رناتُ أنين .





ضجيجٌ وهديرٌ وصخبٌ ونعيقٌ.
سواد الليل ينهش أوصال الضياء.
فلا تدعيه و اعتقي قلبك النابض.
أزيحي عنه جلباب عبوسه وتجهمه الأسود.
أنقذيه من الاختناق.
فالوأد في الإسلام حرام.
فعلُ الحبِ سنة المحبين، وطقوس العشق يتمرغ بها كهنة الحب وأرباب الحنان.  
سيدتي، سيخطفك قلبُكِ وأنتِ متيقظة وتنصاعين لندائه كفراشة ذات ألوان تقترب من نور السرج لتهب روحها ثمنا لملامسة النور .
سيخطفك ممن حولك.
لأكون أنا حولك.
اخلعي ما ترتدين ,,, كوني عمياء.
أسدلي رأسك نحوي بعد ترنحٍ.
اضطجعي الهواء وراقبي السماء .
فوق البخار.
تحت الفضاء .
يتهدل شعرك الأسيل.
ترتخي قدميك.
تسقط ذراعيك..
يتمايل نهداك اللينان من فوق إبطيك كأنهما تفاحتين مصابتين بالسمنة فلم تقوى الأغصان حملهما.
تتراقص نسمات الهواء لذةً بملمس جسدك ظاهرُ الدمِ الناشغُ بالماء.
تُحرك جدائلك فتلامس أطرافها أطراف أردافك المحرمة.
لِآتيكِ بأصابعٍ من نور.
وأجسُّ ما تورمَ خجلاً.
وما اغرورق حباً.

سلام أيها الفضاء الحاملُ بكفٍ مرتعشٍ يخافُ الفقدَ جسداً خُلق من الحبِ وغُذي بالحب وأُدخل لفافةَ الحبِ و غَفا على صدر الحب.
جسدٌ صغيرٌ يتوارى خلف الجدران خجلاً فكل الأحداق ترقبه وحُق لها.
رائعٌ مخلوطٌ بالنرجسية التي ما تزيد حُسنك شيئا.
فقد بلغ الحُسن منك ذروته وأمسك القمة وقعد منها بمقعد لن تزحزحه عنه تتابع الفصول و هطول الدموع و صفعات الفقد .  

إذا سكتَ تضطربُ الكائناتُ والأجرامُ والمذنبات، تنتظرُ بلهفة الحرمان رنةً بديعة من مبسمٍ أحمر.
إذا دمعَ تتسابقُ الجبالُ والمُهدُ لعلها تستسقي بدمعةٍ ترتجُ منها جنباتها و تحيى بها أزهارها.

سلامٌ أيها الضياء الغامرُ بنورك ظُلمة التعساء، وأي سلام يحتويك، سعادة القلوب وبهجتها، بسطة الأفئدة ورونقها.
سلام أيها الربيع الواهبُ بجمالك حياةً للأموات، وأي سلام يحتويك، منةُ الله ونعمائه، منحةُ الرحمن ويساره .
سلام أيها الفضل الماحي بعطائك فقر القلوب، وأي سلام يحتويك، كرم المحبين وإحسانهم، ندى العشاق وإفضالهم.
سلام أيها الجَّم المُعتلي بعظمتك صغائر النفوس، وأي سلام يحتويك، علو الأجلاءِ وشرفهم، رفعةُ الوِقَّارِ وعظمتهم.
سلام أيها الجسدُ المكتنف بين جنبيك قلبٌ احتشد بفنائه كل نقاء الكون.
فأسد لي رأسكِ نحوي بعد ترنحٍ.

فلا ضجيج ولا هدير ولا صخب ولا نعيق.



نقاط في رواية ( النبطي ) ليوسف زيدان ..






تدور أحداث رواية (النبطي) ليوسف زيدان فيما بعد سنة ست للهجرة وقبيل دخول عمرو بن العاص لأرض مصر. وفيها تحدث الرائع (زيدان) على لسان (مارية) التي تزوجت عربياً من الأنباط (سلومة ) ورحلت لتعيش معه في الصحراء تاركةً (كفر النملة).
الرواية عرضت لنا في البداية الصراع المسيحي المسيحي وكان هذا جلياً في المعارك الحوارية بين الراهب (باخوم) والكاهن (شنوتة) في الكنيسة. كما سلطت الضوء على حياة عرب الأنباط الذي لا نعرف عنهم إلا القليل .

(مارية) التي تتحدث دائما لنا بقلق وفقدان للأمان وخوف يختلط بالطيبة والسذاجة والحنان والأنوثة الملتهبة أحيانا، وهذا نراه في حواراتها مع (عميرو) عن حياة العرب، ومع (النبطي) عن أفكاره الدينية ومعتقداته الغريبة، ومع (ليلى) وأوهامها ونكاحها مع الجن .

في ثنايا الرواية ألمح لنا (زيدان) عن روحانيات (النبطي) والتي قد تكون حسب علمي مستوحاة من المعتقدات الوثنية والتي تقوم على تقديس الكون واللات والإله (إيل) وتناسخ الأرواح وتقلبها من ذكورتها إلى أنوثتها لتكتمل دروتها مع قابلية أن تتناقل هذه الأرواح إلى الحيوانات فتصبح روح الطفل فراشةً وروحُ العاشق المحب هدهداً.

