كيف أصنعُ إمعة؟




استطاع الإنسان القديم تدجين الأغنام وسياستها كيفما شاء، يُطعمها ويسقيها فإذا أمِنت واطمأنَّت سلخ جلدها وأكلها بعد أن يستنفد لبنها وصوفها. وعلى الضد من ذلك لم يستطع حيلةً مع السبُع، صاحب العقيدة الثابتة والرأي الحُر، أرضه كل الممدودة، وسماؤه كل المرفوعة، لا أمر عليه ليرضخ، ولا سلطة ضده ليُسجن، مشاكسُ هو السبُعُ يُثيرُ غضبَ مُدجن الخراف.
ذهبَ رجلٌ يُدعى (الرجَّال بن عنفوة) من المدينة المنورة إلى أهل اليمامة إبان خروج مسيلمة الكذاب، وجمع الناس وقال لهم: لقد أتيتكم من المدينة وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنه أشركَ مسيلمة بن حبيب في أمر النبوة، ومادام الرسول قد مات، فأحق الناس بالنبوة والوحي يكون مسيلمة. فارتد جُل أهل اليمامة.
نجِد في الطبقات البشرية أن أصحاب الوسائد المخملية ومُلّاك القرار يهيمون عشقاً بتلك الجمجمة الصغيرة المُنقادة بخطام التبعية، طافحون نفوراً من الأخرى الكبيرة المُفكرة المُحلقة، لذا ابتُكرت أساليب ناعمة تنمو فيها شجيرات الإمعات وتزدهر أزهار التبعية المُلونة الزاهية ليُعجب بمنظرها الأحمق ذو الجمجمة الصغيرة.
منذ السنة السادسة من عمر الطفل ومع انطلاق طريق التعليم الرسمي يبدأ الاخطبوط  بمد أذرعه حول ذلك الطفل خشية أن يفلت منه أو يفر، ومنذ اليوم الأول، يُسقَطُ على رأس الطفل جلاميد الأوامر والنواهي، ونظرات الاحتقار والفرض والسيطرة، يُصاب المسكين بزلازل في القشرة المخية وأخاديدَ في مراكز اتخاذ القرار وذوبان كامل في أجهزة الثقة والتحكم. يُغذى بقناعات مستهلكة صاغها والٍ خائف ومسؤول قبض الثمن وإعلامٌ رمادي ومناهج "تجهيلية" من ذات الورقتين والعشرين رسمة توضيحية.

هكذا تكون بداية معادلة هدم "الإمعة" لتكون نهايتها "فاي"، شابٌ فارغ لا يعلم حقا ولا صوابا، لا يُفرِّق المسكين بين يمينٍ يأكل بها وشمالٍ يغتسل بها. ويستمرُ الهدمُ بمحاولاتٍ تمنع تدفق سُبل التصحيح وكسرٍ لأنوارِ كشف المستور، أو بإلقاء منشورات في الطريق -كأنها تُقرأ بالصدفة- للتحذير من محاولة سلك طريق غير هذا الطريق المرسوم، فكل الطرق خطرة إلا طريقنا، وكل الأودية سحيقة غير وادينا، وكل البحار غادرة سوى بحرنا اللطيف الذي لا يموج. لا ينسى المُدجِّنُ فائدة التكرار والتكرار، حتى تترسب القناعة في العقل عند أعمق نقطة وتُحاط بجدران الممانعة الذاتية. هكذا يتأكد المُسيطر من سيطرته على هذا المسخِ المكونِ من شكل خارجي جميل ومحتوى داخلي فارغ تتشطر الأكباد رحمة به. ولكنه مع هذ التبعية المقيتة وسفرهِ مع الدهماء السوقةِ فهو يُقدمُ خدمة جليلة للمجتمع، فالإمعةُ يسير مع كل الاتجاهات، ويُجامل الجميع، لا يبحث عن مبدأ أو قيمة، لا يثير السلطات ولا يغضب الحُكام، يُشترى بأبخس الأثمان، فلا يُكلفُ سيدَه إلا قيمة أكله ونومه، يُقنعه بنطالٌ ممزق رُسم له في مغرب الأرض، أو وجبة شهية صغيرة أُرسلت له من مشارق الأرض، مستيقظٌ وهو يظن أنه نام عدة ساعات تحت تأثير الفودكا المُحلّاة وومضات المشهد الصامت، مُسالمٌ لا يسأل عن السبب والعلة، ولا يهتم بعلوم طبيعية كانت أم إنسانية، سَنتُه فصلٌ واحد، ومنزله بعيد جدا عن حي التفاعل، بل لا يجد الوقت ليُزيح غُبار نظارته المكسورة، ولا يعثر على مكان يدفن بهِ جلبة خطواته المُقيدة. يلينُ ويَقبلُ أنصاف الحلول، يعيش التذبذب كحياة، لذلك لا يعي أعلى صواب هو أم على خطأ؟ سوق السمك عنده كما سوق البجع، الرائحة واحدة، المهم ألا يشرب اللبن مع السمك. وفي الحلقة الأخيرة من هدم الوطن يستلقي أحدهم على أريكة وفيرة بيده اليمنى جهاز التحكم عن بعد وبالأخرى سيجارة كوبية ويعتمر قبعة مكسيكية ليبدأ الإمعةُ بالرقص وإضحاك السيد بدسِّ أوراق مالية في جيبه المكتنز.

