نظرات من كتاب ( المملكة ).. الجزء الثاني .






نود أن أشير هنا وقبل أن نكمل ما سرده لنا ( روبرت ليسي) كيف تمت تصفية وإنهاء قوة ( الإخوان) المرعبة. فبعد السيطرة على الحجاز تجاهل (ابن سعود) (الإخوان) وخاصة بعد أن أصبحت أعمالهم لا تروق له، فبعد تقطيعهم لخطوط الهاتف في جدة عام (1925) على أنها من الأعمال المحرمة والمنكرة في الإسلام لاعتمادها على أعمال السحر والشعوذة، كذلك نظرتهم لقائدهم (ابن سعود) عندما غادر الرياض عام (1924) متوجها للحجاز على ظهر جمل وعاد إليها وهو يجلس في المقعد الأمامي لسيارة لم يروها قبل ذلك، فاعتبر (الإخوان) ذلك نذير سوء. فقام على إثر ذلك قائد الإخوان (فيصل الدويش) وخاطب (ابن سعود) في مناسبة عيد الفطر وقال: (الآن وقد تم ضم الديار المقدسة، على المسلمين الصالحين أن يحترسوا من التأثيرات الأجنبية المضللة. ويجب عليهم كذلك أن يراقبوا أي انحراف عن الإسلام الصحيح وأن يعاقبوا عليه، ليس فقط في حالة كحالة الشريف حسين، بل كل من سار على خطاه وارتكب المنكرات التي ارتكبها الشريف) وبعد هذا كله اعتبر (ابن سعود) غطرسة (الإخوان) مهينة وخطيرة.
ثم جاءت بعد ذلك الطامة الكبرى،والعار الكبير الذي لحق سمعة (ابن سعود) عندما قام (الإخوان ) بمنع الحجاج المصريين والمحمل وهو كسوة الكعبة المشرفة والتي اعتاد المصريون أن ينسجوها سنويا، من الدخول لمكة وأداء مناسك الحج لأنهم شموا رائحة عبادة الأوثان عندما رأوا المحمل المزركش محمولا على الأكتاف. وجرح منظر حرسه المسلح كبرياءهم وعندما دوت (الموسيقى) (نفخت الأبواق) أثناء تجمع المصريين لمناسك الحج،و اعتبر الإخوان ذلك بمثابة انتهاك لآخر المحرمات.
مع مرور الأيام زادت إحراجات الإخوان لـ (ابن سعود) أمام الإنجليز وخاصة على الحدود الشمالية مع العراق والأردن، فهؤلاء البدو مؤمنون بالجهاد ولم يعترفوا بالحدود الدولية وكانوا على استعداد للتخلص من سلطة (ابن سعود) فورا إن هو رفض قيادة جهادهم ضد مخافر الكفار. حاول عبد العزيز أن يشرح مأزقه إلى بعثة بريطانية جاءت إلى جدة في مايو (1928) لبحث مشكلة الحدود معه.ولكن لم تكن هذه المرة الأولى التي يلتقي بها ممثلو بريطانيا بعبد العزيز سعيا لإيجاد حل للمتاعب على الحدود الشمالية.

زاد تمرد (الإخوان) حتى أصبح يطلق عليه (تمرد البدو). فاستغل (ابن سعود) ثروته ونفوذه للتأثير في القبائل فمنح كل شيخ قبيلة ستة جنيهات من الذهب لقاء كل متطوع من قبيلته ومنح كل متطوع مبلغ ثلاثة جنيهات ذهبية ومع هذا الدعم تجمع جيش (ابن سعود) لمقابلة (الإخوان) في سهول (سبلة) عام (1929) بقيادة الإخواني : فيصل الدويش. ولم تدم المعركة أكثر من نصف ساعة فقد حصدت الرشاشات البريطانية بدو (الإخوان) في لمح البصر.

ننتقل هنا إلى الفصل الرابع من الكتاب والذي عنوانه (البترول) فبعد أن تطرق المؤلف لسفر فيصل بن عبد العزيز إلى أوروبا للمرة الأولى عام (1919) ضمن زيارات حلفاء بريطانيا وفيه تعهد عبد العزيز الأب لبريطانيا على لسان فيصل بأنه لن يشن حربا ً على الحجاز الذي ما زال يحكمه (الشريف) الموالي للإنجليز، لمدة ثلاث سنوات قادمة على الأقل. مع أن فيصل وقتها كان عمره (14 سنة) لذا كان لزاماً عليه أن يخضع لدورة تدريبية في الباخرة البريطانية المتوجهة إلى لندن للتدرب على الموائد الغربية وكيفية استخدام الشوكة والسكين.

وعرج أيضا على اجتماع الأربعين (حرامي) كما أطلق عليهم تشرشل- رئيس وزراء بريطانيا آنذاك- 
وقد عُقد في القاهرة عام (1921) لمناقشة الخلاف بين الزبونين العربيين و اللذين كانا يطالبان بالإعانات البريطانية لتمويل معاركهما ضد بعضهما البعض،وايضا لتجزئة الجزيرة العربية والشام والعراق وكانت النتيجة أن تكون سوريا ولبنان لفرنسا أما فلسطين فللانتداب البريطاني والعراق يبقى لفيصل بن الحسين تحت رعاية بريطانيا وشرق الأردن تحت حكم عبدالله بن الحسين أما الحجاز فللشريف الحسين أما عبد العزيز (ابن سعود) فتُرك وشأنه في نجد على أن تُرفع له الإعانة كنوع من التعزية. وكأن هذا الاجتماع ما هو إلا تنفيذ لإتفاقية (سايكس – بيكو).

