أرانب حمدامان مالجامي




عندما أراد أهالي (مالجامي) الاستئناس والحلول وأحياء تلك البلاد المقفرة حيث أنهم أول من سكن بها وأول من وطئها من بني البشر، لم يكن بها من الثدييات إلا حيوان الكانغر، ولما كانوا قوما يعشقون الصيد وبطونهم لا تأكل إلا من لحم صيدهم وسهامهم لا تكاد تخطيء الفريسة فإنهم تذكروا ما كانت تجلب لهم الأرانب من سعادة وهناء وفرصة في ممارسة ما يحبون من لهوٍ وصيدٍ في بلادهم القديمة، فاستورد لهم (حمدامان) وهو أحد كبرائهم وتجارهم أحد عشر زوجا من الأرانب وأطلقها لتتكاثر في الطبيعة فتكون لها (مالجامي) موطنا طبيعيا مكان موطنها السابق، جلبها وابتنى له أيضا مزرعة يكِلُّ فيها الجواد، ويتوهُ فيها السيل، حفرَ آبارها واستخرج ماءها وأسال عيونها وأنشأ بها أشجارا من الفواكه والخضراوات، حتى أصبحت المزرعةُ منبرا للتفاخر والتباهي فحلت من قلبه مكانا من دون سائر النعيم، جلبت المزرعة لحمدامان هناء الروح وصحة الجسد وكمال النظر حتى إذا طرحت ثمارها أخذ منها أكثر من حاجته ونثر ما يبقى لأرانبه التي جلبها وإن كان في سهول (مالجامي) ما يكفيها ويزيد، ولكنه كان يريد أن يُشعر الأرانب بأنه متفضلٌ عليها.
ولمّا يكنْ لهذه الأرانب أعداء طبيعيون فقد تكاثرت وتناسلت بصورة مذهلة وازداد عددها زيادة كبيرة فوق ما كان يُنتظر ويُأمَّل فغصت بها السهول والوديان والجبال وكانت النتيجة سيئة للغاية. أضحت (مالجامي) عاجزة تحت وطئة حُمى تلك الأرانب، فغربت شمس الأرض الحُرة وسطعت شمس أرانب (حمدامان مالجامي) المُحرقة المُهلكة الجشعة، أحرقت الأخضر وأفنت الطبيعة بكثرتها التي رجحت بكفة ميزان الطبيعة، كان الأرنبُ يُجلي بعينيه النافذتين كلَّ معالم الاستغلال، بكُل ما في كرشهِ من القدرة على الجشع والنهم والهضم، فأمست أرانب (حمدامان مالجامي) في أمن يُتبجح به، وصحة يُتغطرس بها، فلا يُهدد عيشها إلا كِبر سنها، فلا هناك ذئبٌ يطاردها أو صقرٌ ينقَضُّ عليها أو لجامٌ يحِدُّ من اندفاعها سوى سهم صيادٍ هاوٍ يقتنص منها واحدا فيأتي مكانه عشرة.
طغت وتجبرت أرانب (حمدامان مالجامي) وأحدثت أضرارا بالغة بتلك البلاد حيث قضت على الحشائش والمراعي فأصاب (حمدامان) الخوف على مزرعته من أرانبه فبنى حولها أسوارا مرتفعة ووضع الحواجز المنيعة، ومع ذلك فقد ثبت عدم فائدتها فقد استطاعت الأرانب تخطيها لتُحيل المزرعة الغنّاء قاعا صفصفا. لم يتمكن (حمدامان) ولا أهالي (مالجامي) أن يسيطروا على هذا الوحش الأرنب الذي صُنع بأيديهم وغُذِي بأموالهم وذاق حرية العيش تحت غطاء حبهم لزرع حيوانٍ جديد في بيئة جديدة نتيجة جهلهم بتوازن الطبيعة وقوانين الاستقرار. وهاهي الآن (مالجامي) يشهد خرابها وفقرها المدقع وصحراؤها الجرداء -التي لم تعد تكفي أرانب (حمدامان مالجامي) التي تعيش بها لوحدها- على أن بعض أفكار الهوى قد تكون مُهلكة مُحرقة مجدبة.