الوصف السردي في هذه الرواية طغى للتفاصيل الجغرافية على حساب وصف الشخصيات, بل في بعض مواقع الرواية يحلق بنا (زيدان) بإبداع حتى وكأننا نرى المكان عياناً بياناً لا أن نقرأه في أسطر فقط، وفي المقابل فشخصية (النبطي) بطل الرواية بقي صامتاً شارداً منعزلاً مُختفياً وهذا يجعلنا نتساءل هل يقصد (زيدان) أن الأنباط اختفوا أو صمتوا للأبد ؟ 

(نبطي) و (مارية) في نظري هما أكبر من مجرد شخصيتان في رواية، بل هما حقبة تاريخية أو معتقد صامت عشقته (مصر) - في نظر زيدان- وفارقته مرغمةً بلا حول لها ولا قوة. (ناداني سلومة زاعقاً، فذهبت إليه رغماً عني ، رفعني على بغلةٍ تحوطها حميرٌ محملة، وأشار بطول ذراعه إلى النبطي مودعاً).

لغة الرواية تصويرية شاعرية عاطفية جياشة جميلة تشد القارئ ليستمع ويعيش الأحداث. (خلفي يقف النبطي في ثوبه الأبيض كأنه حلمُ ليلٍ حزين .. التفتُ إليه مرتجفة الروح فرأيته وحيداً بين الأحجار والرمال...) ثم يكمل ( انحرفت بي البغلة مع ذيل القافلة الهابطة إلى السهول فلم أعد أشاهد بعيني غير رؤوس الجبال لكني شاهدته في قلبي واقفاً في موضعه ينتظر في هذا التيه أمرا قد يأتيه أو لا يأتيه ) صفحة (381).

النهاية أرعبتني وهزتني كثيرا ففيها الكثير من الألم والحرمان والحيرة وحب حياة الوثنية ( هل أغافلهم وهم أصلا غافلون ، فأعود إليه لأبقى معه ، و معاً نموت ، ثم نولد من جديد .. هدهدين ) .

الرواية تمزج بين الحياة اليومية مع مزجٍ لأحداث التاريخ والشخصيات التاريخية في تسلسل منطقي ولا عجب ! فشخصيات (حاطب بن أبي بلتعة) و (مارية القبطية أم المؤمنين) و (عمرو بن العاص) و (فروة بن عمرو الجذامي) و (أسير بن حزام) تُظهرُ كيف استطاع (زيدان) وببراعة أن يجعلنا نسير وفق إيقاع الزمن.

لا يغفلني التنبية لبعض المآخذ على هذه الرواية وأن لا يُشرب السم من بين صفائح العسل ، فقد عرض (زيدان) ولو للقارئ العامي المبتدأ بعدة أمور منها:
1.    دموية الرسول صلى الله عليه وسلم ( يأتي بهذا....ويُسيل الدماء) .. صفحة (309) وجعلها مقابل سماحة الوثنية كما يعتقد – زيدان- وصاغها بطريقة غير مباشرة.
2.    ظلمُ الإسلامِ لليهود كما يدعي وحُكم سعد بن معاذ عليهم مع التغاضي عمداً عن نكثهم للعهود والمواثيق وهو الأمر الذي جعل المسلمين يحاربونهم.
3.    إجلاء اليهود من (يثرب) وطردهم لتستقبلهم وثنية (النبطي) بكل ترحاب. ولا أعلم هل في هذا مغازلة لليهود القائمين على جائزة نوبل كما فعل من سبقه.
4.    هدْم الرسول صلى الله عليه وسلم لكعبة الوثنية في الطائف، و هنا تنجلي عبقرية (زيدان) وكيف استطاع بجمال سرده وروعة عبارته ودقة لفظه أن يجعلنا نتعاطف مع ( أم البنين) الوثنية التي كانت تطوف حول (صنم اللات) حتى ماتت كمدا على كعبة الطائف .
5.    يخبرنا (زيدان) أن دخول الإسلام إلى الأنباط جعلهم مشردين هائمين، تركوا ديارهم ورحلوا عن منازلهم مجبرين . (لا تتأخروا في الرحيل ، والذين يسكنون إلى الشمال من هنا ينزحون إلى الشام مع أهل جذام ) صفحة (368).

رواية (النبطي) أكثر من رائعة (أدبياً) و(سردياً) وليس لمثلي أن يُقيم هذه القامة الأدبية الرفيعة . ولكني أشمئزُ ممن يستخدم (الأدب) عموماً لبثٍ فكري وتوجهات ذهنية معينة ومنشورات طائفية أو دينية لخيانة التاريخ والفكر .




شكراً (رُوكسان) تباً (منيرة) ..



(رُوكسان) شابةٌ جميلةٌ أنيقةٌ فاتنةٌ مثيرةٌ تحمل كل معاني الأنوثة في حضنها الدافئ الصغير .......

لا .. لا .. اعتذر أعزائي ليست كذلك سأبدأ من جديد...

