لحظات تحت المطر.



راعٍ للغنم على قمةٍ شاهقة تخترق السحاب تارة ويلامسها تارة أخرى، يأخذني غروري لرفع يدي لعلي أبلغ السماء، تلامسُ وجهي ذرات الغمام فيرتعش جسدي من نسمات بردٍ لا يضر، للمكان رائحة امتزاج ألوان الطبيعة، فعشب أخضر مع ورد أصفر يبدو ويستترُ بحياء خلف ستار ذاك الغمام، تتراقص الأغنام نشوى وفرِحة، صغير يُشاغب بين أقدام أمه بحثا عن قطرات الحياة، وأخرى تقفز لاكتشاف معالم الكون الجديد، عشُّ حمامةٍ قابع في هدوء معلقٌ في السماء فيه ثلاث بيضات، تصمت صاحبته وتسكن مخافة أن تكتشفها يد الإنسان فيُحيل لحمها مشويا، وبيضها مقليا، في حفيف الأشجار حكاية، وفي سكون الأحجار رواية، حكاية تتحدث عن عزلة عاشت بعيدا عن الضجيج، ورواية تحكي فصول الانتصار على الإنسان، عند الأصيلِ أشياءٌ تتحركُ من حولي تُلهمني الخضوع، وتزرع في قلبي الهدوء، فيعلو حاجب الصمت وتتردد على الأذن همسات السكون، للسكون ترددات ملونة لا يدركها إلا من حبَّذ عزلةَ الاجتماع، ترددات لا تُدرك إلا بالانفصال عن ترددات الاتصالات وشبكات الإزعاج، أُلقي برأسي على وساد أخضر، أشارك الطبيعة مخدعها، آمل أن أسمع دبيب النملة عائدة لجحرها، تلتصق مفاصل الجسم الترابي بأصل التراب، تحتجب السماء خلف الأشجار، تأتيك رياضة الاسترخاء رغما عنها، تناجيني الأرض أين أنت عني؟ أشَغلتك عني مراكض الحياة أم آثرتَ بدائل الزمان؟ تنسلُّ من جسمي شحنات طاقةِ الألم، وتغادرني رعشات التوتر والقلق، علمتُ أن الأرض كانت عيادة الضعفاء، اقتربت أغنامي أسمع صوت احتكاك أسنانها تقتطع العشب، هو كوكب العطف وبذل الحياة رغبةً في استمرار الحياة، لن تتوقف الحياة مادامت هناك أرضٌ تبذل، زخات المطر تتساقط من كفوف الملائكة، لا أريد النهوض، في الاستلقاء نعيم آخر، تدوي أصوات الرعد وتومض أضواء البرق من فوق جفونٍ مغلقة، تسقط قطرة، يتلوها قطرة، حلَّت رحمة الرحمن، دعني أغرق تحت ماءٍ لم يعرف النجاسة ولم تعكره مصانع تكريرٍ أو تحتجزه سدود الإسمنت، كأن السماء اطَّلعت على صدري فأرادت منحي كل ما أريد، بل علمت حاجتي فوهبتني ما أحتاج، مع قطرات المطر شُيد جسرٌ بيني وبين السماء، فسيح وسيع معطاء أراه وإن أغلقتُ عينيّ، تتدفقُ معه أحاسيس الأمان، شيء متصلب داخل صدري، أشعر أنه غادرني، عند الأصيل كانت الطبيعة تعزف معزوفتها الملائكية، كنت في شهر أُغسطس، ارتجفت من البرد، ولكنه كان بردا منعش، مدّني بالقوة والنشوة، مدّني بالأمل، أوهام كانت تتورم داخل رأسي لم أعد أشعر بها، كوابيس كانت تجثم على صدري لم أعد أعلم مستقرها، الأصيلُ هو وقت عمل عيادة الضعفاء، أيقظتني عجلتي وتسرعي، فتحت عيني، تبدل الكون والسماء غير السماء، لبست الأرض لباس الماء، كان كل ما حولي يجري جريان الأودية، السيول تقفز من علوٍ إلى دنو، مع قفزها صوت ارتطام الماء، قد غادرت أغنامي، لابد أنها التجأت لمسكنها، وقفت أغسل رأسي تحت صنابير السماء، وضعت قدمي فانزلقت، وقعت على ظهري، هذا ما كانت تشعر به "هايدي" في زمن الطفولة، رائحة الطين، هذه هي رائحتنا قبل أن نعرف البصل والثوم وأسواق باريس، استقمت وألقيت رأسي للخلف، اغسلْ أيها المطر أدران علب كبريت نعيش فيها، شرَعتْ الأماني تملي حضور من أتمنى حضوره، الأماني تكون وسائط السعادة، لوقع أقدامي ارتطام بالماء، تخضبت بالحمرة وعلاها الطين، كان البيت لا بالقريب كما أنه ليس بعيدا، مع كل قطرة تسقط كانت النفس تعود لمسارها القويم، غلبَ الظلام انتظاري لقوس الألوان، وعُدت لأوكار البشرِ مطمئنا لعزلةٍ اخترتها، لم يشاركني فيها سوى قطرة مطر، وترنيمة طائر، وأوحال طين.