حلاوةُ المُحادثة.





جالستُهم على كُثبانٍ عُفْرٍ في ليالٍ قُمْرٍ، على رملةٍ احتضنتني بين جناجِنِ صدرها، يرمي الطرفُ لحظَهُ حتى يكلَّ على مشارفِ حدِّ الأُفق. لا هِمةَ لهُ للعودِ حسيرا فيركعُ تحت قرص الشمسِ يبتغي الإمهال، فلا يُبالي شموخُها بتذللـهِ. تنسَّلُّ كفي تُلامسُ لَببَ الرملِ لتحثوا منه وترفعه فيتساقط في الحِجرِ ذرة إثر ذرة إثر ذرة. لا يهبُّ عليه غيرُ الصمتِ، وهل يُنادغُ الروحَ غيرُ الصمتِ. تغيبُ الشموخُ وينهزمُ النور تحت جحافلِ كتائبِ الليل. عند الغسقِ، مع غبشِ المكان، تتهايل زخاتُ الشوقِ جميعُها، فتغشانا والنفسُ مُرددة: لعل خيالاً منكِ يلقى خياليا. هذه اللحظةُ الفاصلةُ بين صحوة الحياة ونشوتها، هي الحد القاطع بين أكلِ الخبزِ اليابسِ بالتأوه وبين شُربِ المُدامِ العتيقِ بالغِبْطَة.

جالستُ أخوان الصفاء، وقناديل السماء، حدثتهم فحدثوني، أبثثتهم وأبثُّوني، في أخذٍ وعطاء، ونولٍ ووفاء، ثلجَ بهم صدري وبلَج، بعدما حرَّ وحرَج. أمتِعْ بهم من عقولٍ تتحدث، وألسنةٍ تُفصح. لذلك أقول إنَّ في حديثِ الكتبِ مُتعة أمتعُ منها تقليب الأفكار بملاعق الحديث. في المحادثةِ تلقيحٌ للعقول فتوضع القناعات على كفتي ميزانٍ فيُنظرُ الراجحُ والمرجوح. في المُحادثة تُقرعُ الحجةُ بالحجةٍ فتثلمُ هذه تلك وتلثمُ الأخرى أخرى. في المحادثة أنت المُحامي والموكِّلُ فكرةٌ، فإن كانت فكرةً عرجاء فلن يُقيمَها لسانٌ فصيح، وإن كانت عنتريساً فسيعقرها لسانٌ عَيِّ. كم قناعةٍ أخفت عقلَ صاحبها فلم يجلوه إلا حديث صاحبٍ وحوارُ مُخلص؟ في المحادثةِ ترويحُ القلبِ وتنفيسُ الضيق، جبلٌ يُرْخي سدوله بأنواعِ الهمومِ ليبتلي، فيغدو صدر الشمالي خُرمَ إبرةٍ يستحيلُ مع محادثةِ الأقرانِ فناءً يتطاير فيه ذلك الجبلُ كالعهن المنفوش. في المحادثةِ تنقيحٌ للأدبِ واصطفاءٌ لجميل ما حفظتَ من جميلِ ما قرأت. في الغديرِ يسقطُ السيل بِغَثِّهِ وسَمِينه فتُصيبُه اللَّوثة، ثم يُغادرُه الفاضلُ والثرُّ، فيقرُّ الماء وتترسب الشوائب ويغدو الماء صافيا، وكذلك العقلُ يتشربُ ما يُكتب في ألوف المجلدات، يذهبُ منها ما يذهب، ويبقى ما يُثبتُه الحديث وتتداوله في المجلس مع الأقران. أسمعُ ضجيجَ المؤلفين داخل الفؤاد، أحدُهم ترفعه أجنحتُه نحو العلاء، والآخر تَقصرُ به قوادمه فلا هو سما ولا هو دنا، فتُصيبنا لجلجلةٌ يخامرُها تعصب واقتناع، فقلَّما يُبْلِجُ الحق كمحادثة خبير. أسترجعُ ذاتي وهذا من حولي كُله لم يهنأ به خليفة ولم يرفلْ في نعيمه سلطان، كيف لا وعبد الملك بن مروان يقول: لم يبقَ من لذاتي إلا مُحادثةُ الإخوان في الليالي القُمرِ على الكثبانِ العُفرِ.