(رُوكسان) فتاة مسيحية، ظلت تعمل عقوداً طويلة في خدمتنا كسعوديين، وكانت حنونةً على العجوز، لطيفةً مع الطفل، صديقةً للكل.

يتدفق الإخلاص من عينيها، في مشيتها الجد وفي ركضها النشاط، قريبة من المريض، تبكي لألمه، تفرحُ لشفائه، تشاطرهُ معاناته وأنينه، تمسح على رأسه، تحافظ على فراشه الأبيض نضيفاً، تعطيه مَصلَه ودواءه في وقته، تُوقظه لصلاته و سحوره .

كل ما فيها ينبيك بتربية الإسلام ولكنها لم تنطق الشهادة.

ومع مرور الأيام وجرِ السنين لرداءِ العُمرِ من تحتنا ذهبت (رُوكسان) وجاءت (منيرة) المسلمة المتحجبة، بنتٌ من بناتنا ومن داخل بيوتنا ودورنا، جاءت ومعها كل متناقضات المهنة والدين، لا تعلم إلى أين هي ذاهبة؟ هل لمستشفى أم سوق تجاري؟ كأنها مغصوبة للعمل كممرضة!

متكبرة متعجرفة مغرورة لا تفقه في الطب والتمريض إلا حروفَ اسمه ، محترفةٌ في قهقهات الممرات جاهلةٌ بأقل أصول المهنة، تخاف الدماء، لا تقوى لمس الجروح، لا تعلم أين الشريان من الوريد ولا أين الكلى من البنكرياس.

أهلكت المريض برائحة عطرها وفتنت المراجع والزائر المسكين.

لا علينا فهذه شخصيتها، ولكن من حقنا كمرضى ممن هن في مكانها بخدمة تليق منهن كممرضات تخدمُ المريض مهما كان طيفُه أو طبقته أو سنه.

لجانُ وزارة الصحة في الوقت الحالي تشتكي مما تعانيه (منيرة) من مضايقات ومعاكسات وتحرشات وكأنها هي الأنثى و (رُوكسان) ذكرٌ لا تملك مقومات الأنوثة.

(منيرة) أصلحك الله :

لقد خرجتِ من بيتك وتركتِ أبناءك وزوجَك وأهلك ، من أجل هذا العمل الشريف والذي تتمناهُ الكثير من الفتيات المتقنات للعمل القائمات على بيوتٍ وأطفال، فاحمليه فوق أكتافك بأمانة متحملةً عواقبه و مسؤولياته، فوالله لهو أمانة عظيمة ، وعنها ستُسألين فالمريض مريض يحتاج للعناية والاهتمام فاتركي ما يلهيكِ عزيزتي واعملي وعودي لنا برائحة ونظافة و حسن تعامل ورعاية مستشفيات ( روكسان ) فأنتِ منها أجدر وبخُلقك و دينك وثقافتك أنتِ منها أجمل.

منعطف .




(1)
على كرسي من السنديان الناعم ، أشرب الشاي المُحلى وأنظر للمارة في أحد شوارع العمر . تتقافز أمامي بعض الكرات العتيقة ، ملونة بألوان السماء وألوان جذور الشجر .
وصلت للدرجة الثامنة عشرة من السلم الخشبي الذي (يطقطق) مع كل خطوة أخطوها . كانت من أضخم الدرجات حتى أني أرى فيها حديقة غناء ذات أوراق وأغصان ذات شجون وبيت خشبي التهمته النيران .
في أحد أركان الحديقة خبأت ( آلة المزمار ) وفي الناحية الأخرى رسائل الحب في دفترٍ أزرق صغير . أهوى الإمساك بأعنة الدجاج متخيلاً نفسي أرخي خطامها لتحلق بي بأقصى سرعة . قد كنت محظوظاً فلا أحد في عمري يملك الدجاج ولو كان خيالاً.

(2)
يا لعظمة هذه المباني ...
لم أرى في حياتي غرفة ذات سقفٍ يرتفع خمسين متراً.
سأجرب الصراخ ..
وادي سحيق يحوي مقاعد وطاولات لكتابة الأرقام عليها ومطعم وبعض الأرانب .
هناك أرنب مسالم . وآخر كاشف الرأس ، وأنا ألبس العمامة وأدخن .
أُقحمتُ في حلبة النزال ، وفزت في الجولة الثامنة وكانت المكافئة ( سيجارة ) .

(3)
اكترينا حظيرة مفروشة بحصى أبيض حاد الرؤوس يُطلقُ شرارا عند احتكاكه.

(4)
تشققت لي السماء وهطلت قطرات خفيفة ، جمعتها في إناء وامتطيت غزالة لا يوجد في كبدها المسك . فالرجل صاحب الشارب العريض كان يقول: لا خير في غزالةٍ تُلهيك بمسكها .