الثعبان الأسود.





انتشر بين حيوانات الجزيرة وباءٌ غريب، وباءٌ يُعشعشُ في الجمجمة بين قشرة الرأس وبين المخ، يبدأ صُداعا ثم ينهشُ المخَ مسبباً آلاما قاتلة حتى يصل لمرحلته الأخيرة فيخرج قيحا وصديدا من العين اليمنى معلنا دنو لحظات الفناء. فَنِي أثناء تلك الحقبة القاسية من حيوانات الجزيرة كل حكيم، شمرت الأرض عن كل شيطان التحف تربتها، وحلّ الفراغ مُشردا الهواء، كأنها لعنة أرواح الأموات، عادت تنتقم لأجساد المقابر تحمل معها أصوات برزخ العذاب وسحق العظام.
تنفلق ثمرةُ الجوز عن قطران الحقد فيخرج منها نبتتان تلتفان حول بعضهما صعودا إلى السماء، تصعدان حتى لا يُرى رأسيهما، يتحولُ السحاب لمعاول هدمٍ، وتمطرُ السماءُ أحماضَ الكوي والحرق، تهرولُ الأشجارُ تتلفتُ أين العذاب؟ عمَّ الوجع والوصب ثم عمُّ الهدوء فجأة، لم يبقَ إلا الثلة، يأكلون التراب، يلتحفون الجلود، يموت عقلاؤهم، يسقطون من غير رأي في كمائن <الثعبان الأسود>، يئِسوا واستسلموا للعهد الجديد، أصبح الثعبان الأسود عنوانَ السلام و رسولَ الأمن والأمان وحامي الأعراض ومؤمن القوت والزاد، رسم لهم لوحات الجمال على ماء، أحال التراب مالا في خيال، جسَّد لهم من الوهم مالا يُتوهم، أقعدهم على حرفٍ يحسبونه القرار، صاح كبيرهم من دون صوت أن "يحيا الثعبان" وردد صغيرهم أن "كلنا الثعبان".
توالت وفود غربان الليل حين فتور قوة الشمس، سن الثعبان قوانين البقاء، وسنن اللقاء، فمن أراد البقاء فليركع، وإلا فالأنياب مشرعة وأحواض السم تفور محمحمة، ومن أراد اللقاء فالعصرُ من نصيبه والقيدُ حليفه، أضحى حمورابي الجزيرة، استوى على العرش يضرب بذيله، وينفث من فمه، أبناؤه يحترفون التمثيل والإعاقة، وأحيانا الجنون والشحاذة، كان الأسود يأوي لفراشه فيوقن أن عرشه دائم مادام الهوان، أكل كبير الثيران، ونفى عظيم الفيلة، ونافق بين التماسيح فنهشت كبيرها، انحنى له الزمان كُرها في الفناء.

