الأمانة، تموت خنقاً !






أمقت حد العجبِ رجالَ الأمنِ, وأكره حد الغرابة تلك العيون الساهرة، بيني وبينها شناءة، ظاهرها عداوة تُحرق، وباطنها مخاصمة تّتقد. بُغضٌ ما هو بالهزل في موضع الجد، ولا بالجد في موضع الهزل، لا للشخص أقصد، بل للفكر المتذبذب وللفهم القاصر و للطبيعة الجانحة عن الفضيلة وللهوى المُتصادم مع كل حرفِ قسمٍ أقسموا به. رأيتُ جماجم تحت أغطية الرأس قد وجَدت ربيعاً بعد قفرٍ، ومالا بعد فقرٍ، وعزةً بعد صِفر المكانة. لا أُبالي، نعم أمقتهم وما أنا بحسير.
لن أركبَ موجة التعميم والتخصيص، فالمنطق موكل بهما وعقول الرجال ليست على استواء، فلنتخطى هذه العتبة الصغيرة.
يُقال في علم النفس أن لكل شعور داخلي دافع خارجي، ذكره الشخص أم نسيه. من هنا فمَقتِي تلَبَّسني عن حقائق لن تُحيله وِداً، وحَنقي من دلائل تشمئز منها الأنفس الطاهرة. فهاكم من عجائب الوقائع وغرائب البدائع، ما يُحزن السامع ويُؤلم المسامع، وما هي بنقلٍ من بطون الدفاتر، بل عينٌ تراه الأصاغر والأكابر. هاكم ما حاك في الصدر ولم أكره أن يطَّلع عليه الناس.
بالقرب من الحدود الجنوبية تلتقي الأجنبي المخالِف يسرد عليك قصص ألعاب المطاردة مع رجال الأمن، يلقون القبض عليه بين غابات سود، هو وماله، فينجو هو ويهلك ماله. اختلاء بين أشجار، مساومة على مال، يدفع المخالِف دائما ثمن حريته من ماله أو جهاز جواله. آخرُ يقول متحسرا: سلبوا مني سلاحا ناريا كنتُ قد سرقتُه، وهنا انتكاس الموازين فالمسروق أصبح مملوكا، ورجل الأمن سارقا. ودائما ما يُكْمل المُخالف بقوله: ما أرخصَ ثمن الحرية!
كنتُ أعملُ منذ سنوات كسائق أجرة في العاصمة، عرفتُ شاباً من باكستان، أفضى إلي بأسرار التزوير وطرائق الاستغلال وسُبل الهروب المضمونة وأوقات الاستسلام المناسِبة، ودائما ما يكون النجاح حليفه لأنه كما يقول: وراء كل عملية هروب ناجحة رجل أمن يقبِض، ووراء كل سهرة خلّابة ضابطُ أمنٍ يُسَّهِل، وخلف السُتر تُمسكُ الباشوات بأجهزة التحكم.
لا نعلم عن ماذا يبحث الباحث؟ ولا عن ماذا يستخبر المُخبر؟ ولا عن كينونة أمنٍ وراء رجل الأمن؟ المكافئات مُجزية والمرتبات عن غيرها مُستعلية، فأحال الحلال سحتا عن طمع، واللذة سُقما عن جشع.
كُل أمرئٍ راجعٌ يوما لشيمته ،،،،، وإن تخلق أخلاقا إلى حينِ.
عندما اكتمل بناء سور الصين العظيم وأُحكمت أسواره وأبوابه، لم تختفي السرقات ولم ينتشر الأمن، لأن رجل العصابة، دخل من عند حارس البوابة، مُقابل ثمن الخيانة. الأمانة ليست برفع الشعارات الخاوية فحسب، بل تنزيلٌ من غير رياء، وإخلاص من غير افتراء.

