِمة ألا تُشرق، فاستمرَ ليلي من غير انبلاج.
أمسكت "سينما" بأطراف أصابعها رأسَها وأغمضت عينيها كمن أرادت خلع الواقع كُله،،
-         يبدو أن ليلك يا "كتاب" أكثر صفاء من ليلي، ولكنه ليلٌ في كل حالاته. تأكلني الحسرة وينهش لحمي طول الطريق وعناء المُهمة، وصلت إلى هذه المدينة ولم أجد عملا كما أملت.
-         ولكنكِ لستِ المُلامة، فهناك جَشِعٌ ومُفسِد.
نظرت "سينما" عبر النافذة، تتمنى لو تهرب إلى حيث يقع بصرها، ولكن صوت هدير "كتاب" لم يجد في نفسها صرخةً تردعه.
-         عزيزتي، تراكم المشكلات مشكلة، والشجاعة في تقديمِ البديل، وفعلُ الاتفاق بيننا أنفع لنا.
أحست "سينما" بأن هناك وحيٌ جديد، وسحابة مُثقلة بالخيرات وراء ذلك الوجه الكالح، فنطقت عيناها بحبُ المزيد. و"كتاب" بشقاوته لا يجهل حديث العيون.
-         ألستِ عند العامة أكثر ظهورا وأقوى بيانا مما يُنقش بداخلي؟ ألستِ تمتلكين قُدرة الإبلاغ بجمال وجهك وحسن صوتك وبهاء ألوانك؟
ثم أراد أن يُلقي ورقة الإقناع بعدما لاحظ اقتراب جسدها منه بأن اقترب منها يهمس:
-         ثم لا تنسيْ كسلَ هؤلاء وشغفهم بالسرعة والاستعجال، ثم أن قليلا منهم من يُقلب صفحاتي ويفارق أحضانك!
-         نعم..
-         إذن عودي فالعود أحمد، ولكن أنصتي للخطة، اخلعي عنكِ عُهر أصلك، وثقافتك المستوردة، ارتدِي من ثيابهم وتحدثي عن آلامهم واشربي من مائهم، انبثقي كنبعٍ أصيل من بين جبالهم، يحمل طعم الأرض وأصالة الجذور. لا أخفيك عزيزتي فقد عاشرتُ هؤلاء القوم، هم يحلمون بصوت لهم يُسمع وصورة تُجلِي حقيقتهم وسط أدغال الحاضر، كوني لهم عونا على إبداع منهج خاصٍ بهم، اقتربي مني،،، هم مقتنعون بعدم جدوى عملك بينهم وأنتِ تمثلين ثقافة غير ما اعتادوا عليه، ثم أنك بذلك كمن تقوقع في قوقعة ويخشى الخروج.
-         وأنتْ، ماذا عنك، وماذا تقصدُ بأن الاتفاق بيننا أنفعُ لنا، وأنتَ بوتقة الثقافة ومدارها المُستحكِم؟
-         أنا ابن بيئة هؤلاء القوم، ظاهرٌ مِن حُرِّ مجتمعهم، ولكن القافلة رحلت وأنا نائم، سأفتح لك صفحاتي فانهلي منها ما راق لكِ. تُراثي، قصصي، حكاياتي، رواياتي، حِكمي التي نقشوها بأصابع الزمن. تعلمين أنِّي لم أحصل على جواز سفر لتخطي الحدود، فقط بكِ أُصبحُ نورسا يُحلق، وروحا تُحركُ العقول، فأزرعُ بكِ بذور أشجار الفضيلةِ شتاءً وأحصدها صيفاً.. ما رأيك؟

عادت "سينما" تنظر للخارج وكان الليل قد ازدادت ظُلمته، وتفَشى مرض الخوفِ بداخلها، فصَلَّت ألا يكون مستقبلها كذلك. حيثُ حمى الجدال تكون الطاغية، وحيث الشعور الصاعق بالضياع. 

شكرا ياسر ..