(5)
الطريق كان مليئا بالأشجار المورقة التي تُسقى بمياه الصرف الصحي ولكن لجهلي لم أعلم أنها مياه غير صالحةٍ للشرب ، فالماء عندي هو الماء، ما ينزل من السماء وما يصعد في الأشجار . رأيت إحداهن منزوية حزينة، ذهبت لأحتضنها فذابت كالثلج بين كفوف ملتهبة ، احتضنت أخرى فغاصت في الأرض وكأن لم تكن ، غمزتُ للأخيرة فأدارت غصونها بابتسامة خجولة في ثغرٍ أحمر يخفي اللؤلؤ وبقيت معي ، ولكنها كانت شجرةً عاقر .
الأشجار تغيرت وأصبحت كالحرباء ، تزحف وتُغير لونها وتسقي السم للأفاعي وتتحدث أحيانا بعد منتصف الليل .
لم تعد تتشقق السماء ويبدو أنني تغيرت عليها. استبدلت الصخور بالسماء ، فالحفر في الصخر أسهل من انتظار القطرات التي يفوز بها دائماً الأكثر طولاً .
وفجأة وثب أمامي رجل دميم أسود ، ملتفٌ حول نفسه ، جسده مليء بالبراغيث، وتتدحرج الكلمات من شفتيه كالصخر اسمعُ صوت دحرجتها وهي تحطم الجدران وتُكسر الزجاج . يلفني ظهرا كسيجارة ويضعني بين شفتيه ويدخن. كانت رائحتي كريهة ولكنه ورغم حرارة الشمس كان يدخن. لم يطفئني تحت قدمه بل كان يزجُ بي في زنزانةً تحت الأرض مجاورة لغرفة الصرف الصحي .
كان هذا الدميم يُلقنني كيف أكون كلباً مُطيعاً.

(6)
ما زلت بالرغم من (طقطقة) السلم أحفر الصخور فقد زارني أبي ليلة البارحة وقال: بداخل إحدى الصخور ستجد ( إبريق الجن والعفاريت ) الذي سيجعلك تآكل الذهب وتشرب الزئبق .
لم أعد أثق حتى بأبي ... فلا وجود للجن والعفاريت عوضاً عن أن يكون لهم إبريق . فقد أكلت الهواء وشربته .

(7)
لم يعد الطريق مليئا بالأشجار أو أنني لم أعد أراها ، يجب أن لا أشغل تفكيري باختفاء الأشجار ، فنخيل العراق قد أُجتثت من جذورها ، والقانون السماوي أصبح يافطةً تُعلق في الشوارع يقرأها العملاق وتنبح تحتها الكلاب .

(8)
سأتسلق جبال الحجاز، أو سأحفر بداخلها ,, ولكنها أصلب من تلك الصخور والحكومة قد صبت عليها الرصاص .
إذن سأكتفي بالسير في الوادي فلكل وادي في نهايته مصبٌ في البحر .
وهذا وادي من الوديان .
سأصل وسأشرب البحر . ليتني من العمالقة أو أخدمُ عند العمالقة ، لكان البحر تحت قدميّ يتودد بأمواجه فاضربه بالعصا فينفلقْ واضربه أخرى فيُغرق جبال الحجاز .
توقفتْ قفزات تلك الكرات العتيقة على وخزات ذلك النادل الذي أجبرني على دفع ثمن كوب الشاي البارد..



جازنة ..