عادل الطريفي ولعبة الحريوانية







يعتبر عادل الطريفي وزيرُ الإعلام من أكثر الوزراء المتجذرين الممارسين علناً للتوجه الليبرالي، والذين يحملون شعار حرية التعبير المطلق المنفلت من أي قيد، وشعار تقبُّل الآخر والبعد عن الإقصاء والتحزب والتعصب للذات، ومع حملهم لهذا الشعارات البراقة فالجميع يعلم أنها تُستخدم للإلهاء والتشتيت بعيدا عن كونها قاعدة عملية أو قانونا منصوصا. الأفكار عندهم أسمى من التخبط في وحْل الشخصنة أو التأويل على غير الظاهر، فهي مجرد فكرة إن وافقتها وإلا فهي باقية حرة مُحلقة.
وبعدُ، فالأيام دائما ما تكشف لنا عن عورات كانت مستترة، و"أنا" متضخمة حد التشوه، فإذ بهؤلاء مُجسمات تحمل تلك الشعارات لا غير، لا هي علِمت ما خُط عليها عوضا عن أن تُنزِلها واقعا عمليا ملموسا. القصة بدأت بعملية سطو شعرية من الوزير صغير السن في مغامرة لم يُحسب حساب لها، مُنطلقا من قاعدة لاواعية تستخفُ بالجمهور وتُقنع صاحبها أن الشعب لا يقرأ ولن ينتبه لسرقةِ أبياتٍ بسيطة من شعر أحمد شوقي، كانت عملية كشف السرقة فضيحة مدوية ولكن الإعلام المُستعبد الراضخ لأوامر ذلك الوزير تغاضى عن الواقعة بوقاحته المعهودة. علا صوت المثقفين منددين مستغربين ومن بينهم الأستاذ (حسين بافقيه) شارحا هو هذه السرقة شرحا علميا أدبيا أوصله إلى أن أقل ما توصف به قصيدة الوزير أنها "سرقة أدبية". رأى الوزير الطريفي أن هذا النقد ما هو إلا نيلٌ من الذات الوزارية، وتجاوز شعبي لخطوط حمراء فرضها طول الأمد وتعاقب السنين، فأمر وبجرة قلمٍ بمنع الكاتب "بافقيه" من الكتابة والتعبير وإبداء الرأي ولولا أن حبر القلم انقضى لاستمر بطلب قطع اللسان من "لغاليغه".