يأتي هنا المؤلف لقصة الذهب الأسود (البترول) وكيف أن الصدفة والحظ لعبتا دورهما ضد الإنجليز والذي لم يُكتشف بكميات تجارية إلا في عام (
1938) من قبل الأمريكان بعد أن نقب عنه رجل الأعمال والمنقب النيوزلندي ( الرائد فرانك هولمز ) عام (1922) بعد أن  دخل في صراع مع البريطانيين من أجل الفوز بامتياز التنقيب في الجزيرة العربية، فقد إلتقى (هولمز) بـ (أمين الريحاني) وسلمه رسالة لإبن سعود يطلب فيها منه منحه امتيازات التنقيب عن النفط في الأراضي الذي تحت حكمه، على أن يدفع إيجارا سنويا من الذهب. ولكن (السير بيرسي كوكس) لم يرق له هذا النيوزلندي فأخبره عن صعوبة منحه هذا الإمتياز متعذرا بأن الحكومة البريطانية لا تستطيع حماية شركته وسط هذه الصحراء القاحلة. ولكن (كوكس) كان كاذبا في ادعائه هذا، فقد أبرق للسير (أرنولد ويلسون) ممثل شركة البترول الإنجلو – فارسية المملوكة للحكومة البريطانية فقام (أرنولد ويلسون) عقب تلك البرقية بالكتابة إلى (ابن سعود) لعقد صفقه معه حول البترول.
عاد (كوكس) وفعل ما في وسعه للحيلولة دون حصول النيوزلندي (هولمز) على امتياز التنقيب عن النفط، ولكن أمين الريحاني كان يرجئ الموضوع كثيرا ويريد أن يكسب المزيد من الطرفين ولكن (كوكس) تجرأ وكتب بقلم رصاص مسودة الرسالة التي على (ابن سعود) أن يكتبها لـ (هولمز) وذيلها بـ (هل باستطاعة السلطان أن يتكرم بإرسال رسالة بالمعنى الوارد أعلاه إلى الرائد هولمز وأن يرسل لي نسخة منها؟(.
يقول أمين الريحاني في مذكراته أن (ابن سعود) غضب غضبا شديداً من هذا التصرف ورفضها فعلا لثلاث مرات ولكن في آخر الأمر حصل المندوب السامي البريطاني ( كوكس ) على مراده، وأصيب أمين الريحاني بخيبة أمل وكتب بمرارة يقول: إن عبد العزيز يقول إنه لا يخشى إلا الله، ((لكني أخشى أنه يخاف أيضا أن يفقد مرتبه السنوي )).
غادر (هولمز) جارا أذيال الهزيمة وغادر بغداد وكان في وداعه بالصدفة أمين الريحاني، ولكن وبقدرة قادر ولبعض الأمور السياسية التي لم أتبينها أنا (كاتب هذه الأسطر) تسلم أمين الريحاني وبعد تسعة أشهر من مغادرة (هولمز) وبالتحديد في أغسطس (1923) رسالة من (ابن سعود) يقول فيها ( لقد منح إمتياز البترول في اراضيه للرائد (هولمز) ومجموعته ((إيسترن أند جنرال سنديكت)). وهكذا أحبطت مساعي كل من شركة البترول الأنجلو ـ فارسية والحكومة البريطانية.
ولكن كل هذه المعارك وهذه المحاولات باءت بالفشل فقد قررت مجموعة (إيسترن أند جنرال سنديكت) أن لا فائدة اقتصادية من التنقيب عن النفط القليل جدا والموجود في الجزيرة العربية. وأنهت عقدها عام (1927). فغضت بريطانيا بصرها عن نفط السعودية تماماً.

وفي 25 فبراير (1931) وصل جدة الأمريكي ( تشارلزر كرين) وكان أول أمريكي يجتمع به (ابن سعود) وكان في جعبته عرض بالقيام بمسح جيولوجي مجانيٍ لأراضي الجزيرة. الأمر الذي جعل (ابن سعود) يرحب به بأداء العرضة النجدية أمامه هو وأبناؤه. وكان حصيلة هذا التعهد هو تدفق النفط من البئر رقم (سبعة) عام (1938) وبكميات لم يحلم بها العالم كله.

نكمل بإذن الله في حلقة قادمة ماحصل بين (ابن سعود) و (روزفلت) في البحيرات المرة، وقيام دولة اسرائيل وقصة قتل نائب القنصل البريطاني ( سيريل أوسمان) في مدينة جدة . واغتيال الملك فيصل. 



نظرات من كتاب ( المملكة ) .. الجزء الأول .





في الغالب تكون الممنوعات مرغوبات حسب العرف البشري، واليوم ستجد هنا كتابا قد يبدوا قديما بعض الشيء (نُشر عام 1981) وهو من الكتب التي مُنع تداول نسختها العربية بداخل المملكة، ويحمل العنوان (المملكة) للكاتب (روبرت ليسي) وهو صحفي بريطاني زار المملكة عام (1977) وألف كتابه هذا الذي نحن بصدد قراءة ملخص له بإذن الله.
في مقدمة الطبعة العربية نقرأ تفسيرا للمترجم (دهام العطاونة) للسبب الذي جعل النسخة العربية تصدر متأخرة وأنَّ وزارة الإعلام السعودي كانت قد طلبت حذف بعض الصفحات والفقرات بعد أن أرسل لها المؤلف مسودة الكتاب وهذا بالطبع لم يرق للمؤلف الذي قضى أربع سنوات في البحث وجمع المعلومات.

الكتاب يتكون من خمسة أجزاء ( 352 صفحة ) بالإضافة إلى جزأي الملاحق والمصادر وقد بدأ الكاتب في البداية بوصف الصحراء والبدوي وكيف كان الصراع بينهما من أجل البقاء ووصف المنفى أيضا الذي عاشه (ابن سعود) بعد خروجه من الرياض عام (1891) على يد قوات ابن رشيد. وتجد أنه من الواضح إعجاب المؤلف بشخصية البدوي وعاداته التي تعتمد على ا لاحترام والتقدير والكرم والنبل والشهامة ومن خلال ذلك أعجب أيضا بشخصية (ابن سعود) وبطريقة تفكيره وعيشه وبُعد نظره. واصفا طريقة انطلاقته من الكويت وحتى دخوله قصر الرياض وعمره (26سنة). ولم يخفي المؤلف هنا كم من الأساطير ذُكرت عن تلك المعركة وكيف أن (جون فيلبي) سمعها عشرات المرات من فم (ابن سعود) وفي كل مرة كان الوصف يختلف عن الوصف السابق، لذا لا أحد يعلم ماذا حصل بالفعل في تلك الليلة.
في الفصل الثاني عاد بنا المؤلف إلى عام (1745) وبداية ظهور اسم الدرعية على الساحة المحلية والتضامن بين حاكمها (محمد بن سعود) والشيخ (محمد بن عبد الوهاب) رحمه الله ونشوء الدولة السعودية الأولى وكيف تم القضاء عليها مع حملت محمد علي باشا التركية عام (1816) وسقوط دولتهم التي ضمت أجزاء من دولة الإمارات الحالية وقطر وأجزاء من عمان بالإضافة إلى حدود المملكة الحالية.
في هذا الجزء نجد الكثير من المعلومات والتي نقرأها لأول مرة وذلك لتعمد إخفائها ولو عن أعين العامة من أجل بعض السياسات والنظرات المستقبلية العقيمة. وعندما نكمل قراءتنا في هذا الجزء نجدُ كيف أن (ابن سعود) في عام (1905) كان يحمل لقبا عثمانيا وهو (قائم مقام) وهذا يدل أنه كان تحت لواء الدولة العثمانية وأن العثمانيين اعترفوا به وبسلطته النجدية ولكنه التف عليهم وأخذهم على حين غرة في معركة روضة مهنا عام (1906) وقَتل عبد العزيز بن رشيد حاكم حائل الملقب بـ (الجنازة) والموالي للعثمانيين أيضاً.
في عام (1910) التقطت أول صورة لابن سعود في الكويت على يد المصور الكابتن (ويليام شكسبير) الوكيل السياسي البريطاني في الكويت والذي اجتمع به ثانية عام (1913) في المجمعة وفي هذا اللقاء صُعق الكابتن شكسبير -كما ذكر ذلك في رسائله- من جرأة ابن سعود عندما بادره بقوله (إن نجْد يجب أن تتخلص من الهيمنة العثمانية في الأحساء) إذ أن الإنجليز وإلى هذا الوقت يعترفون بالسلطة العثمانية على وسط الجزيرة.
إلى هذا الوقت لم يمنح الإنجليز كامل الرعاية والاهتمام الذي يطمح لها (ابن سعود) فقد طلب من بريطانيا إقامة علاقات رسمية معه في يونيو (1913 ) بعد ضمه للأحساء. ولكن تجاهلهم جعله يكتب لهم ويقول ((إن لم يتغير هذا الوضع وإن لم تكن بريطانيا العظمى راغبة في الحفاظ على صداقتها السابقة، وهو الأمر الذي ينشده، فإنه يطلب أن يُبَلَّغ بهذا صراحة كي يقوم برعاية مصالحه.  ثم عاد مسرعا للأتراك العثمانيين ومنحهم ولاءه التام مرة أخرى عام ( 1914 ) ولقبوه (والي وقائد نجد) وتعهد لهم بما نصه (أن لا يمنح الامتيازات للأجانب) والأجانب هنا هم الإنجليز طبعاً.