هوت برأسها على وسادتها المحشوة بالقش، مُحملقةً إلى أخشابٍ مهترئة في سقف غرفتها المظلمة الخالية إلا من سراجٍ ملقى على الأرض يبعث بضوء ضعيف أصفر.
بابٌ واحدٌ ونصف نافذة يسمحان لهواء محرقة النفايات المجاورة بالدخول لهذا القبر. كم من ليلة مرت وهي تتمنى أن يأتي شيءٌ خفيٌ يمزق لحمها إرباً ويمتص من دمها ليتركها جثة هامدة بلا أدنى حركة .
للتو تخطت شتاءها (الثامن عشر) وقسمات وجهها الأسمر النحيل توحي بأنها عجوزٌ تخطت الخمسين. عاشرت الفقر فأنجبت توأم الهم والغم .
مع هذه الحملقة والتأمل. رنت في أذنيها صرخات أمها عند لحظات موت أبيها متأثرا بمرض ( حمى الوادي المتصدع ) الذي أهلك الحرث والنسل في قرية ( آل جردان ) المُظلمة والتي هي في عُرف ( أمير المدينة ) لا تتعدى كونها مقبرة نبت في زواياها بعض الشوك.
- هنيئا لك أبي فعلى جثتك هناك من يصرخ.
- مسكينة أنت أمي، فلم تجدِ غير الدود ينهش في جثتك حتى لم يبق منك إلا مكانك.
سكنت التنهدات الموجعة وخفضت الغصات الأليمة وتوقفت الدموع - الخارجة من قلبٍ مسحوقٍ - إثر سماع صوتٍ ينادي : ( جازنة ) يا ( جازنة ) هنا طعامٌ جلبته لقطتك الصغيرة .
أزاحت ( جازنة ) ما يشبه الباب وأخذت الطعام من الجارة العجوز، افترشت الأرض ، وسمت الله، وتناولت الطعام .
مدت يدها وسحبت الصحيفة التي كانت قد وجدتها على قارعة الطريق لتلصق صدرها عليها وتنام وعينها على تلك الحروف و الخربشات متمتمةً بحسرة : (ليتني أقرأ)..
استيقظت صباح (الثلاثاء) على أصوات الشاحنات التي كانت ترمي النفايات في مكبها، فهبّت من نومها مسرعة تجري نحوها لعلها تفوز بوجبة إفطار ساخنة قبل أن تسبقها إليها قطتها الشقية.
هاهي ( جازنة ) تُفتش في الأكياس السوداء، تضع يدها على أنفها فالرائحة لا تحتمل ، تمد يدها للداخل ، تتحسس ، جرحت يدها ، تُخرجُها لتمتص نزيف الدم من أصبعها ، تواصل البحث ، هذه نصف سمكة .. ما ألذها .
قبيل الظهر .. (جازنة ) متكورة على بطنها تتقيأ نصف السمكة.
استقامت متهدلة الأكتاف ترتدي قميصها المُرقع ومئزرها المُقلم ، تسير وصدى ضربات نعلها المطاطي على كعبيها المتشققين وهي تنادي حمارها ( فْلِيح.. فْلِيح ... يا فْلِيح..)
سمعها فأدار أذنيه وحدد المقصد وانطلق نحو فارسته .
ما أنبهك يا ( فْلِيح)، والحمد لله أن عمي الظالم تركك لي ولم يغتصبك مع ما اغتصب من أرض (الدُّخن) وأربعة رؤوسٍ من الغنم ، ووافقه في ذلك القاضي الذي منحه هذا الحق بحجة أني لم أبلغ الحلم .
كان هذا العم يكره (جازنة) ويتحين الفرصة للخلاص منها ، لأنها تعيره بظلمه وسرقته لمالها أمام تجار القرية.
أدارت خطام حمارها بعد أن طرق على مسمعها من أحدهم أن (جمعية الخير) توزع على المساكين والمحتاجين بعض الصدقات والزكاة.
في الطريق عرفت كم سحقتها رحى الحياة وكم خنقتها عبرات الأيام ، لا لذنب اقترفته ولا لخطأ ارتكبته، دائما ما كانت تحسد ( فْلِيح ) وتتمنى أنها لو كانت ( فْلِيحة ) . تذكرت الأيام الخوالي التي لم يكن أنيسها فيها إلا دموع المحاجر وقرقرت البطون وقطتها و(فْلِيح..)
لا يزعجها أكثر من القمل الذي يهرش رأسها ، فلم يعد هناك مكان للاستحمام بعد أن استولى ( أمير المدينة )  على  الوادي الكبير بما فيه (غدير الاستحمام) وتحديده بالشبك الشائك وكتابة لوحة حمراء لا تستطيع (جازنة ) قراءتها .
-         ماذا تريدين أيتها الفتاة الطيبة ؟
-         لقمة .
-         هل أنت فقيرة؟
-         هيئتي توحي بماذا ؟
-         حسنا، ناوليني إثبات شخصيتك ..
-         وكأنها تعلم هذا الطلب مسبقاً : لا أملك إثباتاً.
-         لا مشكلة فنحن جمعية خيرية ولسنا دائرة حكومية فناوليني شهادة ميلادك فقط . ..
-         لم أعرف المستشفيات وقد أنجبتني أمي بجانب العنزة (ميشو)
-         فعودي لـ (ميشو) وارضعي لبنها .
غاصت ( جازنة ) في التراب وتوسلت بدم الدموع وحرارة الجوع ورائحة البطن الفارغ، سقطت على ركبتيها قابضةً يده تُقبلها تستجدي اللقمة حتى اختلطت دموعها مع لعاب قبلاتها وصراخ يُقطع نياط القلب وبكاءٌ يحرك ضمائر الموتى ويُحيي صخور الوادي ، حتى رأف لحالها قملُ رأسها فتركها ورحل.
-         اذهبي يا فتاة فالأمر ليس بيدي ، وهذه ليست بأموالي وهذا نظام (الأمير)
ازداد صراخ المسكينة ، فسكاكين الجوع قطعت أمعاءها وألم الفاقة كسر ظهرها . وصرخت بهم : لماذا إذن تتنادون بالعدل والإحسان السماوي وتعملون بشرع هذا (الأمير)
شد يده واستلها من بين كفيها وذهب ليعلق لوحة خضراء على باب الجمعية مكتوب عليها ( يحيا ملك الإنسانية)
عائدة مع ذات الطريق، يائسة، متعبة ، متهالكة، مطأطئة الرأس ودموعها كالمطر على ظهر حمارها ، وكل ما في الوادي ساكنٌ إلا تلك الصخرة الكبيرة التي كان وراءها عاشقٌ ينتظر معشوقته ، ويخاف أعين الناس، هاهو يحدق بها وهي تقترب منه، فتتزايد نبضات قلبه، وينتشي فرحاً رافعا ثوبه إلى فوق فخذيه استعداداً لعناق الحبيب .
كانت ( جازنة ) تقترب من صخرة الموت، وهي لا تعلم أن هناك حتفها وعناق والديها.
انطلقت الرصاصة فدوى صوتها أنحاء الوادي متجهة نحو رأس (جازنة) التي رفعت بصرها ناحية الصوت فرأت عيون المجرم مع بسمته، فتجمد الدم في عروقها، واختلط عندها الواقع مع الخيال والحقيقة بالحلم وتلاشت حدود الحياة والموت، شخُص بصرها فاخترقت الرصاصة الرأس وتناثر المخ وغطت الدماءُ الأحجارَ والأشجار. وسقط الجسد ووقع الرأس على الصخرة، وأصبح الحمار جثة هامدة .. لقد أخطأ (عمها) وأصاب (فْلِيح) في مقتل .. فأراحه من هذه الحياة ولم يبق لـ (جازنة)  سوى قطتها ودموعها وقرقرة بطنها....
هرب العم بين أشجار الوادي ولاذ بالفرار متخفياً خائفاً مترقب ، تبكي حمارها قليلا وتبكي حذاءها المتمزق كثيراً .
وصلت غرفتها دامية القلب مجروحة القدم، ألصقت وجهها بالصحيفة وبطنها يقرقر ورجلها تنزف، تنظر الحروف متمتمة : (ليتني أقرأ).
وفي صباح يوم الاثنين كانت هناك سيارةٌ تصطف عند بابها، يحملها أربعة رجال وهي مغطاة بقماش أبيض وتقرير الشرطة مكتوب فيه : ( توفيت متأثرة بتعفن جرحٍ في قدمها اليسرى ) ، تنطلق السيارة إلى المقبرة وصوت الراديو يقول :
(اجتمع اليوم أعضاء مجلس الشورى السعودي لدراسة إمكانية قيادة المرأة للسيارة)....
تمت .