انكشف مستور الحزبِ المُرقَّعِ حامل الشعارات، المُقتات على موائد وزارة الخارجيات، الخاوي من كل حقيقة حتى عاد ينهش في ذاته. هو بدا في حقيقته الأنانية المُسيرة لا المُخيرة، تبدت عوراته من أثر رياح الواقع. ولكن هذا المنع في دخيلته يحتضنُ أكثر من إسكاتٍ لكاتبٍ أديب، بل هو في حقيقته رسالة لغيره من الكُتاب، فإما أن تُطبِّل لنا مع حمقى المطبلين وإلا فلا حق لك في العيش، هي رسالة عنوانها "وزير لا نحميه، لا نستحق العيش معه!"، فإن حَمقُتَ واخترت لقمة عيشك فاضربْ على الطبل وتراقص على أنغامِ ألحانٍ ابتدعها مسؤول. أمرٌ آخر مُلاحظ وهو أن معظم المُدافعين عن الحريات لم نسمع لهم صوتا أثناء الحادثة، مع أنها تمس أعظم قانون يُنادون به وهو قانون حرية التعبير! ومن وجهة نظر مختلفة فحادثة إسكات "بافقيه" فرصة سانحة لرأب الصدع وتقريب فجوة الشقاق الثقافي بين التيارين المحافظ والليبرالي، فالمحافظون يتفقون مع "بافقيه" ككاتبٍ نقدَ أحد وجهاء الليبرالية، والليبراليون الصادقون يتفقون أيضا مع "بافقيه" في حقه في ممارسة حرية التعبير المنضبطة، فلو استغل الطرفان هذا الموقف بكل قوة وذكاء لخرج من في السجون ولأمن البقية على أرواحهم من تسلط مسؤول صغير لا يعي تماما أين يخطو خطواته الأولى. 

عطبُ في أجهزةٍ حساسة





في جسدٍ تورمت فيه غدد الطاعة والعبودية وعَطِبَ جهاز الاستقلالية والتحرر. 
اقترح طفلٌ في المرحلة الابتدائية من معلمه أن تُصبغ جدران قاعة الدرس بلونٍ مغاير عن لونها المُعتاد لطرد الملل والضجر، رحَّبَ الأستاذ بفكرة جديدة كهذه، وعزم على التغيير، لم يكن عقله قد اعتاد على البدأ والتفتُّقِ من دون أمرٍ ونهي، ولم يجد في نفسه تلك القوة من التحرر الإنساني ليصبغ جدار غرفة، نسيمُ البحر لا ينعش الجلد المحترق، لذا أحال الطلب إلى مدير المدرسة الذي رحب ورقص ووعد بالنظر والبحث. هو شجاع ويقوى، بيد أن عادة العبيد قد ألقته داخل قضبانها مُكبلا بأنواعٍ من الدرن لم تعهده البشرية، هو يريد والعبودية تفعل ما تريد، نسيم التجَرُد طهورٌ تتقيأهُ البركةُ الضحلة، أُحيل الطلبُ إلى مدير التعليم بالمنطقة، "طالبٌ نجيبٌ يريد أن تُصبغ قاعة الدرس" ، يا إلهي، لا نقوى، قلوبكم غلف! لابد من إخطار الوزير، نسيم التَّخْلِيَة يحملُ من اختار طريق النبلاء فقط، وصل الطلب إلى مكتب الوزير، الطلبُ تفاجأ، أنا طلبٌ فوق طاولةِ وزيرٍ مشلول، نصفُه يعمل ونصفه منزوع، لا يملك الإرادة، "يُحال إلى ذوي المشورة"، هكذا كُتب على الطلب، ثم أعقبها نصف توقيع. نسيمُ الانعتاقِ حُرٌ مقِلال البيض، تخبَّط أهل المشورة ثم قاسوا، بما أن الدِّهان للجدار كالغيثِ للأرض، والله وحده مُنزلُ الغيث، فالنتيجة أننا لا نتجرأ بالقول في قضية كهذه، فالأمر ليس للعبيد، نسيمُ الانفلاتِ أعزُّ من أن يقف على شواطئ الخذلان، تورَّم الطلب كغدة التَّبعِية، وأُلقيّ به أمام ديوان الحُجَّاب، حاص القوم، سُمع لهم أزيز وأنين، يريدون ولكنهم لا يستطيعون، زغاليلٌ أصابها وابل، تنادوا بأنّ الدِّهان مُضر، أولادنا أكبادنا، نبحث عن الجودة، سنخلق لجنة شراكةٍ مع دولة عظمى لبحث هذا الطلب، نسيمُ الانفكاكِ لا يحمل ذوي الريش المنتوف، في الصباح تتحدث الصحف في صفحاتها الأولى، مُدير الديوان يعلنُ عن قيامِ لجنةٍ مشتركة "محلية-صفراوية" للتشاورِ في إنشاءِ مصنع للدهان القابلِ للتمددِ والطي والتحدثِ والذي سيُقدمه هديةً لطالبٍ من أبنائه كان قد طلب منه ذلك. نسيمُ الحريةِ لا يُحرك راية الأنانية، أنهى الطالب دراساته العليا وعمل في لجنة حكومية أجنبية خطت على ورقةٍ ما: وافق السيدُ الأعظم.