الرهاب الثقافي








شنَّف الدكتور: سعيد الكملي سمعي وهو يقول: سألتني إحدى الأخوات عن الكتب التي أنصح بعدم قراءتها والتي تتضمن المخالفات والمنكرات؟ فقلت لها: أنتم هؤلاء الجيل اقرؤوا ما شئتم، لأنكم لا تفهمون ما تقرؤون فلا خوف عليكم. 
وعلى ما في هذا التعليق الطريف من صدق على ما فيه من قسوة، فهل نحن فعلا لا نفهم ما نقرأ؟ ليس على اطلاقه ولكننا لا محالة مصابون بعاهات أكثر خطورة من الغباء! ربما هو "الانقياد"، "التأجير"، "الخنوع"، لا أدري كُنهها حقيقةً ولكنها عاهات لا تخرج عن هذه الدائرة. نقرأ لكبار الأدب الحديث فنجد تعظيما لشخصيات سبقوا، وتهويلا لرواةٍ فنيوا، وتجسيدا لنقادٍ مُبالغا فيه. فلم نملك إلا الانقياد فنحن نقرأ لعظماء يتحدثون عن عظماء! أو لُذنا بالتأجير المبتدئ بالتمليك فنحن أمام كبار مُلاك العقار الأدبي! أو اكتفينا بالخنوع فنحن تحت وطأة تعصبٍ ثقافي يسحق كل متباهي، وسلطة تُخرج من دائرة اهتمامها من يتجرأ برأي مُخالف! فنصاب بالانبهار بمن نتوهم أنهم عظماء، ويتملكنا الرهاب الثقافي الذي تتساوى عنده أصالة الأفكار مع سفالة المعنى، فيستشري بين أساتذتنا أننا لا نفهم ما نقرأ، وأن مطالعتنا مجرد دخان ينبعث من فم مدخن شره.
ما إن نقرأ عبارة لعظيم حتى نسجد اقرارا بصحتها، من غير تتبع، ونضعها نبراسا لا يُنال منه، ولو كان من سراب،  وهذا هو ما قصده الدكتور سعيد الكملي بحديثه، ونحن نستحق ما قيل فينا إذ سلمنا عقولنا لكبار النهضة الحديثة ولرواد السلطة الثقافية واستسلمنا لآرائهم مع فضلهم الشامخ ونداهم الماجد وسبقهم الشريف. لم نعد نقوى على ابداء آرائنا خوفا من أن نُخالف العُظماء، فإذا قيل أن روسو مُلهم، وهيجل نابغة ونيتشة عبقري ودوكنز آسر ساحر، فينبغي علينا أن نردد ما قيل لئلا نُتهم بعُقم الفهم واجداب الفكر. لا أحرض هنا على العناد من أجل العناد، ولكن الشيء الجميل الآسر لعينيك قد لا يبدو لي إلا ركاما من أحراش، وكلا النظرتين لا تسلب ذلك الشيء حقيقته، فدعونا نُصرح بآرائنا فهي مجرد آراء.
في ثقافتنا المحلية المعاصرة إذا وردت أسماء أوائل المفكرين والرواة والقُصّاص والأُدباء فإنها تُقبِلُ ومعها الكثير من وشوم الاستغراب ووسوم التحيير ومتضادات الآراء المتراكمة في النفس مع أراء استشفيناها من حروفهم في ليالٍ سامرنا النجوم بحضورهم بين طيات كُتبهم، وأيضا يُقبلُ معها الخوف المتجذر والرهاب الثقافي الذي تتراعد معه الفرائص من قيود التسلط الثقافي. لا نستطيع أن نُحرر شطرَ رأي جديد في هذه القامات الورقية حتى يكون الرأي جهالة، والحصافة حماقة، ثم يقام فرحٌ ومرح بتقليدنا قلائد الرجعية وخَواء الخواء. ولكن هذا لا يُعفينا من اقتحام غمار هذه الأمواج، وتحطيم تلك التماثيل، وولوج حربٍ ولكن بسلاح، بسلاح العلم لا بأخشاب العناد، وتحت سنا الفهم لا تحت عتمة الانبهار.