خطبة جاميِّ .






الحمد لله منزل السعود، خالق (النعيمي) موجود (النجود)، والشكر له صاحب الفضل والجود ، ماحقُ الظالم مُهلك الحسود :

أما بعد فيا أيها الناس:

فالدنيا قد أدبرت، والآخرة قد أقبلت، فالسباق السباق وأنتم في ساعات رخاء وعلى موائد هناء. فمن أخلص لسلطانه وحاكِم بلادِه فقد طاب عملُه ولم يضره أملُه ، ومن أسلمَ خِطامَه لغير ملِكه فباطلٌ ما صنع، وسحقاً لما فعل. ألا فاعملوا لحُكامكم في الرغبة والرهبة ، وفي الفرحة و الترحة ، فلولاهم ما وُجِدتم و برحمتهم ما كُنتم.
مالي أراكم ترومون ولا تُطيعون، وتطلبون ولا تركعون، وترتجون ولا تنقادون. وكأنكم تجهلون أن السلطان قد أٌوتي الحكمة وفصلَ الخطاب .

ألا وإنه لا وجودَ لحقٍ من غير طاعةٍ عمياء، ومن لم يستقم ويُغمض ويصُم وإلا فالنارُ أولى به .

عِباد السلطان:
أصدقُ الحديث أمرٌ ملكي ، وأوثق العُرى كلمة (وزير)، وخيرُ المِلل مِلة سلطان، وأحسن السنن سنة ولي الأمر، وشر الأمور ( صحوتها ) وخير الأمور (علمانيتها)، ما قل وكفى خيرٌ مما كثر وألهى .
أموالكم في خِزانة ، وأعراضكم في أمانة.

ألا وإن من أهل بيت السلطان من علمَ اللهُ بعلمِه، صغيره وكبيره فتتبعوا أثره تهتدوا، واسلكوا طريقه تنجوا، معهم رايات الحق، فمن تبعهم لَحِق، ومن تأخر عنهم غَرِق، بِهم فتحٌ ، وبهم ختمٌ.

اخدموهم في دورهم، والعقوا أحذيتهم، وتوبوا على ما يريدون ، واتركوا الباطل وما كنتم تدَّعون، فإنهم ورثوا الأرض والعباد. فعندما يتلجلج في صدرك أمرٌ فرده لولي الأمر أو حاجبه ، فعنده الأمان وعليه التكلان . اعرفوا أمثالهم وبطولاتهم وقِيسوا الأمور عند ذلك ثم اعمدوا لحبهم والتبرك بأبوالهم.

أقول قولي هذا واستغفروا الله العظيم ، وأحمده على إرساله ولِينا المبين.


لوحة الرحمة .




زرقاء جميلة وضاءة،

وريشة فنان أكثر إبداعاً.

تُصبغ اللوحة بالأبيض.

كيفما شاء

يرسمُ الشكل ويمحوه.

تأتي بيضاء من اليمين.

لتتزاحم مع بيضاء من اليسار.

تتصارعان مع تلاحم,

كإبل ترد المورد.

ثم يرسم الشكل ويمحوه.

تأتي ثالثة.

تهتز وتتراقص.

تداعب قرص الشمس.

تحجب قرص الشمس.

تُرسمُ جبالٌ وأشجار وحيوانات وأسماء.

أره مخيلتك وارفق بها.

أطلقها على جناح يمامة

يأتيك الإبداعُ ذاعناً.

تسمع سياط السوًّاقِ

تومضُ اللوحة .

يهتزُ قلبُ مزارع مسكين .

نَشَلَ كفيه من الحرثِ.

يرفعهما بالتراب راجيا أن تكتمل المسرحية


وينزل الغيث.


فتاة الحي .