تلقيتُ دعوةً كريمةً للمشاركة بجُهدِ المُقلِ في صحيفة إخبارية حائل، فكانت عندي ثمينة غالية، فيَّاحة فيَّاضة، جوادة سخية، بين طياتها شرف الداعي وأصالة الراغِب، فوقعت مني كما يقع الماءُ من ذي الغُلة الصادي.
وقد قالوا: من أكرَمك بالداعي فأكرمه بالوصل، ولا وصل عندي يوازي شرف الداعي إلا الوصل المحض وشدّ حبال عُرى الإنعامِ بعُرى المنح.
وما أنا إلا طالبُ قبولٍ وخاطبُ أُلفةٍ برَحلٍ قليل من حروف، وزادٍ زهيد يخرجُ من قلم، فالأماني أن يجد هنا متسعاً وفي أعينكم إعجابا، وبداخل أفئدتكم رضا وبيانا.
يُقال من ابتغى هدفا حتما سيصل، ومن عرف الطريق أدلج، ومن أدلج بلغ، ومتى ما كان الهدف سامي المقصد، عالي الرُتبة، كان أقوى أثراً وأوضح حُجة وأوقرُ في القلوب والأبصار.
وهنا بإذن الله ستكون الحروف كريمةً ككرم حائل، واسعةَ الصدر من غير حائل، بطبعٍ يتْفِقُ دون لونٍ حائل، وكما أخبرني الداعي فأسبوع والِد وأسبوع حائِل، والمُراد ردُّ جميلٍ لأهل حائل.
وعلى هذا المنبر نبتغي الأمانة سراجَا, والصدق منجاةً، فنحْذق أماكن الزلل، ونُبصر عثرات الطريق، فنُزيحها بهمة التعاون ونُجليها لخدمة البشر، بالمِعولِ الناعم والقلم المُبين. فاصبروا على كِظَّتنا واحتملوا ثِقَلنا، والأيام تُولِدُ التآلف. ولن أنتهي حتى يبلغَ الشُكر للأستاذ ياسر، على ثقته التي أدعو الله أن لا أُخِيب ظنه فيما ظنه بي، فمن ظن بك حسنا فتيقن به حسناً. فالشكر لك أبا عمار متَتابعاً يَتْرَى، فيه من المِسك نَفحاً وعِطرا. 

تذكرةٌ لحامل قلم






تَذكرةٌ لحاملِ قلم

رأيتُ مُصطفى الأدبِ، صادقَ البيان، رافعَ العربيةِ، الأديب "مصطفى صادق الرافعي" فيما يرى الرائي فإذ به رجلٌ مُقذَّذ، على عرش مُدجَّل، في بيتٍ مُنجَّد، على نهرٍ قد استنهر، وفي مُستقرٍ قد استبحر، يلتقط الحرفَ فيغدو كالكوكبِ الوضّاء ويعلو بالمعنى فلا يتململ بل يستقر في مكامنِ النفوس، فنظرَ إليّ بعين الناصح وقال:
إن من عادتي أيا بُني وأنا أكتبُ الفصولَ أن أدعَ الفصل منها يتقلبُ بالخاطر في ذهني أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس وأترك أمره للقوة التي في نفسي فتتولد المعاني من كل ما أرى وما أقرأ وتنثال من هُنا وهُنا ويكون الكلام كأنه شيءٌ حي أُريدَ له الوجودُ فوُجِد. ثم أكتبُ نهار الجمعة ومن ورائه السبت وليل الأحد كالمدَد من وراء الجيش ثم أبعثُها وتُنشر للقراءِ يوم الإثنين.
فقالت نفسي: ومن أجل هذا حقاً أنت أديبُ العربية وما أنت في جَهدك حتى تُعمل في سبكِ المعاني فتنبثق السبيكةُ من بين خاطرك وفؤادك وفكرك حتى يرتَشفها قلمُك من مِحبرةٍ يكاد سنا برقها أن يذهب بالأبصار.
وارتفع الرافعي مترفِّعاً فوق القمم ثم برزَ من بين الحشائش "أنيسُ بن منصور" ضاحكا مستبشرا بعد أن سمِع دُرَّ الحديث يقول: أما أنا فأكتب كُل صباح مع بزغة طفل ذاك الصباح، فأضع رأسي، ينسكبُ ما فيه حتى تغدو البيضاء الخاوية مزركشةً بالسوادِ المُوَشَّى، فيها ما يريحُ فكري وصدري ثم أبعثها في ذات اللحظة فتكون بجهدٍ قليل ووقت مستمر.
فجال في خاطري أن نعم وهي كذلك تأتي كالوجبة السريعة، طيبة المذاق سهلة الهضم تُوجبُ التخمة قليلة الفائدة. ثم سَرت عني ظُلمة الكّرى، وداعبت أصابعُ اليقظة أجفانَ النوم، فما بين صحوةٍ وغفلة، حتى سمعتُ الشاعر العباسي "مسلم بن الوليد" يقول لأبي العتاهية: والله لو كنتُ أرضى أن أقول مثل قولك:
الحمدُ والنعمة لك          والمُلك لا شريك لك
لبيك إن المُلك لك
لقلتُ في اليومِ عشرة آلاف بيت، ولكني أقول:
موفٍ على مُهجٍ، في يومِ ذي رَهَجِ      كأنه أجلٌ يسعى إلى أملِ.