مع مرور الأيام وتحت سماء صحراء نجد المتلألئة نشأت علاقةَ ودٍ وصداقة عميقة بين (ابن سعود) و (شكسبير) ولكن الأيام لعبت بدورها لتبعد هذا الثنائي المتفاهم عن بعضهما البعض فقد بدا واضحا حزن ابن سعود على صديقه والذي قُتل في معركة (جراب) عام (1915) ضد قوات سعود الرشيد، فأرسل رسالة اعتذار وتعزية للحكومة البريطانية وذكر فيها (أنه نصح شكسبير بأن لا يخرج معهم للقتال ولكنه أصر على الخروج لإصدار الأوامر لرجال المدفعية السعودية غير المدربين على رأس التلة موجها لنيرانهم لضرب العدو).
قُتل شكسبير في نجد وهبط ( لورنس ) الضابط الإنجليزي في مدينة جدة لمساعدة الشريف حسين ولإذكاء القومية العربية ضد الخلافة العثمانية وهنا يوضح لنا المؤلف كيف كانت بريطانيا العظمى تلعب على الحبلين، حبل نجد وحبل الحجاز لإقامة قوتين تتصارعان فيما بينهما وإبقاء القلاقل في المنطقة، ويبدو أنها كانت تعيل على (ابن سعود) كثيرا ولكنه وبعد هزائمه المتكررة في معركة جراب السابقة وبعدها معركة كنزان ضد قبيلة العجمان (1915)  أصبحت تشكك في قدراته فعادت لحليفها السابق وابنها البار (شريف مكة).
بعد عام من التعهد الثاني لـ (ابن سعود) للأتراك غدر بهم أيضا ووقع معاهدة (دارين) بينه والسير (بيرسي كوكس) ممثل الحكومة البريطانية التي في نصوصها بعض الشروط المخزية والغريبة مثل البند الرابع الذي ينص على أن (يتعهد ابن سعود بألا يسلم ولا يبيع ولا يرهن ولا يؤجر الأقطار المذكورة ولا قسماً منها، ولا يتنازل عنها بطريقة ما، ولا يمنح امتيازاً ضمن هذه الأقطار لدولة أجنبية ( يقصدون هنا الدولة العثمانية) بدون رضا الحكومة البريطانية، وبأن يتبع مشورتها دائماً بدون استثناء على شرط أن لا يكون ذلك مجحفاً بمصالحه الخاصة)  أو البند السادس الذي فيما نصه: (يتعهد ابن سعود كما تعهد آباؤه من قبل، بأن يتحاشى الاعتداء على أقطار الكويت والبحرين ومشايخ قطر وسواحل عمان التي هي تحت حماية الحكومة البريطانية ولها صلات عهديه مع الحكومة المذكورة، وألا يتدخل في شؤونها. وتخوم الأقطار الخاصة بهؤلاء ستُعين فيما بعد(
وفي كل هذا إشارة واضحة بعدم حرية ابن سعود في حكم أرضه وأنه لا بد من مشورة الإنجليز كما تجد جملة ( كما تعهد آباؤه ) وهذا يعني وجود علاقات سعودية – إنجليزية قبل قدوم عبد العزيز.
وتسير الأيام وفي عام ( 1916) اجتمع (كوكس) مع حلفائه من شيوخ الخليج في الكويت وفيها ألقى (ابن سعود) خطبته الشهيرة المثيرة للجدل والتي لم ترق لأحد ما عدا (كوكس) نفسه وفيها ذكر فضل الإنجليز مهاجماً الأتراك وطريقة إضعافهم للعرب وتفريق شملهم وممتدحا الطريقة الإنجليزية التي كانت تمارسها بريطانيا من أجل وحدة العرب وقوتهم. وبعد نهاية الخطبة مُنح لقب (فارس) وسمي ( سير عبد العزيز ).

بعد انتهاء هذا الفصل المحزن تطرق المؤلف في الفصل الثالث لجماعة ( الإخوان ) ،تلك القوة البدوية التي كانت الذراع العسكري القوي جدا لابن سعود والتي كان يستخدمها لبث الرعب في أنحاء الجزيرة العربية, تلك القوة التي كانت تحوي جماعة من البدو المتعصبين دينيا والمتشربين بدعوى (الجهاد) والذي منحهم (ابن سعود) الأرض والمال لكسب تأييدهم بالترهيب والترغيب كما قام بطبع عدد كبير من كتاب محمد بن عبد الوهاب (الأصول الثلاثة وأدلتها) في الهند وعلى حسابه الخاص ليتسنى نشر أفكار الشيخ في أرجاء الصحراء. وبحلول (1917) كان هناك أكثر من (200) مستوطنة (ثكنة عسكرية ) في أرجاء نجد فيها حوالي (60000) رجل تحت تصرف (ابن سعود). ولا يغيب عن أحد مجزرة الطائف، تلك المدينة  التي فتحت أبوابها للإخوان ولم يبدِ أهلها أية مقاومة.ولكن الإخوان استخدموا القوة المفرطة حتى إن قاضي المدينة والشيوخ التجئوا للمسجد فتم إخراجهم من قبل (الإخوان) و دمروا بيوتهم بعد نهبها وقطعت الحناجر وألقيت الجثث في آبار المدينة في حالة من الهيجان خلَّف أكثر من (300) قتيل، كل ذلك من أجل أن يسمع أهل مكة بتلك المجزرة فلا يبدو أية مقاومة وإلا فمصيرهم كما هؤلاء ويبدو أن الرسالة وصلت فعلا ، فمدينة مكة المكرمة لم تبدِ أية مقاومة .
دخل (ابن سعود) مكة المكرمة عام (1924) وأعلن بدهائه السياسي وبُعد نظره أن مصير الأماكن المقدسة في يد كل المسلمين، وأن تحديد مصيرها السياسي يجب أن يتم تحت مظلة اجتماع الأمة الإسلامية. ثم أرسل قواته ( الإخوان) للمدينة المنورة واستسلمت (1925) وفي (6 يناير 1926) أعلن ما يلي: ((وبما أني أجد أن العالم الإسلامي غير مهتم بهذه المسألة المهمة – مسألة تحديد الحكم في الأماكن المقدسة- فقد منحت أهالي الحجاز الحق في أن يقرروا ما يشاؤون)) ، وبعد صلاة الظهر من (8 يناير 1926) كان عبد العزيز يسير بجانب إمام الحرم الذي أعلن اسم ملك الحجاز الجديد.
 .
.