التعايش








شجرةُ الأكاسيا وقعت اتفاقا مع نوعٍ من النمل، كثيرَ البنود وافر العدل، من نتائجه أن يمنح النملُ الشجرةَ الحمايةَ من كل متطفل ينهشُ  أوراقها أو يكسر أغصانها إما بقرصةٍ أو التهام، وتمنحُ الشجرةُ النملَ المسكنَ الهادئ والغذاءَ القريب والظلَ الوارف، وهكذا تم التعايش الفطري في أقل مستويات إدراكه بين حزبين من أحزاب الوجود الطبيعي. ومع مرور ملايين القرون على توقيع الاتفاقية فما زالت شجرة الأكاسيا هي شجرة الأكاسيا والنمل هو النمل، فلم تمنح الإتفاقية الموقعين طرائقَ للتقدم وبناء حضارة ولو كانت بسيطة. وهذا مِفصلُ الأمر وكاشف الوهمِ بين كيان الطبيعة ومجتمع البشر، أغفل عنه رافعو رايات التعايش.
التعايش لا يعني أن أنصهر وسط كأسك وتنصهر أنت وسط كأسي، فلا يبقى من حضورنا إلا هشيماً من وجودٍ تذروه الريح على أرض صلداء، فلا نحن استبقينا نسمة من حياة ولا أوجدنا كيانا من حضور. التعايش هو استسلام من حيث أنه حجاب أضربُ به حول عينيّ مُراءاةً للآخر، وهو تكافلٌ من حيث أنه سُلَّمٌ درجاته من أفكاري وأفكارك. الدرجة لا تُزاحم الدرجة، بل لاتصل إلى درجة إلا عن طريق درجة. فإن أخذنا بأطراف التنظير والأماني وقفَّينا لِسُنَّة مغروسةٍ وفطرةٍ مبذورةٍ أفسدنا من حيث نريد أن نُصلح، ووأدنا من حيث نريد أن نُعتق. وبالجوار من هذا، هناك التدافع الذي لا يُنافي أن نركب كلنا في سفينة واحدة، يُجريها ذلك التدافع لمسربٍ واحدٍ اخترناه ليأخذنا من بين أطواد البحر الهائجة لنبلغ به ذلك المستقر المُتفق عليه. فهو بمعناه السامي أن تُدافَع الفكرة بالفكرة، والرأي بالرأي، والحجة بالحجة، بما يُظهر تنظيمها وتصريفها ويكشف ما يحوطها من غموض، لا تَدافع الأقدام ومناكفة الأقران من أجل التدافع لذاته أو المناكفة لذاتها، فكم رأينا من عقول جمدت عند تصيد الزلات، وانتظار الهفوات، فلا هي سارت إلى خير ولا هي قعدت عن سوء، حتى أتاها اليقين وهي بين نزع وتنازع. 
لو أن الزمان بعقل بشرٍ متملقٍ لحاول الإصلاح ما بين ليلٍ ونهار، يخلعُ عنهما تدافعهما ويجعل منهما شيئا واحد هو الغسق، نصفه ظلام ونصفه نور، ثم يجعله أمرا مستداما لا تقلُّب فيه، فهو في عقله قد جعل الإثنين واحدا، والمتنافرين متحدين، وغفل عن إفساده المهلك، فلم يبقَ زمانا للتكسب وآخر للسبات، فما الاجتماع البشري إلا جسدٌ قائمٌ يمشي على اثنتين، تقف الواحدة لتتحرك الأخرى التي ستقف لتتحرك تلك الواحدة، فلابد من تقدُّمِ طائفةً على حساب تأخرِ أخرى، فإن اكتفينا بواحدة فقد استبدلنا القفز المقلق بالسير الهادئ، وستكون السقطات كليلٍ بهيم يلمع فيه شهاب خجول هو تلك القفزة. فسبحان الذي أحوجنا إلى ما في يدِ غيرنا وأحوج غيرنا إلى مافي أيدينا، فلا نُعطي إلا بمقدار ما نأخذ، ولا نأخذ أكثر مما نعطي فيتم البيع الحلال العدل من غير ربا أو زيادة ماحقة نازعة، فإن الحق يأبى أن يسلك مسالك الأهواء وإلا لبَطُل. 