شاع أن له أتباع، بين الوسائد وفي الخدور، ينقلون قليلا مما يسمعون وكثيرا مما لا يسمعون، حتى أصبحت الحيوانات تتخيل الحبال أفاعٍ سود، ضرب الخوف أطنابه وأناخ ركابه، كانت اللقمة بخوف، والبولة بخوف، ومنتصف الطريق بداية، وآخر الطريق ليس له علامة، الأخ يُخوف أخاه بأن "سيأتيك الثعبان الأسود"، وكأن الوباء تبدل ولم يرحل،  والثعبان الأسود سريع الغضب، لا يهدأ ولا يستكن، أكل القلوب والأكباد، واستقدم الذباب والجراد، وأمر السحالي بأن تحرس المباني، والحيات لتتبع الهمَسات، منح نفسه عقلا من رماد، القول من غير تفكير والعمل من دون تدبير، فاستناب عنه قيدا وكرباجا، فازداد خوفا وريبة، أرسل زبانيته في الأرض حاشرين، اسحقوا كل حالية لبن، اقيموا عرشا من الهلع. امتلأت الجحور وضجت الكهوف، قال: فناء الثلثين بقاءٌ للثُلث، أُقيمت المشانق وهُتف: أن الأرض للثعبان يُورثها من يشاء، فأعادت الحيوانات: هو المالك يؤتي مُلكه من يشاء.

المثقفون الرُّحل .






في زمان مضى، ومايزال البعض حتى الآن، ممن يقتصر رزقه على ناقة يحلبها، أو نعجة يذبحها، يرتحلون وراء مُزنٍ يهطل، وسحابةٍ تُمطر، وتستمر الرحلة كلما أجدبت أرضٌ وأخصبت أخرى. والسخرية تصنَّمت في أن الرحلة اقتبسها من ذاك البدوي الوفي مثقفٌ مُدعٍ، والضحكة تضمَّنت في أن القَتام يُرى جمالا، والهباء بهاءً، إمعةٌ مُدعٍ يرتحل كذلك وراء عقولٍ تُنهَب وفكرةٍ تُسلَب، بحثا عن شبهة، وتفتيشا عن ومضة، بعد أن أجدب خياله وجف وكاؤه، طُفيلي ما يحيدُ أن يكون ضامر عقلٍ، يقتات على موائد ذي النفوذ، فإن أجدبت مائدة ارتحل لمائدة أخرى. يملك قلما مداده من حساءٍ يُقدمه له سيده، فيشرب منه مرة، ويبلل قلمه به مرة، أطبق عليهم ناقوسُ الليل، تخطاهُم المنافسُ والزمن، اكتفوا بهزيلٍ اسمه "خُذْ حلْ"، بعد أن سُد أفق السماء بمشاريع خلاقة أُفرع طولها بسواعد إخاءٍ لم يُضعفها فقر دم أو تفتيت أنسجة. أقصدُ رهطاً مثقفين أضاعوا أعمارهم في حرب خاسرة ضد "أصولي"، دهسهم، حتى سُمع نقيق ضفدع يقول عندها "أولئك أناسٌ يتطهرون".
لو أن الثقافة إنسان، لخلعتْ ثوب البشرية عن أن ينتسب لها من كان عارا عليها. لا طريق لديهم، اكتفوا بإزميل، وأبت المطارق ما كانوا يعملون. ألسنتهم تردد "أمرك مولاي"،، التدليس بمئة، التدليس "بْلَس" بمئتين، استبدال الفكر بخمسمئة، والساعة بخمسة "قنية" والحسَّابة بتحسب. يعيشون في أعشاشٍ يحسبونها حصونا، عُشٌ أركانه هزيلة، ودعائمه منخورة، فيأبون إلا أن يروا الهُزال عارضا، والنخر تمارضا، كالذبابة تعتقد أنها تطير بجناحي صقر، وهي لا تتجاوز المزابل.
تملكوا النخبوية بصكٍ شاهداه راقصٌ ومُطبل، فأصبحت شعارا يباع، ثمنه ثمن جيفةٍ مُعطرة تتنقل بين غرف فندق خليع. ما علموا أن الشُهرة الزائفة كجزيرةٍ مقفرةٍ في عرض البحر لا يبلغها إلا من يسبح عكس التيار فيجدها فارغة فينتكس سابحا مع التيار بُغية شربة ماء.
 "قواعد اللعبة تغيرت"، "نحن في ورطة في الطريق الصحيح"، جملتان لا يبوح بهما رجل قيمة ثوبه أغلى من قيمة عقله، بل من درس ومارس، وعصر وعاصر، فتقبلته النفسُ شرابا سائغا للشاربين. 