نكمل ما تبقى في حلقة قادمة بإذن الله ونجد فيها قصة البترول وبداية الإهتمام العالمي بصحراء العرب . 

ورقة بيضاء .





قدمها لي الأستاذ عبدالعاطي  قائلا: احذر أخي الورقة البيضاء، في دلالة منه وهو القاص المغربي الذي أسرني بروعة أسلوبه وأنيق سرده ونُبلِ خُلقه بأن لا تترك الورق أمامك خاويا من غير أن تسكب عليه شيئا من قارورة الحبر أو تطلق القلم ليرسم خريطته التي يريد على ساحاته الواسعة. ولك أن تترك العنان لخيالك، فالورقة بيضاء قد تكون عملا تركته أو هدفا تخليت عنه.
إدمان العزوف عن الكتابة آكلةٌ تأكلُ أصابعك، وجرذٌ يقضمُ ورقك. وقد عانى منه الكثير من الأصدقاء الذين كانوا يشاركوننا بأقلامهم، ويشاطروننا صفحاتها، فكانت مقالاتهم كالشعلة المنيرة، والقبس الهادي.
كانوا رموزا ففقدناهم ومنارات فأضعناهم.
أصابهمُ السقم وتملكهم الملل، تغطوا بغطاءِ الكسل، فغزاهم الشلل.
طلقوا أوراقهم الطلاق البائن، وحبسوا أقلامهم وسط الخزائن.
لا تنقصهم الموهبة، وعندهم القدرة، ويمتلكون المهارة في غزل أجودِ الجملِ وأقوى النصوص ولكنهم فقط لا يريدون. 
قال لي معلمي أبو حسامٍ ذات ليلة: أنصب قلمك وافرش أوراقك لترضي ما بداخلك فالكتابة هي مشروع حياة، حقق أهدافك أنت و لك أنت ، لا تنتظر الشكر من أحد.
نحن كائنات معقدة، كتلة من المشاعر والأحاسيس، تحتاج التقدير والتحفيز من الخارج، وهذا ما قاله الدكتور إبراهيم الفقي –رحمه الله – عندما ذكر لنا قصته وهو ينتظر المهنئين والمهنئات بمناسبة ترقيته ووصوله إلى إدارة أحد الفنادق، يقول:أخذت منصبي الجديد وجلست خلف المكتب الفخم و على الكرسي الوثير  انتظر المهنئين والمهنئات، ولكن الوقت مضى ولم يأتِ أحد، فأصابني الإحباط وتملكني الحزن وكأن نجاحي لم يكن نجاح. وأنا في ذلك الوقت في أمس الحاجة إلى التقدير والتحفيز, فذهبت أنا بنفسي واشتريت وردة كبيرة ووضعت عليها ورقة مكتوب فيها: عزيزي إبراهيم: ألف مبروك هذا النجاح الذي حققت، مُحبك : إبراهيم الفقي.

مع الانتظام في السير على الدرب حتما ستصل ولكن كن أكيدا أولاً أين الدرب الصحيح؟
صعد رجلان من رجال الإطفاء محملان بعدتهما كاملة إلى الطابق العاشر لإطفاء الحريق الذي شب هناك، وعندما وصلا وقد أنهكهما صعود السلالم قال أحدهما للآخر: سأخبرك يا صديقي بأمرين أحدهما حسنٌ والآخر سيء، فقال: أخبرني بالحسن أولا. قال: لقد وصلنا إلى الطابق العاشر أخيراً، أما السيئ فإننا قد صعدنا المبنى الخطأ.

أود أن أُذكر في النهاية بأنه ليس بالضرورة أن كل ما يلمع أمام عينيك لؤلؤاً، فالسراب لا يجود بالماء، فهو مجرد سراب. ولكن الدرة الثمينة تقبعُ داخل الصدفة فلا يراها أحد، وما إن تخرج حتى تنشر النور والفرح على من حولها.
قم وانهض واجتهد وقاوم التيارات، احمل أجواءك الناجحة معك، لا تصغِ للمثبطين وأنصت للنقد الهادف البناء، ابحث عن قدوتك وقبل هذا كله ابحث عن ذاتك.
أخبرني أحدهم بأن هناك شخص اصطدمت به سيارته وخرج من بين أكوام الحديد مكسور الظهر مخترقةً أضلاعُه رئتيه، وكان ما يزال طالبا في الكلية، خضع لعلاجٍ تأهيليٍ طويل ولم يستطع إكمال دراسته فتخصصه السابق  كان (مهني) ويحتاج هذا التخصص إلى رجال أشداء عوضا عن من هم في حالته المرضية. توقف عن الدراسة في بلده ولم يجد أي فرصة لإكمالها, ولكنه قرر أن يحمل عكازه ويسافر للخارج ويكمل ما بدأه، مرت الأيام والشهور والسنوات، عاد للوطن وقد استبدل العكاز بالشهادة العلمية. عاد مشافىً معافى تملؤه الثقة ويتفجر من عينيه الأمل.

تجنب التقليد وأختر طريقك وتوكل على الله واجعل هدفك أمامك واضحا جلياً.



الفيس ويتر .









مع بداية سأم الليل ورحيله جارا أذيال هزيمته أمام سناء الفجر وشفق الصبح، ومع خروج بواكير العصافير وجفاف ندى الأوراق، كانت هناك سفينة فضائية عملاقة زرقاء اللون غريبة الشكل عظيمة المظهر، تقترب لتهبط على كوكب السنافر.


سفينة سدت الأفق وحجبت الشمس التي مازالت تصارع بأكتافها بقايا فلول الليل، أثارت النقع وهبطت.


أضحت هي السماء ، وأصبح الكوكب والسفينة كالبرتقالة وقشرتها، إحاطة من جميع الاتجاهات ، لا مفر ولا منجأ ولا ملجأ إلا لله .


رُفعت الرؤوس حتى اختفت الرقاب، وفغرت الأفواه فبانت اللِهاء، وفُتحت الأجفان واتسعت الأحداق.


طُيت أبواب السفينة كما يطوى السجل من الكتب إيذانا لولوج من يريد، وأُشهرت لوحة كتب عليها (الدخول بالمجان).