أرانب حمدامان مالجامي




عندما أراد أهالي (مالجامي) الاستئناس والحلول وأحياء تلك البلاد المقفرة حيث أنهم أول من سكن بها وأول من وطئها من بني البشر، لم يكن بها من الثدييات إلا حيوان الكانغر، ولما كانوا قوما يعشقون الصيد وبطونهم لا تأكل إلا من لحم صيدهم وسهامهم لا تكاد تخطيء الفريسة فإنهم تذكروا ما كانت تجلب لهم الأرانب من سعادة وهناء وفرصة في ممارسة ما يحبون من لهوٍ وصيدٍ في بلادهم القديمة، فاستورد لهم (حمدامان) وهو أحد كبرائهم وتجارهم أحد عشر زوجا من الأرانب وأطلقها لتتكاثر في الطبيعة فتكون لها (مالجامي) موطنا طبيعيا مكان موطنها السابق، جلبها وابتنى له أيضا مزرعة يكِلُّ فيها الجواد، ويتوهُ فيها السيل، حفرَ آبارها واستخرج ماءها وأسال عيونها وأنشأ بها أشجارا من الفواكه والخضراوات، حتى أصبحت المزرعةُ منبرا للتفاخر والتباهي فحلت من قلبه مكانا من دون سائر النعيم، جلبت المزرعة لحمدامان هناء الروح وصحة الجسد وكمال النظر حتى إذا طرحت ثمارها أخذ منها أكثر من حاجته ونثر ما يبقى لأرانبه التي جلبها وإن كان في سهول (مالجامي) ما يكفيها ويزيد، ولكنه كان يريد أن يُشعر الأرانب بأنه متفضلٌ عليها.
ولمّا يكنْ لهذه الأرانب أعداء طبيعيون فقد تكاثرت وتناسلت بصورة مذهلة وازداد عددها زيادة كبيرة فوق ما كان يُنتظر ويُأمَّل فغصت بها السهول والوديان والجبال وكانت النتيجة سيئة للغاية. أضحت (مالجامي) عاجزة تحت وطئة حُمى تلك الأرانب، فغربت شمس الأرض الحُرة وسطعت شمس أرانب (حمدامان مالجامي) المُحرقة المُهلكة الجشعة، أحرقت الأخضر وأفنت الطبيعة بكثرتها التي رجحت بكفة ميزان الطبيعة، كان الأرنبُ يُجلي بعينيه النافذتين كلَّ معالم الاستغلال، بكُل ما في كرشهِ من القدرة على الجشع والنهم والهضم، فأمست أرانب (حمدامان مالجامي) في أمن يُتبجح به، وصحة يُتغطرس بها، فلا يُهدد عيشها إلا كِبر سنها، فلا هناك ذئبٌ يطاردها أو صقرٌ ينقَضُّ عليها أو لجامٌ يحِدُّ من اندفاعها سوى سهم صيادٍ هاوٍ يقتنص منها واحدا فيأتي مكانه عشرة.
طغت وتجبرت أرانب (حمدامان مالجامي) وأحدثت أضرارا بالغة بتلك البلاد حيث قضت على الحشائش والمراعي فأصاب (حمدامان) الخوف على مزرعته من أرانبه فبنى حولها أسوارا مرتفعة ووضع الحواجز المنيعة، ومع ذلك فقد ثبت عدم فائدتها فقد استطاعت الأرانب تخطيها لتُحيل المزرعة الغنّاء قاعا صفصفا. لم يتمكن (حمدامان) ولا أهالي (مالجامي) أن يسيطروا على هذا الوحش الأرنب الذي صُنع بأيديهم وغُذِي بأموالهم وذاق حرية العيش تحت غطاء حبهم لزرع حيوانٍ جديد في بيئة جديدة نتيجة جهلهم بتوازن الطبيعة وقوانين الاستقرار. وهاهي الآن (مالجامي) يشهد خرابها وفقرها المدقع وصحراؤها الجرداء -التي لم تعد تكفي أرانب (حمدامان مالجامي) التي تعيش بها لوحدها- على أن بعض أفكار الهوى قد تكون مُهلكة مُحرقة مجدبة.