  

فتاة الحي، فتاة قمراءُ، هِبةُ الجليلِ، عطيةُ الرحمنِ، روضةٌ غناءٌ، التَحَّ عُشبُها و اغتم ، لعوبٌ حَسَنةُ الدَّلِّ، حوتِ الأنوثة من حوافها، وحازت الجمالَ كُله دِقَّه و جِلَّه. نزلت من السماء، فتلقفتها الأرض، عاشرتِ العظماء والجبابرةَ الأقوياء.

مؤدبة ملوكٍ وخلفاء، مُعلمة شيوخٍ أجلاء. أُريق تحت قدميها دماءٌ و دماء.
تواضع لها الفارسي فرفعتهُ، وعشقها الكِناني فزادته إجلالاً وألبسته وقاراً.

وهناك على الطرفِ النقيض وفي الضفة المقابلة:
مقتها هولاكو فأزال الكتب والمكتبات، وأبغضها المسيحي الصليبي فأحرق غِرناطة وأقام محاكم التفتيشِ تنكيلا بها، حنق عليها أتاتورك اليهودي الظالم فاغتصبها في وضحِ النهار وأعمل فيها بعنجهيتهُ، وهي المتواضعة الخاضعةُ المُذعنة.

وافاها طوفانٌ مُفاجئ، وموجٌ سريعٌ متلاطم، وريحٌ صرصر بارد، فخرجت رافعة الرأس، مُنتصبة الصدرِ، أنفها للسماءِ، وكعبها فوق السحاب، شامخةَ عزٍ ومُتكبرةَ إباءٍ.

هذه لُغتنا العربية، على جراحها تقوى ومع وصَبها تفوزُ وتنتصر، تسلخُ عنها الوجع لتلبسَ الغِبطة وتنزعُ العذابَ لتتسربل بالفرح.

إعلامنا الهزيل حصرها في زاويةِ الناقةِ والجملِ وأبي جهلٍ وتباً لك وسُحقاً فقط.
ووزارة التعليم هتكت الحُجُبَ وجردتها أمام أعين الذئاب في ليالي الظلام.
والجامعات ضعيفة الحيلة رديئة المسلك سيئة السمعة.

الفرنسي يُقدسُ نابليون بونابرت ولغة حربه وآلامه، فيمثلها أمام شعبه حيةً في يومياته وشاشاته وأفلامه على ما ينضحُ منها من عارٍ وخِزي ولكنه تاريخه الذي زرع في أبنائه بذور الثقة وغِراس الأمل والطموح.

ونحن أبناء العربية السماوية، نُكني الفصيح (مُتشدق) والبليغ (متفيهق) والمُفوه (مستهزئ) والِمِلسان (ثرثار) فواويلاه  لو خرج الفراهيدي من قبره والكسائي نفض تُراب لحده.

وأخيرا فهذه الفتاة الأصيلة لن يعشقها إلا عربيٌ أصيلٌ، ولن يعاقرها إلا مجيدٌ كريمٌ .





مُعلمْ، لا مُعلمْ .




في صباح يوم من أيام ( تشرين الثاني) ، والسحاب في معاركه الضارية ضد أشعة الشمس الذهبية. خرج من قصره مرتدياً نظارته ومعطفه الأسود الطويل..

أهلا بك أستاذ ( رشيد ) قالها سائقه الخاص وهو يفتح له الباب الخلفي للسيارة .

في المقعد الخلفي أسند ظهره، وتناول جريدة اليوم، وشرع في تصفحها، بينما السيارة تنطلق مسرعةً عبر طريق خاص بمعلمي مدارس التعليم العام. هذا الطريق الذي يوصلُ لفناء المدرسة الواسع. كان خاليا من السيارات، بعد أن أصدرت وزارة التعليم تعليماتها الجديدة بمنع المعلمين من قيادة سيارتهم الخاصة عند قدومهم للعمل، حفاظاً على سلامتهم وهدوء أعصابهم، فلا يكدر صفو تفكيرهم شيء. وقد وفرت هذه الوزارة أسطولا من سيارات الكاديلاك الفارهة لتوصيل رجال التعليم إلى مدارسهم وإعادتهم بعد ذلك إلى بيوتهم...

                                         
كان المدير واقفا في ساحة المدرسة مبتسماً ضاحكا مسرورا:  صباح الخير أستاذ (رشيد) فها أنت كعادتك تصل في وقتك المحدد.

- وكذلك أنت يا سيدي الفاضل، فدائما ما  تُلبسنا ثياب الخجل بطيب أخلاقك ونبل تعاملك بتركك لمكتبك الدافئ والخروج في هذا الطقس البارد لترحب بنا معاشر المعلمين وعلى محياك هذه الابتسامة البيضاء.

- هذا من ضمن واجباتي تجاهكم يا قادة المجتمع يا من تصنعون الأجيال.


يدخل (رشيد) مع مدخل المدرسة فيسمع ترحيبا إلكترونياً بصوت أنثوي مشبع بالحيوية. وبعد وصوله إلى الطابق الرابع ينفرج باب قاعته الدراسية. تضيء الأنوار وتعمل أجهزة التكييف تلقائيا. يعلق (رشيد) معطفه الباهظ الثمن في المكان المخصص ويجلس أمام شاشة الكمبيوتر الخاص به في انتظار الساعة السابعة.