حسناً، قالها ثلاثة سنافر مستأذنين أباهم العجوز فتردد (بابا سنفور) قليلا ولكنه كان يعرف هؤلاء المشاغبين فإن رفض فسيذهبون تحت عتمة الليل، فقال في نفسه: بيدي لا بيد عمرو، ثم صاح فيهم حسناً انطلقوا ولكن احذروا (شًرشبيل) المجرم وقطه (هرهور) ولم يدر في خلده أن السفينة ما هي إلا شًرشبيل وقطه .


تقافز الثلاثة مهرولين نحو السلم الكهربائي وحانت منهم لفتة وداعية مع تلويح بالأصابع نحو (بابا سنفور) الذي بدا وكأنه يصغر رويدا رويدا كلما اقتربوا من باب السفينة .


وقف الثلاثة على الباب المشرع والذي كتب أعلاه على لوحة بيضاء بأنوار صغيرة زرقاء ( فيس ويتر ) وتحتها بالأحرف لاتينية (facewitter).


تقدموا خطوة صغيرة ليستكشفوا السفينة فإذا هي ممرات كثيرة متشعبة ودهاليز تشابه دهاليز بيوت النمل وحجرات وقاعات يمنة ويسرة و سنافر مزدحمين متراصين. بالإضافة إلى مقاعد قليله في بعض الممرات.


أخذ (سنفور ذكي) بأيدي أخويه (سنفور كسلان) و (سنفور صايع)، وفي معمعة السنافر وسنفرتهم المعهودة تفرق الإخوة وتاه الجميع. فقرر كل واحد منهم السنفرة لوحده وبعيدا عن الآخر حتى تجمعهم الصدفة وتضمهم الدهاليز والوصول إلى النهاية التي لا تبدو أبدا واضحة المسالك.


(سنفور كسلان) يداه في جيب سرواله الجينز الذي يربطه من فوق أكتافه بخيطين من المطاط العريض مع قميصه الأزرق المقلم بخطوط حمراء طويلة، وكعادته مطأطأ الرأس، لا شيء يثير سنفرته الكسولة، فالحجرات الملونة مملة له والممرات ذات الرائحة الزكية لا تعني له شيئاً، اكتفى بقليل من النظرات السريعة من خلال بعض أبواب الحجرات لاكتشاف ما بداخلها وهو مقطبا جبينه، غضبانَ أسِفا.


(مالِ هذه الحجرات الخاوية إلا من المقاعد) رددها وهو يطل برأسه، وانظر إلى تلك الأخرى لا يوجد بها إلا مدير القاعة وحيدا يتحدث مع نفسه ، يبدو أنه يتحدث عن أمر لا يهم أحدا من هذه السنافر الغبية, يتنقل بنظره بين المارة فيرى سنفورةً فيزيح بنظره ويزدريها فما من شيء يستحق الابتسامة، وذاك( سنفور حزين) يبكي فيصفه بالتخلف والغباء فما من شيء يستحق الدموع.


لاشيء يعجب هذا السنفور، حتى المقعد الذي قرر الجلوس عليه لينتظر أخواه لم يبدُ له مريحا، فهو يعلم أنه لم يأتِ إلى هنا إلا من أجل تقليد أخواه لا أكثر من ذلك ولا أقل.


في هذه الأثناء كان أخوه (سنفور صايع ) يُسنفر مع كؤوس الخمر في قاعة اللهو والمسكرات ولا يسمع شيئا من مكبرات الصوت الضخمة التي تصم الآذان سوى          ( طُفف، طُفف، طُفف....) ومع كل ( طفطفة ) تتمايل رقبة الصايع .


سنْفَّرَت به كؤوس الخمرِ فقفز على الطاولة وسَنْفر بصوت عالي: الموت لهرهور، الموت لهرهور، الموت للقط هرهور. أين أنت يا هرهور ؟ تعال هنا إن كنت قطا بحق وحقيقة.


نزل عن طاولته مع هتافات زملائه السنافر الصُّيع، خرج يسنفر عن ملذة أخرى، فوجد باب حجرة الرقص مفتوحة فأدخل رجله اليسرى فإذ هي ساعة الرقص الشرقي الممتع بتمايلها وغنجها ودلالها وبياض جلدها. حان المساء وقد أخذت كؤوس الخمر ما أخذت من عقله فخرج ليسنفر عن شيء آخر, فقد بدا أنه سأم الصخب والإزعاج، دخل حجرة الدردشة فأعجبته بهدوئها وجمال ترتيبها فهاهي مئات الهواتف المعلقة، فما عليك سوى أن تتناول أحدها وتتحدث مع من تريد لتتبادلا كلمات الغزل والحب والقصص الخرافية والمغامرات الكاذبة.


أصبح الصباح وهو لا يعلم أين هو وماذا فعل ، فقد الوعي، استلقى على الممر، خده على الأرض .


(سنفور ذكي ) بطبعه المسنفر السريع ونشاطه المتقد وحيويته التي تظهر جلية واضحة على محياه، رأى ما رأى أخواه ولكنه ظل يُسَنفرُ عن ما يريده هو.


تَسَنفرَت به قدماه حتى أوصلته لممر طويل هادئ قليل الإزعاج ، لا يبدو أن عليه إقبالا شديدا من بقية السنافر، ولكنه ما إن دخل قاعته حتى أصابته الدهشة و تسنفرَ عقله طربا، فكلِ علومِ الأرض وتاريخها وثقافتها ولغتها وجغرافيتها وعاداتها وتقاليدها أمام عينيه .


يا للروعة ، قالها وهو يقفز فرحا مستنفراً : نعم هذا ما أريد .


استنفر (سنفور ذكي ) كل سنفرته وجهده، ليقطف من كل بستانٍ ورده ويأكل من صحنٍ لقمة. يخرج من حُجرة ليلج أخرى ، وجد الكتب والعلماء والمثقفين والأدباء الأحياء منهم والأموات. فزاد من سنفرته ليلتهم كل شيء سقطت عليه عيناه.


وجد قاعاتٍ تسافرُ بك خيالا للمكان الذي تختاره ولو كان في أطراف درب التبانة أو في أعماق التاريخ.


استزاد علما وثقافة، والتقى آخرين أحبهم وأحبوه، شعر بالسعادة معهم المقرونة بالفائدة والتعلم.


مضى الوقت سريعا عليه، وهو بين هذه الأرفف والكتب والدروس والتدريب والمتعة الذي انتظرها منذ سنين عديدة ولكن (بابا سنفور) ينتظره في الخارج وكذلك أخواه (سنفور كسلان) و (سنفور صايع).

 ذهب لحجرة البحث والتصفح وبحث عن أخويه فدله العاملون فيها عليهما.



وجد الأول مازال قابعا على مقعده مُقطبا جبينه، قتله الملل، والآخر ملقى على وجهة في الممر.




شعوذةُ عين .