حلاوةُ المُحادثة.





جالستُهم على كُثبانٍ عُفْرٍ في ليالٍ قُمْرٍ، على رملةٍ احتضنتني بين جناجِنِ صدرها، يرمي الطرفُ لحظَهُ حتى يكلَّ على مشارفِ حدِّ الأُفق. لا هِمةَ لهُ للعودِ حسيرا فيركعُ تحت قرص الشمسِ يبتغي الإمهال، فلا يُبالي شموخُها بتذللـهِ. تنسَّلُّ كفي تُلامسُ لَببَ الرملِ لتحثوا منه وترفعه فيتساقط في الحِجرِ ذرة إثر ذرة إثر ذرة. لا يهبُّ عليه غيرُ الصمتِ، وهل يُنادغُ الروحَ غيرُ الصمتِ. تغيبُ الشموخُ وينهزمُ النور تحت جحافلِ كتائبِ الليل. عند الغسقِ، مع غبشِ المكان، تتهايل زخاتُ الشوقِ جميعُها، فتغشانا والنفسُ مُرددة: لعل خيالاً منكِ يلقى خياليا. هذه اللحظةُ الفاصلةُ بين صحوة الحياة ونشوتها، هي الحد القاطع بين أكلِ الخبزِ اليابسِ بالتأوه وبين شُربِ المُدامِ العتيقِ بالغِبْطَة.

جالستُ أخوان الصفاء، وقناديل السماء، حدثتهم فحدثوني، أبثثتهم وأبثُّوني، في أخذٍ وعطاء، ونولٍ ووفاء، ثلجَ بهم صدري وبلَج، بعدما حرَّ وحرَج. أمتِعْ بهم من عقولٍ تتحدث، وألسنةٍ تُفصح. لذلك أقول إنَّ في حديثِ الكتبِ مُتعة أمتعُ منها تقليب الأفكار بملاعق الحديث. في المحادثةِ تلقيحٌ للعقول فتوضع القناعات على كفتي ميزانٍ فيُنظرُ الراجحُ والمرجوح. في المُحادثة تُقرعُ الحجةُ بالحجةٍ فتثلمُ هذه تلك وتلثمُ الأخرى أخرى. في المحادثة أنت المُحامي والموكِّلُ فكرةٌ، فإن كانت فكرةً عرجاء فلن يُقيمَها لسانٌ فصيح، وإن كانت عنتريساً فسيعقرها لسانٌ عَيِّ. كم قناعةٍ أخفت عقلَ صاحبها فلم يجلوه إلا حديث صاحبٍ وحوارُ مُخلص؟ في المحادثةِ ترويحُ القلبِ وتنفيسُ الضيق، جبلٌ يُرْخي سدوله بأنواعِ الهمومِ ليبتلي، فيغدو صدر الشمالي خُرمَ إبرةٍ يستحيلُ مع محادثةِ الأقرانِ فناءً يتطاير فيه ذلك الجبلُ كالعهن المنفوش. في المحادثةِ تنقيحٌ للأدبِ واصطفاءٌ لجميل ما حفظتَ من جميلِ ما قرأت. في الغديرِ يسقطُ السيل بِغَثِّهِ وسَمِينه فتُصيبُه اللَّوثة، ثم يُغادرُه الفاضلُ والثرُّ، فيقرُّ الماء وتترسب الشوائب ويغدو الماء صافيا، وكذلك العقلُ يتشربُ ما يُكتب في ألوف المجلدات، يذهبُ منها ما يذهب، ويبقى ما يُثبتُه الحديث وتتداوله في المجلس مع الأقران. أسمعُ ضجيجَ المؤلفين داخل الفؤاد، أحدُهم ترفعه أجنحتُه نحو العلاء، والآخر تَقصرُ به قوادمه فلا هو سما ولا هو دنا، فتُصيبنا لجلجلةٌ يخامرُها تعصب واقتناع، فقلَّما يُبْلِجُ الحق كمحادثة خبير. أسترجعُ ذاتي وهذا من حولي كُله لم يهنأ به خليفة ولم يرفلْ في نعيمه سلطان، كيف لا وعبد الملك بن مروان يقول: لم يبقَ من لذاتي إلا مُحادثةُ الإخوان في الليالي القُمرِ على الكثبانِ العُفرِ.