وهمُ الجاهلين







يُقال أن نقشا على جوازِ السفر الأمريكي يقول " حامل هذا الجواز سنحرك من أجله أسطولا"، لا أعلم عن صدق هذا فجُل رفاقي عروبي المولد والمنشأ، فعلى فرض صحته، فأنا أكيد من أنه شعارٌ براق انتقائي يعملُ في تجييش النفس أكثر من وقعه في الواقع، مثله كمثل الديموقراطية المشوهة أو السماحة الانتقائية أو التلطُّف الخبيث. حادثٌ من حوادث التاريخ كفيلٌ بكشفِ السترِ الحاجزةِ عن ذاك الوجه البائس والقناع المستهلك، وشقاوةٌ طفل مدلل تُجلي عما يختبئ تحت المنضدة. تعالوا معي لنرى هل سيكون خلف أروقة البيت الأبيض للدم الأمريكي من ثمنٍ فعلا ؟ وهل هناك ديموقراطية حقة في بلاد الهنود الحمر؟ 

في عام ١٩٦٧ وفي حُمى وطيسِ حربِ اسرائيل ضد العرب والنكسة المشؤومة، وأثناء ما كان عبد الناصر تاركا طائراته صيدا سهلا للوهم الإسرائيلي، اقتربت من شواطئ الإسكندرية سفينة تجسس أمريكية تدعى "USS" ليبيرتي، مطمئنة آمنة وهي ترى حليفها الأصغر يمارس ألعابه المفضلة فوق رمال سيناء، رافعة علمها ومُعلنةً عن نفسها بأنها "الأمريكية" التي دانت لها بحار الأرض من أقصاها لأقصاها. كان الطاقم يتناول غداءه الشهي ويتلو صلاة الشكر، إذ بطائراتٍ تحملُ "نجمة سليمان" الزرقاء تحوم حولهم، وتتطقسُ طقوسهم، حامت وجالت، وفي تشكيل هجومي انهالت عليهم القذائف والرصاصات، دوي الانفجارات أشد من دوي الغضب، تَخرّق البدن، وانفجرت خزانات الوقود، تناثرت الأشلاء، طغت الدماء، تزلزلت السفينة، انعزل الطاقم، ساد الصمت، بقيت مناظر الدماء، ورائحة الشواء. موجةٌ هجومية أخرى تأكل مقدمة السفينة، تشْتَعل النيران، تتطاير الرؤوس، تلحقها الأيدي والأقدام، لم يبق إلا الغرق، تُبحر الزوارق اليهودية، تقترب من السفينة، إسرائيل عازمة على إغراق حاضنتها، ينطلق الطوربيد، يبحث عن السفينة، أصابها في مقتل، يفغرُ البحر فمه، يصمت الرعب، يتفاجأ ساسة البيت الأبيض، ارتسمت علامة الاستفهام فوق رأس الرئيس "ريتشارد نيكسون"، يأتي الأمر من إسرائيل، أسكتوا الإعلام فهي مجرد غلطة، إن كنت تريد الفوز برئاسةٍ أمريكيةٍ أخرى. ماتت الديموقراطية على ولادة الرأس مالية، والثمن جسدُ خمسة وثلاثين جنديا على السفينة. هنا اصطدمت الحريات السياسية بسلطان رأس المال فعصف بها وأثبت أنها "وهم الجاهلين"، أُغلقت القضية وزادت المعونات الأمريكية لإسرائيل بشكل خيالي، هذه هي حقيقة الرأسمالية عندما تُوهم الجميع أن للفرد حريته، بينما هي من تضع أمامه الخيار الذي يجب عليه أن يختاره من غير وعي، لم تُحرك أمريكا اسطولا لحماية أفرادها، وفاز نيكسون بولاية أخرى لم تدوم.