وحيدٌ في ساحة مظلمة
مستوحش المكان
تتراعد فرائصه
مُحتبئٌ في جلسته
ذقنه غُرز بين ركبتيه
نظراته للشرق منتظره
الأفق بعيد
والسماء كما الساحة
مُظلمة
انسكب عليها كحل العيون فلا سُهيلاً تجد ولا ثريا
.
.
فلاحت منك نظرة
مشرقة نورا
آسرة وجداناً
ساحرة شاباً
فاتنة قلباً
خلابة فؤادا
بديعة لا شيء مثلها
تحوي دَلُّ النساء ودَلالهم وتدللهم
لاحت تلك النظرة
من مُقلةٍ واسعة المحيط
رقراقةً ذات بصيصٍ وتلألؤ
كبرقٍ لمع
أو لمعانٍ برَق

كلؤلؤٍ أضاء
أو ضوءٍ تلألأ

كبحيرة هادئة تحتضن البدر
يلفهما أغصان تتدلى مائلةً تحمي العاشقين

لها صوت الهدوء
وهمسات السكينة
وخفوت الطمأنينة
.
.
رفع ذقنه بأناة
رحلَ خوفُه
حَلَّ حِبْوَته
ابتسم ، اغرورقت عيناه
اتكأ على يديه
نهض
خلع عنه بشريته
ارتدى أجنحة سحرك
بيضاء كاللبن
ناعمة من الريش
خفيفة أنيقة
حلق نحوك
جعلتِ حُضنك وطنه
تناولتِ يده
حلقتم أعلى وأعلى وأعلى ... 
 .
.


حبيبتي والأوباش.






مشتاقٌ لرؤيتها فهي الصبية التي أذهلتنا وأذابت قلوبنا حبا وعشقا عندما كنا في ريعان الصبا وفتوة الشباب.
عندما وقفت أمام دارها هوتْ عليَ سحائب الذكريات مع زخاتٍ من مطر الفرح والسرور، فها هي السنون جرت و تلاحقت وقد أخذت منا قيمة وجودنا فيها، ودفعنا من أعمارنا فواتير لهوِنا وسرورنا وغبطتنا حتى طار غرابُ الرأسِ و هبطَ مكانه طائرُ (البوم) الأبيض.
و بيدٍ مرتعشة، ذات عروق بارزة، كأنها جذورُ شجيرةٍ صغيرةٍ جرف ترابها السيل، طرقتُ البابَ المهترئ الذي ينبيك بما تَلبَّسه من غبارٍ أنك مقبلٌ على دارٍ أصحابها ملوها فهجروها، وتركوها لقطط الليل وكلاب الشارع. طرقتُ أخرى فلم أسمعْ أحدا يجيب فطرقت الثالثة، تلبسني العجب فها هي آثار أقدام رجلٍ ضخمٍ واضحة عند أسفل الباب. وضعت يدي على الباب فانفتح قليلا مُصدرا أزيزا يخترق جدار الصمت و ينشرُ القشعريرةَ في أرجاء البدن، ويحلقُ بالفكر إلى حياة الجن والجنون.
أدلفت رأسي مع طرف الباب كقطة تبحث عن مأوى، فامتد بصري مسرعاً إلى زاويةٍ في طرفِ الدارِ فإذا به سرير خشبي صغير تحت نافذةٍ تلجُ منها أشعةُ الشمسِ الصفراءَ لتُحاربَ بسهامها ظَلامَ المكان. عليه جسدُ فتاةٍ متهالكة جاثمة على بطنها. حملتُ أقدامي مقدماً واحدة ومؤخرا أخرى، دنوت رافعا حاجبيَّ مستغرباً متسائلاً: ماذا حصلَ في غيابي وماذا أصابَ الدنيا في تلك السنين. ماذا حل من عذابٍ حتى أصبحتْ تلكَ الفتاة التي ملأتِ الدنيا لهواً ولعباً، والتي كانتْ تتراقص فرحاً في تلك المروج الغناء والحدائق الخضراء، تلك الفتاة التي كانت تتمايلُ مع أعشابِ التلالِ يمنة ويسرة, وتُراقصُ الطيورَ المُترنمة حبوراً وطربا، و تتسابقُ مع ماءِ الجداول عندما ينسابُ من قممِ الجبالِ من أثرِ ذوبان جليدِ الشتاءِ الذي ما برح أن ذهبَ ليتركَ هذا الثلج يتصارعُ مع أشعةِ شمسِ الربيع.