يستدير بكرسيه إلى الخلف، وفي اللوحة التي بها عدة أزرار، يلمس زر ( القهوة بلا إضافات). يتناول كوب قهوته الساخن، ثم يستدير مرة أخرى. ويحين الوقت.

يظهر وزير التعليم على الشاشة أمامه، يلقي كلمته اليومية المباشرة التي من خلالها يستمع لمناقشات المعلمين وطلباتهم و سبل الارتقاء بهم وبهمتهم التعليمية.

يرن هاتفه الخلوي فجأة:

- أهلا من المتصل ؟

- صباح الخير أستاذ (رشيد) أتحدث معك من (بنك المدينة المركزي) فقد تلقينا اليوم أوامر بصرف مكافئة تعليمية لحضرتك، فهل تريد أن نودعها فورا في حسابك لدينا، أم نرسلها شيكاً مصدقا إلى مكتبك؟

- صباح النور والسعادة، أودعها إذا سمحت بكاملها في حساب الجمعية الخيرية.

- تحت أمرك سيدي .. مع السلامة .


أين هي مجلة التعليم ؟ لا أعلم أين وضعتها بالأمس ؟ يبدو أنها في خزانة الكتب في مؤخرة القاعة!! نعم هذه هي ..

سأتأكد مما قيل لي البارحة ! فإن كان ذلك صحيحاً فلن يبقى هذا الوزير في مقعد الوزارة لحظة واحدة، وسنجعله نحن رجال التعليم كورقة خريف صفراء في مهب الريح تلعب بها كيف ما شاءت .

يقلب صفحاتها بعجل، هذا هو الخبر ( وزارة التعليم تنشئ مختبرات العلوم في المدارس الثانوية بقيمة عشرة ملايين ريال سعودي لكل مدرسة)

فاغرا فاه! ما هذا ؟ عشرة ملايين ريال لكل مدرسة ! كيف ؟ لماذا ؟ متى ؟ أنا من وقع عقد هذه المدرسة مع الشركة المنفذة، لقد كان العقد بـقيمة مليون ريال فقط !!

نحن في دولة القانون العادل ودوائر الانتخابات، فسأرفع الأوراق للمحكمة الإدارية وسأقاضي هذا الوزير وسأجعله يعترف ويُقر باختلاسه لهذه المبالغ، وسأزجُ به في السجن، إنه خائن! ولكن ما الذي يجعله يقوم بهذا الفعل الشنيع الذي ما عدنا نسمع به أبدا؟ يبدو أن يقرأ كتب التاريخ كثيرا .!! خائن!!.

سأرسل الشكوى مع الفواتير للقاضي فوراً والآن؟

انتهيت، الآن سأخرج فقد كدر هذا الخائن مزاجي وعكر صفو مائي بتحريك الوحل في قاعه فلم يعد لي طاقة للالتقاء بالطلاب.

في صباح اليوم التالي استيقظ (رشيد) على صوت تنبيه رسالة على شاشة هاتفه.

(عزيزي الأستاذ رشيد: موعدكم مع قاضي المحكمة سيكون هذا اليوم في تمام الساعة التاسعة صباحاً. ونود أن نلفت انتباهك إلى أنه قد تم التنسيق من قبلنا مع مدير مدرستك لمنحك إجازة لهذا اليوم ليتسنى لك إنهاء كامل معاملتك لدينا. مع تحيات : وزارة العدل )

يقول القاضي مطلقا أصابع الاتهام للوزير: أمامي أوراق تُثبتُ اختلاسك لمبالغ طائلة من عقود إنشاء المختبرات المدرسية! ما قولك ؟ 

-  هذا تزيف وافتراء وتشويه لسمعتي يا فضيلة القاضي.

-  وهذه الأوراق والفواتير وقد تبين لنا صحتها، وهذا التوقيع هنا أليس توقيعك ؟ اقترب وانظر ! هنا.

-  نعم هذا توقيعي وهذا هو اسمي ..

- إذن أنت تُدين نفسك ؟

- يا فضيلة القاضي هناك خطأ ما، أنا متأكد.

- لن أبقى على الجدال معك أيها الوزير . هيا اذهب واجلس على كرسي الاعتراف ، فهو من سيجعلك تدخل في غيبوبة وسنرى في الشاشة كل ما تفكر به.

بعد ساعة من دخول (رشيد) لقاعة المحاكمة كان صوت القاضي يدوي في جنبات تلك القاعة بالحكم النهائي: أيها الوزير: اخلع عنك رداء الوزارة ورد كل الأموال المختلسة واذهب إلى السجن.


 وأنت يا (رشيد) لك منحة تترقى بموجبها في عملك نظير أمانتك وعدم سكوتك عن الظلم. ثم هوى بمطرقته على الطاولة ناطقاً: رُفعت الجلسة .


دخل بقية المعلمين يهنئون (رشيد) ، رفعوه فوق الرؤوس والأعناق، وهتافاتهم تتصاعد، أرسلوه في الهواء احتفاءً به، انفلت من بين أيديهم . وقع أرضا ، فاستيقظ ليجد نفسه قد هوى من فوق سريره المهترئ في غرفة نومه الصغيرة الضيقة.