من يقود القطيع؟







يحكى أن تاجر قماشٍ دخل سوق المدينة فباع بضاعته كلها إلا الأقمشة السوداء، فشكا ذلك إلى صديقه "مسكين الدارمي" فاحتال له بحيلةٍ لطيفة، وأنشدَ له أبياتا طلب منه أن يذيعها في المدينة قال فيها:
قُل للمليحةِ في الخِمار الأسودِ ،،، ماذا صنعتِ براهبٍ متعبدِ
قد كان شمر للصلاة ثيابه ،،، حتى وقفتِ له بباب المسجدِ.
وانتشر الشعر في شوارع الدينة وذاع، فما ترك بابا إلا طرقه ولا سمعاً إلا ولجه، وما بقيت فتاة مليحة كانت أم غير مليحةٍ إلا وذهبت تشتري خمارا أسود ليُقال لها أنتِ المقصودة بشعر الدارمي. وباع التاجر بضاعته، وارتحل مسرور الخاطر ممتلئ الجيب. 
هذا النص ظاهره طُرفة يخاتلها دهاء، ومزاح في قالب خديعة، يُعربُ بجلاء عن قوة تأثير وسائل الإعلام وسطوتها على عقول المجتمع وقوة تحكمها على اقتصاد السوق ومكسب التاجر. 
أما باطن النص وخلف حروفه البريئة فهناك مؤامرة وحشية وسطو غير مسلح، هناك رسائل موجهة لمجتمع مُستهدف يفطن لها من يفطن. فتيات المدينة ذهبن للسوق وفي يقينهن أنهن في كامل حريتهن من غير إجبار ولا إكراه، فكُنّ يتمخطرن في عرصات السوق تمخطر الظباء الآمنة، يشترين الخُمر السود وما دار في خلجاتهن أنهن مُنقادات، لا يَملكُ أمرهن غير الدارمي ذاته.
هذا النهج هو ذاته ما تعتمد عليه الديموقراطية والحرية الحديثة بزيفها وخداعها في توجيه عقولنا، فالشركات الرأسمالية الكُبرى هي من تتحكم بفعالية في سياسة وثقافة كل المجتمعات.
أصاب خلل بسيط مطعما من مطاعم البيتزا مما نتج عنه عجزُ المطعمِ عن صنع بيتزا الدجاج لمدة يومين، لم يرد صاحب المطعم اضفاء منظر العجز على مطعمه أمام زبائنه المغفلين، فقط وضع عند واجهة المطعم صورتين، إحداهما مُضيئة براقة بألوان جذابة وحجم كبير لبيتزا الخضار، تنتظم على سطحها قطع الخُضار كما ينتظم الدُّرُ على صدر حسناء. والأخرى بتصوير مُبتذل مشوه مُصغر لبيتزا الدجاج من غير إضاءة واضحة. لم يتعجب أبدا صاحب المطعم الذكي من أن كل زبائنه خلال اليومين وبشكل تلقائي لم يطلبوا غير بيتزا الخضار.

نعتقد يقينا بأننا نملك حرية اختياراتنا، ولكن هذا يتنافى مع مبادئ هذا العالم المتوحش، نحن فقط مجرد عبيد وإن تأزَّرنا بالعِتق. عندما أرادت بريطانيا تدمير الدولة العثمانية دُمرت بأفواه البنادق العربية، عندما أرادت الرأسمالية فوز أوباما بالانتخابات الرئاسية فاز أوباما، عندما أرادوا نشر الأمركة قدموها لنا طُعما مع "همبرجر" لذيذ وفيلمٍ مُثير ودبابةٍ قوية، أثارتنا الأضواء كما أثارت قبلنا "رفاعة الطهطاوي" و "طه حسين"، كل هذا وغيره لعبةٌ يُتقنها الكبار فقط كما أتقنها "الدارمي" في القرن الثاني من الهجرة.




.