كنتُ أذكرها وهي في ريعانِ شبابها تسيرُ في طرقاتِ القرية فما من شابٍ إلا ويُقَدم لها قرابينَ الطاعةِ وفروضَ الولاءِ مُرهقاً عند قدميها دماءَ القلبِ وثمراتَ الفؤاد. كنتُ أستمعُ إلى نوافذِ البيوتِ المطلة على الطريقِ عندما تنفتح غبطةً بمرورها وتنغلق أسىً بابتعادها.
كان شَعرُها المنسدل على عينها اليسرى، الملتوي خلف أُذنها اليمنى ساحرا كل رجالِ القرية الأليفة، جاعلا أعنةَ كبريائهم طوع أمره ورهن إشارته، متيقنون باستحالة مصافحة القمر فاكتفوا معها بالأماني.
تلكَ كانت حالتها واليوم أضحت جثةً هامدةً قد جمدت الحياة في عروقها وبرزت عظامُها فوق جلدِها، جلدُها الذي نما فوق قطع اللباس الذي ترتديه فلا تعلم أثوب يرتدي الفتاة أم الفتاة ترتدي الثوب؟
دنوتُ أكثر لأرى شفاهاً سوداء ذابلةً قد سئمتِ الحياة وشعرا متقصفاً نافراً ضمآناً للماءِ الذي لم يعرفه منذ سنوات، ورقبةً تعفنَ جلدُها و قد أضحت مملكةً الفطريات بلا منازع، رأيتُ كل هذا وهي مازالت منبطحةً على وجهها. وعندما سمعتْ وقعَ قدمي لم تٌكلفْ نفسها الحركةَ أو النظرَ، فقط أكتفت بفتح رجليها.
ذُهلت وأوقفتني دهشتي، فـ(عُرْبَة) وهذا اسمها كانت إله الشرفِ والعفة والامتناع والكف عن كلِ ما يسٌّود صفحةَ أيامها. ولحسنِ الحظ أن تلكُئي أثارَ عندها الاستغرابَ فرفعتْ رأسها المثقل بهمومِ الكونِ وحركتْ جسداً كأنه الجبل وانقلبت على ظهرها وأنيناً يقطعُ نياطَ القلبِ ليتراءى لي صدرٌ ضامرٌ به عِنَبتين ضامرتين من بؤسهما لم يقطفهما أحد على أضلعٍ برزت كأقواسِ رُماة مهرة، ورقبة عليها من آثار أصابع كفٍ كبيرة، فيبدو أن الرجلَ الذي رأيتُ أثارَ قدميه بالخارج كان يريدُ أن يخنقها ويُزهق روحها ولكن حبَ الحياة عندها منعته مراده فتركها تصارع آلامها وجروحها وأما هذا الجسد فهو لا يقوى على دفعِ ضرر ذبابٍ يحومُ على أنفه.
بادرتني: من أنتَ فمظهرُك لا يوحي بأنك منهم؟ لمْ أنبس ببنتِ شفه فانطلقتْ في كلامِها كلبوةٍ جائعةٍ رأت ظبية تعدو.
وقالت وفي صوتها غصات الأنينِ ولوعات الآهات تتقطع على سكاكين الظلم والأحزان وهي مدافعة عن نفسها: لقد أسلمتُ نفسي طائعةً باسمةً تحت عقدِ الزواج الألهي فليس لمثلي أن يخوضَ في وحلِ الدنسِ أو يلجَ أوكارَ الرذيلة.
صرخَتْ باكيةً متحشرجة ودموعها تحرقُ خديها الذَينِ لم يبقى منهما سوى اسميهما: أين أنت يالله ؟ أين رب الرحمة الرحمن ؟ صاحب العزة المنان؟ اللهم إني أرتجي رحمتك وأخافُ عذابك. استرسلت قائلةً: شحماً ولحما أخذوني ثم جلداً على عظمٍ رموني، أهلكوني، تحت أقدامهم المتسخة بالدماءِ والأوحال سحقوني، سلبوني ابتسامات الغزلِ والحب ورموها وراء بحار الذِلة والخِسة ليغشاني ليلُ العذابِ وظلامُ الأنينِ الذي لم ينجلي. نظرتْ إليَّ قائلة وعيونُها شفق الغروب قابضةً بشدة كفاً بكفٍ و عاضةً أسنانها: بكيتُها دماً حتى تخضبت منها أصابعي، فلم يجدي معهم إغماضةُ عينٍ ولا إغلاقُ أذن، فسهامهم الخائنةُ كانت تخترق قلبي قبل جسدي، كانت تَخرج من الداخلِ وما ذاك إلا عظم المصيبة وكبر الطامة ومٌر المكيدة من جبابرة ظلمٍ، خوارون عند الحقِ، شديدو قهر ومُعدَمو إنصاف. لا يعرفون من البشرية إلا لذتها الزائفة التي تُبنى على أنقاضِ حياةِ أنثى، هي في حياتهم نصفُ جسدٍ سفلي لا أكثر، امتصوا حياتي كما تمتصُ رمالُ الصحراء العطشى قطرات المطر أو كما يمتص الدبور ضحيته أو البعوضة من فريستها بل كسبعٍ يمتكُ عظماً، بل كما الصياد والطريدة والقاتل والذبيحة والفاتك والغنيمة كذلك كانوا وكنت. هناك أشياء مني تنزف ليتغذى بها ضَّارٍ من الضواري.
ما زلتُ أقفُ أمامها وجسمي كغربالٍ مُخرَّق من رصاصاتِ كلماتها الحارقة، فتنهدَتْ تنهيدةً خرجت معها أضلُعها فأسقطتني بها أرضاً.
ألقتْ بصرَها من خلفِ تلكَ النافذةِ التي كانتْ هي الوحيدة التي تمدها بالحياة وتهبها أسبابَ البقاء، وهي تُطل على بيوت القرية المجاورة لها لتخبرني أن لكلِ بيتِ قصة ولكل دُورٍ هناك مغتصبُ وناهبُ وظالم.
قالت: هل ترى هذه الاثنين والعشرين بيتاً؟ هل تعلم أن بداخل كل منها قصة ألم وحكاية ظلم؟ هل تعلم أن جدرانها تصرخً ونوافذها تئن؟ ودائما بطلُ القصة ذكرٌ مستبد يزأر داخلها ويوطأ على أنفه خارجها.
وذكري أنا ليس بالمختلف، فهو مثل غيره، قطٌ في صورة أسد، جبلٌ من الإسفنج وصحراء من الملح. تزوجته وهو فقير معدم لا يملك إلا غطاء عورته وهو كله عوره من رأسه لأخمص قدميه.
أول ما رأيته كان كسبع جسور وفارس مغوار يجندلُ الخصوم ويفرقُ الجموع، شجاعة مع بسمة ورجولةٌ مع عطف، شاعرا جزلا يصوغ الكلمات التي تُشعرك بحياة الأمل.
 دفع مهري كاملا للحق أقول، و ياحسرتاه فالفرح لم يكتملْ والبسمةُ قد تغتال بخنجرِ الكذب والضحكة تُخنق بحبل الخيانة، فما كان مهري من ماله ولا من حلاله. فقد بان لي أنه مخلوقٌ عجيبٌ له جلدُ أفعى ناعم مع أنياب ضبعٍ ومخالب وحشٍ، كان يشرفُ على الموت كل يوم من أجلي كما كنت أظن واسمع، ليزيلَ من الساحةِ عشاقي ويقتلُ في المعركةِ من كان يحلم بأحضاني. ولكن كما قلت فالمال ليس ماله والجهد ليس جهده فما سمعته من قصص ومغامرات ما كانت إلا مسرحية حيكت خيوطها بليل. وما علمتُ هذا إلا بعد فوات الأوان وطيور الطيور وجفاء الينابيع و عطش الجداول.
تهللَ وجه هذه الفتاة المسكينة عندما رأت تأثير كلامها على محياي فاسترسلتْ رافعة صوتها: جعلتُهُ زوجي فسلبَ روحي، ملَّكْته حياتي فاغتصب مالي، رفعْتُه على رأسي فغرز خنجره في جبهتي. ألغى اسمي وألحقني باسمه وأحرقَ كل الأوراق التي تثبتُ أصلي و فصلي ونسبي ومحياي ومعاشي. كنت (عُرْبَه) في الصباح وأضحيت ( سُعْدِية ) قبيل انتصاف الشمس في كبد السماء. بعد هذا كله، أزالَ قناع الكذب الذي ارتداه على وجهه الكئيب وأطاح بعباءة الدين التي كان يلبسها وأسقط العمامة الأزهرية من على رأسه، وأزاحَ لمحة البشرية التي كان يتسربل بها. وتبدل الحال من حال إلى حال.
أتساءل أين تلك البسمة وأين ذلك العطف؟ زيفٌ وخداع و أخلاق الثعالب. ولكأنك تراني أضع كفاً على أخرى، وأندبُ حالي وألعن حظي، استبانت لي أفكاره الدنيئة وطموحاته القذرة كانبلاج صبحٍ عن ليل، طلبَ مني المال ملحا ومتعذرا بفقراء القرية وضعفائها وأراملُها وأنه  يؤثرُ على نفسه ولو كان به خصاصة، ويشبِّه حاله بسحابةِ الشتاء التي تصطبر على برودة السماء لتمطر الغيث على أهل الأرض المساكين، وأن الله قد اختاره ليكون قيماً وسيداً، وتناسى أن الله لا يحب الظلم و لا الظالمين. وليته استكفى بذلك، بل سلب صحتي ونتف أوراقي وأزال جذوري وباع شرفي. ثم أطرقتْ هُنيهة ودموعها كلؤلؤٍ يتساقط في حضنها ثم أكملت وهي تخاطبني بصوتها الناعم كنسيم الصباح: نعم باع أغلى ما كنت أملك، وأغلى ما كان يملك هو أيضا، فشرفي هو شرفه وطهارتي من طهره، ولكنه ديوث قُنْذُعُ لا يُبالي ما يُنال مني. فقد أرشد أصدقائه على بيتي وفي أحيان كثيرة يأخذني أنا إلي بيوتهم. هل رأيت هكذا ذكر، همه سعادته ولذته. فأنا له ولأصدقائه وعلى مرأى منه ومشهد، ليأخذ ما بقي من روحي، كنت أحسبك مثلهم عندما سمعت وقع قدميك فباعدت بي قدمي فهذا هو كل ما أفعل وهذا هو مجلسي الذي أجلسني فيه الشيخ (سعودان).
هنا جمدَ الصوت وسكتتْ الحناجر، ورفعتْ بصرَها تنظرني، وكلام العيونِ أبلغ وبحارها أعمق، فرغم ما قاسته من ألمٍ وجوعٍ واضطهاد فهي تبحث عن أمل، وكأنها رأته عندي وبين جنبي. فقلبُها حن للتحليق كطائرٍ حر، وجسدها يريد أن يغتسل من الأدران ويعود كورقة خضراء تقطر ندىً كل صباح، وروحها تبحث عن أرواح ملائكية نورانية بعد أن خنقتها أرواح البشر الترابية.
اقتربتُ منها ومسحتُ على رأسها وجلستُ بجانبها وأخذت بنانها لألثمه بقبلة الابن البار، فاحتضنتني وجعلتْ رأسي على صدرها وهي تشمُ شعري كأمٍ وجدت ابنها بعد عودته من سنوات الضياع.
نادتني: ابني ابحث عن إخوتك وهلموا إلي مسرعين وانتشلوني من الوحل، ردوا لي بريقي ولمعاني، امنحوني شبابا ضيعته، وعمرا أفنيته، أسقوني من مائي، وقدموا لي من أموالي، ألبسوني ثيابي، دثروني عباءتي. ابعدُوا عني ما يحومُ حول رأسي من خفافيش، وما يدبُ تحتِ من ثعابين.