نعم أعزائي، ما هي إلا كذلك فشتان ما بين الأمانة والهواية، فالأولى حملُ راية وقيادة أمة وكشف ظُلمة والأخرى للمتعة واستمطار النوم من سحائب الأرق، بل الأُولى ورق وردةِ "الأُوركيد" تفتَّقت عن عبقٍ لو اختار العبق أن يكون له اسماً ما اختار غير اسمها، والأخرى نبتة لاحمة تكون أفخاخا حمراء زاهية تفتَّقت فكانت لاصطياد الحشرات. فالخيارُ لك فُكن جاهدا لنفسك ومُتعبها تنل مجداً سائرا في القوم، أو كُن فقاعة صابون تعلو بالنفخ بين أوداجها ويثيرها التصفيق ثم ما تعدو أن تنحبس وتنفجر وتختفي عن الوجود كأن لم تكُن.

رسالة إلى وزيرنا الطريفي





إلى وزير الإعلام "عادل الطريفي" :

لا أخفيك فأنا عيِيٌّ في سبك سبائك التهاني والمُباركات، وفي تقليد قلائد المدح والثناء السابقةِ لأوانها، فمنك العذر فهذا جُهد المُقل، فلا في الصمتِ نقصٌ لكامل، ولا في الثناء زيادة لناقص، فخذها حوراء حنونة، ناصعة مُشرقة كفلقِ الصبحِ الوضّاح وكعين الشمس لا يسترها غربال.
كما لا أخفيك أنّي قد زورت حديثا في نفسي ثم آثرت محوه عن نشره، وجعلته تحت الصفيح لسذاجته وسقْطه، ولعلمي أنك عليمٌ بما قد كنتُ أضمرت، فمن مثلبةِ الكمال ترديد ما قيل وتكرار ما أصداؤه تُتناولُ من فمٍ إلى أذن مع تعاقب الساعات والأيام.
ما أرانا نقول إلا مُعارا                         أو معادا من لفظنا مكرورا .
فذاك السترُ وهنا الإبانة، فصحافتُنا عليلة، فرائصها ترتعشُ آناء الليل، وريقها يجفُّ في الغدو والأصيل، شفاهنا مُغلقة، عليها حرسٌ وحُفَّاظ، يسمحون وينزعون، عقولنا تُضرب بالسياط وتُنَصَّبُ في دهاليز الظلام، أقلامنا مكسورة وأوراقنا مُجدِبة، والطُرق حصباؤها الجمر تُفضي إلى خَلاء.
يتنادى القوم بسقف الحرية الصحفية بأحاديث نسمعها أحلاما ما بين هاجعٍ وهاجد، نطردها سرابا ما بين لاهثٍ وناصِب، شعارات تُرفع مُخرَّقة بِخرقِ التزييف والخديعة.
لك أنتَ أن تستحيل بها رايةً خفاقة، ودروبا سوية متزنة، عالية عن السفسفة والسفسطة، بل نقية نقَّادة بنّاءة، لك أنت أن تسمح للحق بمزاحمة الباطل وللباطل بمناكفة الحق، دعها حلبةً أدبية فكرية، كلٌ يُدلي بدلوه ويضربُ بقدحه، من مُنطلقٍ إنساني واحترامٍ ذاتي وكشفا لما في الفكرة من نور، من غير تجريح لشخص أو سبٍ لذات بل بيانا يسمو بالذائقة ومعنى تتحرك به العقول، اجعلها ميدانا تُجندلُ الفكرةُ الفكرة، ويُسقطُ الحرفُ الحرفَ.
فَكُن من الناس كالميزان معتدلاً       ولا تقولن ذا عمي وذا خالي .
مجتمعنا زاخرٌ كالبحرِ في أعماقه، أقلامٌ فيَّاضة، عقول وضَّاحة، ألسنٌ سوية، أقعدها الرقيبُ، وعقَد أجنحتها التأويل، وطوى أقدامها الحذرُ والتحليل.
عبقرية الحرفِ لا تكون في رسمِ الطريق للأفكار، وتقريرِ حدودها بالحدود، بل في إرسالها على وحدةٍ من التسديد تستقر به في النفوس البشرية، فضاءُ القلمِ فضاء، وسماؤه سماء، لا تحده إلا حدود النَّيِل والتقريع، فاجعله في عهدك يسمو ويُحلق، ويعلو ويُنافس، ويجولُ ويناقش، إن كّتب فاللؤلؤ وإن محا فالحكمة. القلمُ المبين يكون للصحيفة منارةً لا مصباحا، ودُرة لا خرزة، وتاجا على ناصيتها لا حذاء تسير به. فنصف التمويه رذيلة والنصف الآخر نقيصة.