أضعتُ دليلي






اجعلها على حِجاجك الأيسر أو نُصب عينيك فلا تزيغُ وتتوه بين مسالك غاباتٍ موغلة أو في صحراء فاغرةٍ تتكالب عليك عندها أضياف الهوام وأوهام الضياع وتلمعُ أنيابٌ في ضُحى نهارٍ مُتقدٍ بين صور الآلِ ورسمات السرابِ الذي يحمل غيثاً في جعبتهِ بقدر ما يحمله من بؤسٍ وجفاف.
لم يعتقد من قال "اجعلها على حجاجك" أنها يوما ستحتجبُ وتهجر وتُهاجر، تحتجبُ بأسمالِ النأي، وتهجر أسمارَ التفَكُّه، وتهاجر عن عرصاتٍ كانت لها سماء.
تجدُ لبعض من يكتب ويُملي الحرف وجهةً أرادها باختياره لها هدفٌ لا يقوى تحقيقَهُ إلا بعلامات وإشاراتٍ تُنبههُ إن مال عن الطريق وغفل عن الهدف أو اغتر بتلك الذات البشرية المتهافتة أو استقبح منها ما لا يُستقبح في العادةِ أو أبان عن شيءٍ مكروه بزلة قلمٍ ساهي العقل ذاهبِ القلب.
ولستُ عن صحبي بمعزل، وما تحدثت إلا عن نفسي وحالي، ولكن الأيام إنما هي ثياب تُلبسُ وتُخلع، وما هي في تغير طبيعتها وتقلبِ أحوالها إلا لأنها تُلبسُ وتُخلع. بالأمسِ كنتُ بدليلي دالاً للطريق، وكان به الطريقُ لاحباً حَسنَ الدلِّ والدلال، أما اليوم فدليلي أفَل، ومُعيني توارى وذهب، بوصلتي مادت، هاجت وجاشت، وما كان من شِمالي أن أَضيع شمالي. لقد طواكَ الليل ولفكَ بكل ثقل الظلام.

أبعد عني القدر من كنت أرى نفسي تتوازن به على ميزان حُكمهِ وعدالة نقده بكل منطق الوفي الصاحب والمُحب المُخلص والقاضي العادل. كنتُ كلما وجدتُ نفسي أكثر ضياعا كلما وجدتُ نُصحه أكثر بياضا. في اللحظة التي كنتُ أعتقد أن عليَّ أن أموت فيها كان هو كل ترياق الحياة. لطالما أرحتُ قلمي عن البناء بعد التشييد لآخذ بتلابيب نُصحه وبمقبض سكين نقده فأُعمل تشييدا بعد التشييد. فتغدوا كلماته كملكات جمالٍ مجردات من البهاء الدنيوي ما إن يقعن على شيءٍ حتى يُصبح أكثر رقةٍ وألقاً، يفوح منه عبق الورد. رحل بعد أن كان لي قبل ارتحاله إبرة الشمال، لقد كذبتُ، إنما هي من كنتُ أجعلها على حجاجي الأيسر أو نصب عيني من غير أن تتزحزح قيد أُنملة. 

هدوء العاصفة



بفضل المنان، الكريم الرحمن، الناصر القوي الأمين، القادر الولي المتين. تمت وسكنت العاصفة، عاصفة المجد والإباء، عاصفة الكرامة والنخوة والشهامة، عاصفة الحق رفعِ الراية. برسمِ الشريعة فاءت الشرعية، وبمنهج رب السماء عاد رب الغبراء، صرخ الصنديدُ فَظَل العدل، ووجم الرعديد فَضَل البغي. هي الرسالة مضمونها:
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا  ......  أو تنزلون فإنا معشرٌ نُزل،، 
وقعت كلمات وقف الحرب فكان موقعها موقع الروح من البدن، ووقْعها وقع الماء من ذي الغلة الصادي. فالفرح صالحٌ محمود إذا وافق الموضع ولما يجاوز المقدار. فلله الحمد الذي سدد سهم الحق في رمي الباطل وحلَّ عقال الشر بيد الخير.
في الحرب تتعارك الفحول وتفتح المنايا أفواهها، فيكون لها في دفتر الأيام دم، وفي بيوت الشجاعة فراق وهجر.
للحرب وجهٌ قبيح ينزُّ بصديده وقيحه ليتقاطر قطرة قطرة على صفحات أُناس اكتنفتهم من غير رأي، وأحاطت بهم من كل جانب. للحرب زئيرٌ موحش تخطف مخالبه الأرواح وتمزق أنيابه أوصال العروق. للحرب مرداة صخرٍ تتهاوى، ترضخُ في مسالكها كل يابس غليظ شرس، ناهيك عن كل هامد وديع سلس. للحرب مثالب لا يعيها إلا من عاشها وعايشها واكتوى بنارها، لهذا لا يبغض الحرب مثل جندي.
للحرب سباع تظهرُ لمن كان يملك الشجاعة ليخوض غمارها فقط.
فلنرفع أكف الحمد لمن حمانا من نارٍ كانت ستأكل أخضرنا ويابسنا، وأبدلنا نعيم الأمن بجحيم الوحشة، ونرفع أكف الدعاء دعاءً لمن حملوا أرواحهم على أكفهم، وودعوا زوجاتهم وأطفالهم، لمن ذهبوا لردع البغي وقالوا سنعود فقالت الحرب لن تعود. لمن ترك حُبَّ الأب والأم والزوجة والابنة وهو موقنٌ أن الموت مُمسيه فإذ به مُصبحه. لمن لم يعزب العقل عنه ولا خذله رأيه ولم يركن لبلادة وجُبن وخناعة فنالته رصاصة الشهادة من بندقية الحاقد. لنرفعها دعاء بالرحمة وتضرعا بالمغفرة وابتهالا بالرضا، لنرفعها بُغيةً للقبول ورجاءً للصبر وأماني بحسن المآل.