ريحُ الحق جندٌ من جند الله، تقتلع لسان الشيطان، وتقمع كل بهتان، تخرُّ السماء من كلمة حق، وتستقيم الأرض من زفرة صدق. طريق الهدف المبين، لا يعرف لوحة "الطريق مغلق للصيانة"، بل "الطريق مفتوح للهداية"، تنقاد معه كل حريةِ نَخوة، وتهربُ منه كل حريةِ شَهوة.

نظرةٌ للعلمِ البشري



لو أن التاريخ البشري منذ ولادته إلى لحظتنا هذه يُصوَّرُ كمشهدٍ نراه ونسمعه ونتعايش معه، هل يا ترى نستطيع أن نقطع بأمرِ وصولنا إلى ذروة التقدم البشري والتقني؟ هل نقوى أن نعتبر عام خمسة عشر وألفين قمة العلم البشري؟ ستبرز من بين المشاهد الكثير من المفاجآت والعجائب والتي سينكفئ العقل بها للتدبر مرة أخرى. نحن هنا في معمعةِ ما بعدِ غزو الفضاء وانشطار الذرة وتحليل الخلية واحراق القنابل وإهلاك المتفجرات وسموم الغازات، ولكن هذا لا يؤهلنا إلى التبجح بأننا على قمة القمم، وعلى النقيض من هذا فحتما لسنا في الدرك الأسفل أو في مرحلة منحطة حضاريا وعلمياً. فمن القاطع أننا في نهاية سلسلة بشرية لها من التجارب والخبرات ما يؤهلها إلى أن تكون مُحملة بإرثٍ ضخم يمنحنا ما نريده من تقدم بِناءً على تجارب من سبقونا.
دعونا نقلب صفحات التاريخ ونُنْزلُ العقل قاضيا حكما عدلا، فبدأً من أهرامات مِصر العجيبة والتي حتى الآن لم يتفق علماؤنا إلى النتيجة القطعية لطريقة بنائها، فمن عالم يجزمُ أنها من الطين المصبوب صباً بمعالجة كيميائية عجيبة أحالت الطين الغض الناعم الطري إلى صخرٍ فظٍ صلب قاسٍ، وآخر يجزمُ أنها من صخرٍ طبيعي يعجزُ الإنسان عن تحريكه فضلا عن حمله إلى تلك الارتفاعات، وبناء على كلا التفسيرين فحتما إما أنهم يملكون مختبرات كيميائية ومواد بديعة تُساعدهم على المعالجة والتفاعل وإما أنهم يملكون طرائق هندسية بديعة أيضا لرفع تلك الصخور، دعونا من الحمل والوضع بل ما هي التقنية الهندسية الفذة التي استخدمها الفراعنة في البناء والقياس واختيار المكان فوق التربة المناسبة والدقة في اختيار الزوايا والاتجاهات، والتي أيضا ربما استخدمها أو غيرها قوم ثمود في بناء مدائن صالح والنحت في الجبال بطريقة عبقرية، وهانحن الآن نرى جرافتنا وحفاراتنا بقوتها الجبارة كيف تُعاني في اقتلاع الصخور وحفر الأنفاق، لا أُصدق أنها يد عملاق يملك إزميلا من حديد لم يخش أن يخر عليه الجبل وهو يتلاعب في جوفه.

