المثقفون الرُّحل .






في زمان مضى، ومايزال البعض حتى الآن، ممن يقتصر رزقه على ناقة يحلبها، أو نعجة يذبحها، يرتحلون وراء مُزنٍ يهطل، وسحابةٍ تُمطر، وتستمر الرحلة كلما أجدبت أرضٌ وأخصبت أخرى. والسخرية تصنَّمت في أن الرحلة اقتبسها من ذاك البدوي الوفي مثقفٌ مُدعٍ، والضحكة تضمَّنت في أن القَتام يُرى جمالا، والهباء بهاءً، إمعةٌ مُدعٍ يرتحل كذلك وراء عقولٍ تُنهَب وفكرةٍ تُسلَب، بحثا عن شبهة، وتفتيشا عن ومضة، بعد أن أجدب خياله وجف وكاؤه، طُفيلي ما يحيدُ أن يكون ضامر عقلٍ، يقتات على موائد ذي النفوذ، فإن أجدبت مائدة ارتحل لمائدة أخرى. يملك قلما مداده من حساءٍ يُقدمه له سيده، فيشرب منه مرة، ويبلل قلمه به مرة، أطبق عليهم ناقوسُ الليل، تخطاهُم المنافسُ والزمن، اكتفوا بهزيلٍ اسمه "خُذْ حلْ"، بعد أن سُد أفق السماء بمشاريع خلاقة أُفرع طولها بسواعد إخاءٍ لم يُضعفها فقر دم أو تفتيت أنسجة. أقصدُ رهطاً مثقفين أضاعوا أعمارهم في حرب خاسرة ضد "أصولي"، دهسهم، حتى سُمع نقيق ضفدع يقول عندها "أولئك أناسٌ يتطهرون".
لو أن الثقافة إنسان، لخلعتْ ثوب البشرية عن أن ينتسب لها من كان عارا عليها. لا طريق لديهم، اكتفوا بإزميل، وأبت المطارق ما كانوا يعملون. ألسنتهم تردد "أمرك مولاي"،، التدليس بمئة، التدليس "بْلَس" بمئتين، استبدال الفكر بخمسمئة، والساعة بخمسة "قنية" والحسَّابة بتحسب. يعيشون في أعشاشٍ يحسبونها حصونا، عُشٌ أركانه هزيلة، ودعائمه منخورة، فيأبون إلا أن يروا الهُزال عارضا، والنخر تمارضا، كالذبابة تعتقد أنها تطير بجناحي صقر، وهي لا تتجاوز المزابل.
تملكوا النخبوية بصكٍ شاهداه راقصٌ ومُطبل، فأصبحت شعارا يباع، ثمنه ثمن جيفةٍ مُعطرة تتنقل بين غرف فندق خليع. ما علموا أن الشُهرة الزائفة كجزيرةٍ مقفرةٍ في عرض البحر لا يبلغها إلا من يسبح عكس التيار فيجدها فارغة فينتكس سابحا مع التيار بُغية شربة ماء.
 "قواعد اللعبة تغيرت"، "نحن في ورطة في الطريق الصحيح"، جملتان لا يبوح بهما رجل قيمة ثوبه أغلى من قيمة عقله، بل من درس ومارس، وعصر وعاصر، فتقبلته النفسُ شرابا سائغا للشاربين. 

ريحُ الحق جندٌ من جند الله، تقتلع لسان الشيطان، وتقمع كل بهتان، تخرُّ السماء من كلمة حق، وتستقيم الأرض من زفرة صدق. طريق الهدف المبين، لا يعرف لوحة "الطريق مغلق للصيانة"، بل "الطريق مفتوح للهداية"، تنقاد معه كل حريةِ نَخوة، وتهربُ منه كل حريةِ شَهوة.

نظرةٌ للعلمِ البشري



لو أن التاريخ البشري منذ ولادته إلى لحظتنا هذه يُصوَّرُ كمشهدٍ نراه ونسمعه ونتعايش معه، هل يا ترى نستطيع أن نقطع بأمرِ وصولنا إلى ذروة التقدم البشري والتقني؟ هل نقوى أن نعتبر عام خمسة عشر وألفين قمة العلم البشري؟ ستبرز من بين المشاهد الكثير من المفاجآت والعجائب والتي سينكفئ العقل بها للتدبر مرة أخرى. نحن هنا في معمعةِ ما بعدِ غزو الفضاء وانشطار الذرة وتحليل الخلية واحراق القنابل وإهلاك المتفجرات وسموم الغازات، ولكن هذا لا يؤهلنا إلى التبجح بأننا على قمة القمم، وعلى النقيض من هذا فحتما لسنا في الدرك الأسفل أو في مرحلة منحطة حضاريا وعلمياً. فمن القاطع أننا في نهاية سلسلة بشرية لها من التجارب والخبرات ما يؤهلها إلى أن تكون مُحملة بإرثٍ ضخم يمنحنا ما نريده من تقدم بِناءً على تجارب من سبقونا.
دعونا نقلب صفحات التاريخ ونُنْزلُ العقل قاضيا حكما عدلا، فبدأً من أهرامات مِصر العجيبة والتي حتى الآن لم يتفق علماؤنا إلى النتيجة القطعية لطريقة بنائها، فمن عالم يجزمُ أنها من الطين المصبوب صباً بمعالجة كيميائية عجيبة أحالت الطين الغض الناعم الطري إلى صخرٍ فظٍ صلب قاسٍ، وآخر يجزمُ أنها من صخرٍ طبيعي يعجزُ الإنسان عن تحريكه فضلا عن حمله إلى تلك الارتفاعات، وبناء على كلا التفسيرين فحتما إما أنهم يملكون مختبرات كيميائية ومواد بديعة تُساعدهم على المعالجة والتفاعل وإما أنهم يملكون طرائق هندسية بديعة أيضا لرفع تلك الصخور، دعونا من الحمل والوضع بل ما هي التقنية الهندسية الفذة التي استخدمها الفراعنة في البناء والقياس واختيار المكان فوق التربة المناسبة والدقة في اختيار الزوايا والاتجاهات، والتي أيضا ربما استخدمها أو غيرها قوم ثمود في بناء مدائن صالح والنحت في الجبال بطريقة عبقرية، وهانحن الآن نرى جرافتنا وحفاراتنا بقوتها الجبارة كيف تُعاني في اقتلاع الصخور وحفر الأنفاق، لا أُصدق أنها يد عملاق يملك إزميلا من حديد لم يخش أن يخر عليه الجبل وهو يتلاعب في جوفه.

تجري التجارب الآن لابتكار طريقة بديعة لانتقال الأجسام والسفر عبر الزمن، بدون قطع المسافات المكانية والطرق الاعتيادية، فالأمل أن أكون بشحمي ولحمي في لحظة ما في المشرق وفي اللحظة التالية في المغرب. قد افترض العلماء أن الطريقة ستكون عبر تفكيك جزيئات وذرات الجسم ثم بعثِها بسرعة الضوء إلى المكان الآخر وإعادة ترتيبها في زمن لا يتعدى (0.025) ثانية، هذا جيد، ربما هذه الطريقة هي ذات الطريقة التي ارتحل بها عرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين عند سليمان عليه السلام قبل أن يرتد إليه طرفه، فقد ذكر القران الكريم أن العالِم كان ممن آتاه الله العلم. أنا لا أُنكر معجزات الأنبياء ولكن ربما كانوا يملكون مالا نملك، بل ما زلنا نتحسس طريقنا للبحث عنها في عام خمسة عشر وألفين.