الرهاب الثقافي








شنَّف الدكتور: سعيد الكملي سمعي وهو يقول: سألتني إحدى الأخوات عن الكتب التي أنصح بعدم قراءتها والتي تتضمن المخالفات والمنكرات؟ فقلت لها: أنتم هؤلاء الجيل اقرؤوا ما شئتم، لأنكم لا تفهمون ما تقرؤون فلا خوف عليكم. 
وعلى ما في هذا التعليق الطريف من صدق على ما فيه من قسوة، فهل نحن فعلا لا نفهم ما نقرأ؟ ليس على اطلاقه ولكننا لا محالة مصابون بعاهات أكثر خطورة من الغباء! ربما هو "الانقياد"، "التأجير"، "الخنوع"، لا أدري كُنهها حقيقةً ولكنها عاهات لا تخرج عن هذه الدائرة. نقرأ لكبار الأدب الحديث فنجد تعظيما لشخصيات سبقوا، وتهويلا لرواةٍ فنيوا، وتجسيدا لنقادٍ مُبالغا فيه. فلم نملك إلا الانقياد فنحن نقرأ لعظماء يتحدثون عن عظماء! أو لُذنا بالتأجير المبتدئ بالتمليك فنحن أمام كبار مُلاك العقار الأدبي! أو اكتفينا بالخنوع فنحن تحت وطأة تعصبٍ ثقافي يسحق كل متباهي، وسلطة تُخرج من دائرة اهتمامها من يتجرأ برأي مُخالف! فنصاب بالانبهار بمن نتوهم أنهم عظماء، ويتملكنا الرهاب الثقافي الذي تتساوى عنده أصالة الأفكار مع سفالة المعنى، فيستشري بين أساتذتنا أننا لا نفهم ما نقرأ، وأن مطالعتنا مجرد دخان ينبعث من فم مدخن شره.
ما إن نقرأ عبارة لعظيم حتى نسجد اقرارا بصحتها، من غير تتبع، ونضعها نبراسا لا يُنال منه، ولو كان من سراب،  وهذا هو ما قصده الدكتور سعيد الكملي بحديثه، ونحن نستحق ما قيل فينا إذ سلمنا عقولنا لكبار النهضة الحديثة ولرواد السلطة الثقافية واستسلمنا لآرائهم مع فضلهم الشامخ ونداهم الماجد وسبقهم الشريف. لم نعد نقوى على ابداء آرائنا خوفا من أن نُخالف العُظماء، فإذا قيل أن روسو مُلهم، وهيجل نابغة ونيتشة عبقري ودوكنز آسر ساحر، فينبغي علينا أن نردد ما قيل لئلا نُتهم بعُقم الفهم واجداب الفكر. لا أحرض هنا على العناد من أجل العناد، ولكن الشيء الجميل الآسر لعينيك قد لا يبدو لي إلا ركاما من أحراش، وكلا النظرتين لا تسلب ذلك الشيء حقيقته، فدعونا نُصرح بآرائنا فهي مجرد آراء.
في ثقافتنا المحلية المعاصرة إذا وردت أسماء أوائل المفكرين والرواة والقُصّاص والأُدباء فإنها تُقبِلُ ومعها الكثير من وشوم الاستغراب ووسوم التحيير ومتضادات الآراء المتراكمة في النفس مع أراء استشفيناها من حروفهم في ليالٍ سامرنا النجوم بحضورهم بين طيات كُتبهم، وأيضا يُقبلُ معها الخوف المتجذر والرهاب الثقافي الذي تتراعد معه الفرائص من قيود التسلط الثقافي. لا نستطيع أن نُحرر شطرَ رأي جديد في هذه القامات الورقية حتى يكون الرأي جهالة، والحصافة حماقة، ثم يقام فرحٌ ومرح بتقليدنا قلائد الرجعية وخَواء الخواء. ولكن هذا لا يُعفينا من اقتحام غمار هذه الأمواج، وتحطيم تلك التماثيل، وولوج حربٍ ولكن بسلاح، بسلاح العلم لا بأخشاب العناد، وتحت سنا الفهم لا تحت عتمة الانبهار.