تجري التجارب الآن لابتكار طريقة بديعة لانتقال الأجسام والسفر عبر الزمن، بدون قطع المسافات المكانية والطرق الاعتيادية، فالأمل أن أكون بشحمي ولحمي في لحظة ما في المشرق وفي اللحظة التالية في المغرب. قد افترض العلماء أن الطريقة ستكون عبر تفكيك جزيئات وذرات الجسم ثم بعثِها بسرعة الضوء إلى المكان الآخر وإعادة ترتيبها في زمن لا يتعدى (0.025) ثانية، هذا جيد، ربما هذه الطريقة هي ذات الطريقة التي ارتحل بها عرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين عند سليمان عليه السلام قبل أن يرتد إليه طرفه، فقد ذكر القران الكريم أن العالِم كان ممن آتاه الله العلم. أنا لا أُنكر معجزات الأنبياء ولكن ربما كانوا يملكون مالا نملك، بل ما زلنا نتحسس طريقنا للبحث عنها في عام خمسة عشر وألفين.

عصفور يُلهم .







في صوت عصفورٍ حزمة من الأسرار، أسرار تنبعث كنغمة لطيفة، وترانيم مُرتلة، تتخلل إلى النفس برائحة الطبيعة، رائحة التراب المبلل بماء المطر، ورائحة حبق الماء عند جريان الوادي، فتحمل معها كل معاني السكينة والأناة، هي ممحاة لكل معاني الألم، قاشعة لكل طبقات الغيظ، مُذللةٌ لكل ندبات الزمان، مانحة نفحة من دواء الطبيعة. تستلذ بها الأنفس من غير معرفة بكنهها ومعانيها، تسير خلال أسوار الهواء بانسياب الحب العذب وبيان العربي القُح وألحان الصفاء المُقدس، تطرب لها الأذن فتُصغي، وتسمو بها النفس فتخشع، هي من العُجمة لنا بمكان، ولكن الجمال هو من نقَّاها، والطبيعة من بعثها، والفقد من عرَّبها، والعدم من طرَّبها. عندما نُصغي لها بقلوبنا نتوله فيها بأنبل الأخلاق وأعدل القوانين، هي لا تعرف عنصرية العصر ولا طوائف المكان، تقع بكل إخلاص على أُذن الشريف والمسكين والغني والفقير والرجل والمرأة والشيخ والطفل، مبدؤها لا يعرف أرستقراطية في البذل، ولا دكتاتورية في القضاء، ولا ليبرالية في المعنى، أو عرقية في العطاء. لم تنبني نغماتها على العزل والفرز، جمالها في عدلها وعدلها في جمالها، ولا يأنسُ بالعدل إلا المستوحش من الظُلم. ولا يُنادمُ الجمالَ إلا مرعوبٌ من القباحة. يُغردُ عصفور فيأنس قلبٌ كليل، يُغردُ عصفوران فيغدو قلب الفقير مُمتلأً، يُغرد ثلاثة فيأتيك الربيع زاحفاً، إن كانت تغاريد خِصام أو تناجِ، فلا فضل للروح، فما أروع تعبير الطبيعة عن خصام بين اثنين بأعذب الألحان! لا يوازيه جمالا إلا أن يكون تناجٍ بين عاشقين.

لم يُظلمْ ذلك الطائر وألحانه إلا عندما شبهنا تسارُّ العاشقين به، ما أظلمَنا بني البشر! نتسار ونتناجى ثم نقول هي كألحان البلابل، مع علمنا أن خلفها سرائر النفس المقيتة، والمصالح المُفسدة، والقنابل الموقوتة، والدسائس المُميتة، نتألى على أنفسنا ونقهر عاداتنا ونلوي ألسنتنا لنُخفي حقيقة وراء حرف، ونيةً وراء مقصد، ثم تُعرب لنا الأيام عن سواد من تحت بياض وعن جمر من تحت رماد. فيغدو بنا التغريدُ ضجيجا، والنجوى فحيحا، والرضاب عيونا حارة تتفجر بكل معاني العذاب والوجع، وبكل تفسيرات التألُّمِ والأنين. أوليس هذا ظلما لعصفور لطيف لم نسمع منه إلا أرق الألحان وأعذب الجمال وأرقى المعاني؛ في صوته حزمة من الأسرار؟

بناء الطاغية .