ابتسمتُ لها وضربتُ بيدي صدري، فإذا بالبابِ يُفتحُ بقوة ويدخلُ الشيخُ مسرعاً وجنودُه، والشررُ يتدفق من عينيه، فيبدو أن له أعيناً ترقب وآذانا تُصغي، نظرت للنافذة المطلة، ثم أزحت بصري عنها ووقفت معيدا النظر للشيخ المُغتصب.أمر أحد جنوده أن يستلَ سهماً من كنانته، وضعه في قوسه، أرسله كالبرق تجاه صدري، سمعت حطام ضلوعي مع عويل (عُرْبَه)


ابن جاري .





أقول لهم وقد جد الفراق......رويدكم فقد ضاق الخناقُ.
رحلتم بالبدور وما رحمتم....مشوقاً لا يبوخُ له اشتياقُ.

وداع الغريب مؤلم.
ووداع الحبيب قاتلٌ.
سنةُ الحياة عناق ثم فراق وأكثر الأحيان هي عناق وفراق.
ما إن تتلاقى الأيادي والأكف وتتشابك الأصابع بعد تشابك القلوب حتى تنسل من بعضها
فتسمع -واحر قلباه- حشرجة الصدر وأنات الألم و غصات الحنين.
تسكبُ جفون الليل قطرات الندى على تيجانِ الأزهار ليأتي النور ويبخرها كأن لم تكن.
فراق يتبعه فراق، وبُعد يتلوه بعد.
ومن عجيب هذه الحياة أن هناك من يمشي حولنا و يدور في فلكنا من أقارب و أصدقاء حتى أننا نستنشق أنفاسهم ونشم رائحتهم ونرى ضياء وجههم ونبتهج بجود أفعالهم ولكن من سوء الحظ أنها في حياة واقعية ترمينا بسهام كدرها، ورصاص سأمها، تلفنا بليل قذاها وتطحننا برحى عسيرها وأعمال شقائها، فعنهم ننشغل ، وبالسؤال عن أحوالهم نبخل.
وفي ثورة الشبكات الاجتماعية والتواصل السريع التي حاربت بسهامِ نورِ سراجها ظُلمةَ الواقع المزيف فكشفت لنا معادن الرجال وقلوب الأوفياء وأفئدة المخلصين. أزاحت الغشاوة عن بصائرنا لنرى أجسادا من زجاج خلفها قلوب بيضاء تنبض حبا وصفاءً. فلا يخرج منها إلا ماء رقراق ونسيمٌ عليل وأرجوزة تأسر الكون بنغمتها وموسيقاها.

ومنهم ( ابن جاري ) فله عندي على شغاف القلب لمسه، وداخل الأحشاء همسه، وحول الفؤاد بصمه، وداخل الصدر لوعه.
فصبرا لأرضٍ أنت تفارقها وهنيئا لأخرى أنت راقيها.
فعند لحظات الفراق أجد مشاعراً مختلطة تتصارع أمام مشارف القلب ودموعا حمراء حارقة تعاقب العين التي أبطأت رؤياك لتلسع بسوطها خداً لم يودع خداك.
فلأجلك ينفجر الصمت ليخرج من وسطه شوقاً لما فات، وندماً على ما ضاع من أوقات.
كم من لحظة أجبرتنا على أن نشكي آلام بعضنا ونُمازح، ونُقلب جروحنا ونتضاحك.
غصاتٌ ولحظاتُ موتٍ جمعتنا.
شهقات وزفرات قتلتنا.
على من عُبد اسميهما وحُمدَ.
أخذنا أكفنا بأكفنا بلا شعور.
تواسينا بلا تكلف.
رقَّقتَ علي فأشفقتُ عليك.
تبادلنا الحروف بحثا عن السلوان.
فسكنّا واديا من غير سكان.
تناجينا......
تعانقنا بلا مكان.
فالأرواح لا تُسجن بأقفاص المكان والزمان.
كنا نجالس صفحات الذكرى فنقرأها والدموع تحجبُ عنا ما حولنا.
فأضحت الدموع دماً والبكاءُ نحيبُ.

الشوق سيأخذ منا أكثر مما أخذ، وعزاؤنا أن الوصل بعد النوى أشهى وألذ، فأكفنا ترتفع وألسننا تدعوا رباً كريماً بأن ينيلك أمانيك وينير لك دربك ويجعل التوفيق حليفك ويعينك على غربتك ويُعيدك سالما غانماً وينزل الصبر على قلوبٍ غصت لفراقك.