وهمُ الجاهلين







يُقال أن نقشا على جوازِ السفر الأمريكي يقول " حامل هذا الجواز سنحرك من أجله أسطولا"، لا أعلم عن صدق هذا فجُل رفاقي عروبي المولد والمنشأ، فعلى فرض صحته، فأنا أكيد من أنه شعارٌ براق انتقائي يعملُ في تجييش النفس أكثر من وقعه في الواقع، مثله كمثل الديموقراطية المشوهة أو السماحة الانتقائية أو التلطُّف الخبيث. حادثٌ من حوادث التاريخ كفيلٌ بكشفِ السترِ الحاجزةِ عن ذاك الوجه البائس والقناع المستهلك، وشقاوةٌ طفل مدلل تُجلي عما يختبئ تحت المنضدة. تعالوا معي لنرى هل سيكون خلف أروقة البيت الأبيض للدم الأمريكي من ثمنٍ فعلا ؟ وهل هناك ديموقراطية حقة في بلاد الهنود الحمر؟ 

في عام ١٩٦٧ وفي حُمى وطيسِ حربِ اسرائيل ضد العرب والنكسة المشؤومة، وأثناء ما كان عبد الناصر تاركا طائراته صيدا سهلا للوهم الإسرائيلي، اقتربت من شواطئ الإسكندرية سفينة تجسس أمريكية تدعى "USS" ليبيرتي، مطمئنة آمنة وهي ترى حليفها الأصغر يمارس ألعابه المفضلة فوق رمال سيناء، رافعة علمها ومُعلنةً عن نفسها بأنها "الأمريكية" التي دانت لها بحار الأرض من أقصاها لأقصاها. كان الطاقم يتناول غداءه الشهي ويتلو صلاة الشكر، إذ بطائراتٍ تحملُ "نجمة سليمان" الزرقاء تحوم حولهم، وتتطقسُ طقوسهم، حامت وجالت، وفي تشكيل هجومي انهالت عليهم القذائف والرصاصات، دوي الانفجارات أشد من دوي الغضب، تَخرّق البدن، وانفجرت خزانات الوقود، تناثرت الأشلاء، طغت الدماء، تزلزلت السفينة، انعزل الطاقم، ساد الصمت، بقيت مناظر الدماء، ورائحة الشواء. موجةٌ هجومية أخرى تأكل مقدمة السفينة، تشْتَعل النيران، تتطاير الرؤوس، تلحقها الأيدي والأقدام، لم يبق إلا الغرق، تُبحر الزوارق اليهودية، تقترب من السفينة، إسرائيل عازمة على إغراق حاضنتها، ينطلق الطوربيد، يبحث عن السفينة، أصابها في مقتل، يفغرُ البحر فمه، يصمت الرعب، يتفاجأ ساسة البيت الأبيض، ارتسمت علامة الاستفهام فوق رأس الرئيس "ريتشارد نيكسون"، يأتي الأمر من إسرائيل، أسكتوا الإعلام فهي مجرد غلطة، إن كنت تريد الفوز برئاسةٍ أمريكيةٍ أخرى. ماتت الديموقراطية على ولادة الرأس مالية، والثمن جسدُ خمسة وثلاثين جنديا على السفينة. هنا اصطدمت الحريات السياسية بسلطان رأس المال فعصف بها وأثبت أنها "وهم الجاهلين"، أُغلقت القضية وزادت المعونات الأمريكية لإسرائيل بشكل خيالي، هذه هي حقيقة الرأسمالية عندما تُوهم الجميع أن للفرد حريته، بينما هي من تضع أمامه الخيار الذي يجب عليه أن يختاره من غير وعي، لم تُحرك أمريكا اسطولا لحماية أفرادها، وفاز نيكسون بولاية أخرى لم تدوم.