وفقك الله للخير.

فاحِّص







بما أننا نسبحُ مجبرين في نظام يتقنُ انتاج البرامج التي تأتي مصادفةً بمسميات على وزن (فاعل)، فلا ضير إن أضفنا واحدا على الأربعة الموجودة إن كانت فعلا أربعة فقط، فأنا قليل الاطلاع على البرامج الحكومية الفاعِلة.
ما سأقترحه سأطلق عليه برنامج (فاحص)، إنه اسمٌ جميل أليس كذلك؟ فمن الواضح ألَّا علاقة له بالمال والجِباية ولا بمحافظِ نقود المساكين.
"فاحصٌ" هذا يستهدفُ كُل ماله علاقة بالكتابة الصحفية، فإن أثبت جدارته وفاعليته فلا مانع عندي من بيع براءة اختراعه لدور النشر والطباعة، وإن أراد موقع "تويتر" أن يُخضع محتواه العربي لسُلطته ونظامه فلا ضير في ذلك والأجر على الله.
"فاحصٌ" هذا مُلمٌ بكل علوم اللغة العربية –التي قبل أيامٍ تشدَّقنا وتفاخرنا بيومها العالمي الذي لا نعلم عنها إلا به– وبكل أقسامها وتصنيفاتها، فيكون جهاز مرورٍ للنحو والإعراب والبلاغة والبيان والبديع وغيرها، وما على الكاتب المُحترم إلا أن يبدأ الكتابة حتى يقول له "فاحص": هل تقصد هذا...؟ أرأيتم لم أسلبْ منكم ضحكةً ولا مالاً! فقط نريد بيانا وتبييناً!
لا شك سنعاني في البداية من خللٍ في "فاحص" لما سيعانيه من شدة الضغط من جراء كثرة التصويب والتعديل وطرح أسئلة "ماذا تقصد؟" والإنباءِ بنبأ الكلمة المحجوبة لظروف أمنية، أو التي تُشطب فورا لمساسها بما لا يجب المساس به، وهكذا دواليك حتى يُصبح عادة وتقليدا متبع. ولكن من الفوائد المجتناه من بين أفنان تعقيداته المتداخلة أن تزداد نفوسنا وقلوبنا وعقولنا صقلا وقدرة على التذوق وعزلا لنداءات الوقاحة التي تُطالبُ بالانخفاض لمستوى الأدنى والأكثر رواجاً، وعزل السُّخف الذي ينحلّ صديده من العقول.

"فاحصٌ" هذا لن يُدشَّن رسمياً ولن يُحتفى به، ولكن لنُدشنه نحن في ذواتنا وعلى ألستنا، نرتَضعُ منه مادة نبني بها العقل والنفس، فما من لغة يُسفهها أهلها إلا كانوا أهل طيشٍ وهوى، وما من أحدٍ ينتقدها إلا لما حاك في صدره من صعوبةِ ارتقائه لسُلمها لجهالة تعتريه وهوى يستهويه فبنى دونها حاجزا فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً. فلنُلقي بهم وبعاميتهم خلف أظهرنا و لنُثبِّت "فاحصا" بنسخته الكاملة التي تقبل التحديث التلقائي ومن دون أدنى معاناة وسنفرح لاشك بالنتائج.

هيَّاب .





أقفُ على جبلٍ رقيقٍ مشدودٍ بين الحقيقة والزيف..
حقيقةٌ هاوية.. وزيفٌ مُهلك...
لحظاتٌ خاوية.. وفِكْرٌ مُمْسِك...
العقول تحت قِحَف الجماجمٍ حالِمة...
فإذا انشطر الجسدُ فالروح دائما مُستحكِمة...
جراحُ الضميرِ ومالحُ الذكريات المؤلمة..
خياراتٌ شائكة، ولن تُشاركني الحصباءُ دماءَ أرجلٍ حافية.
....................