رسن العقول ..






حنا معكْ في شرْ ولا في قِدا ،،، معكْ معكْ ولو فيها ازهدي،،
أحرفٌ مُزجت، وكلمات صُفَّت، يُمكن من خلالها إدراك حقيقة الشحنة الإنسانية الذليلة. ألفاظ لُطِّخت، وأقوال بُعثِرت، يُدرك من خلالها إمكانية إذلال الإنسان للإنسان بالعبودية. هي بيت من قصيدةٍ تكشف عن حالِ من نظمها بكل جلاء وبيان، زُخرفتْ بلحن جميل حلّقَ بها بين قنوات شعبية لترددها الألسن ويتراقص على نغماتها قلبٌ فارغ وفؤاد لا يعيي ما يسمع.
من مشكلاتنا أحيانا أن نتبرأ من ملكات العقل البشري لنتقبل وبكل جهالة لسان الببغاء المُقلد. وكأن عملية التفكير عملية رياضية صعبة المراس، مُنهِكة القوى، سالبة رأس المال، مُنحِلة للجسد، تُعيبُ من يُعمِلها، وتُسودُ من يُهمِلها.
خلف السُتر جهلٌ مُركب، ووراء الكلمات معاني خفية، يقبع المعنى منها على قواعد هشة ويقوم على منابر من سراب. مالا يقوى على قوله قائل تلك المقولة أنه إنسان، إنسان له الخيار، إنسان يملك حرية نفسه. حباه الله عقلا فعطله باختياره وسلم قيده لغيره فما عاد يقوى التمييز بين صالح أمره وطالحه، وخير عمله وشره. بل هو إعلان مبطن بمدى فداحة ضعفه في اتخاذ قرار، وكِبر احتقاره لذاته، فذاته المسلوبة في سماء الفكر هي وباعترافه كقطيعٍ لا يملك اختيار منطقة رعيه فالأمر دوما يعود لمشيئة الراعي.
ليست بشهامة بقدر ما فيها من خنوع، وليست بشجاعة بقدر ما ترفلُ في وحل الاستعباد، وليست بسمو بقدر ما هي بِركة راكدة لحشرات الكون لا يحركها إلا صخرة تُلقى. فقد تساوت كفتا ميزان الخير والشر فلا عقل ولا شرع يُعولُ عليهما لترجيح إحداهما عن الأخرى سوى قرار من بيده الرسن.
متى نتعلم ألا نقول إلا ما نريد، فقد ضجر الكون كذبا، ومل القلمُ زيفا، وضاق الورق خداعا، وكأن الصدق جُدري والحق فيروس مُعدي. لسنا مضطرين للخداع حتى نبقى على قيد الحياة، ولن نُدفن ونحن أحياء. أجزم أنها العادة الجاهلية والانقياد الأبله للقبلية التي هي ذاتها من جعلت شاعر الجاهلية دُريد بن الصمة يقول في ذات المعنى:
وما أنا إلا من غُزَيَّةَ إن غوت ............. غويت، وإن ترشد غُزَيَّةُ أرشد،

قاموا فقمْت، سكنوا فسكنْت، زمجروا فزمجرْت، صمتوا فصمَتْ، زجاج مطحون في عَظمك، وفراغٌ مضغوط في رأسك، وهذا دليل قطعي واضح الدلالة على عدم وجود هوان أهون من هذا الهوان.