عندما اعتلى "خرّاص بن مُتظاهر" عرش الحِجابة أتته الوفود إثر الوفود، وانهالت عليه الرسائل الإلكترونية كالسيل الجارف، للتهنئة له بالعرش والدعاء بطول المُقام، حتى اضطر رحمه الله كما ذكر المؤرخون أن اقتنى جهازا آخر يحملُ ذاكرة أوسع وأكبر ليتمكن من استقبال الكم الوافر والحجم الكبير من الرسائل والصور الصوتية المُثقلة بالزغاريد وأناشيد الفرح.
أتته القصائد العصماء زحفا، وركع أمامه البيان البليغ، وأُقيمت تحت رجليه المقامات المسجوعة، والتي كانت كما ذكرتها كُتب الأدب تقطرُ وفاءً وتسيل صدقا كما يسيل الندى على أوراق الورد أوقات الصباح، تتزاحم حروفها إجلالا وهيبة في مشهدٍ ينجلي عنده حاجز السماء الدنيا في فؤاد المُتصوف، وكأني بالرسائل المكتوبة وهي تنخلع عن أيدي سُعاة البريد عَجَلة وحُبا للقائه، فلم يكن بها من الصبر عنه بما يُحمِّلها بُطئ خطوات الساعي. وكأني أيضا بالخرافِ تُذبحُ على موائده احتفالا كأنه الغيث أتى بعد دهورِ العجاف.
كان من فطنته رحمه الله أن تواردت عليه الأفكار توارد الإبل على الوِرد بعد طول سفر، فجال بخاطره كيف لهؤلاء الرعية البُلهاء أن يُكشف لهم عن عدله قبل ظُلمه، ووفائه قبل غدره، وسماحته قبل زيغه. لمْ أعزلْ وأُنصِّب، ولم أُقررْ وأَكتب، وهاهم يُمجدون ويُعظمون، ويلهثون ويتذللون، وما هذا إلا من سوء الطبع وخُبثِ السريرة وطمع النفس، تتجلى عندها صورةُ خضوع العبدِ من سيده وتذلل القطة من مالكها.
كان في تزلفهم له إشهارا بكذبهم وإبانة عن تملقهم، فعلِم أنهم مداهنون للعرش سواء كان له أم لغيره. ظل هذا السيل الجارف يُعمل فيه عمل المُخدر في المتخدر، حتى أصابه مرض "البارانويا" فأشعل فؤاده بغريزة العظمة وحُب النفس، وصبَّ عليه القُدسية صباً، حتى ألهاه عن حقيقة وجوده وبنسيانٍ كامل لمشروعه الإصلاحي لم يفق منها إلا بعد سنتين وخمسة أشهر قُبيل أن يُعلن عن ربوبيته وأُلوهيته، فأُقيل وشُفي من مرض الحياة.
تحول العرش منه إلى غيره وتحولت معه ذات الرسائل من جموع الأغبياء تمحو اسم المُرسل إليه في الرسالة لتخُط الاسم الجديد ثم تضع إصبعها على زر (إرسال)، وكذلك استُبدلت الإبل بالخراف، والنحر بالذبح.

ومنذ ذلك الوقت إلى الآن مازالت هذه عادة من عادات العرب الأصيلة، والتي يستبين عنها عُمق فكرهم وبُعد نظرهم وكشفهم لأسرار الغيب قبل أوانه، وحقيقة الهطلِ قبل انهطاله.

وطنٌ بلا تشويش .



رأيته يتلوى والألمُ لصدره معتصرا، ولمهجته آخذا، قاطب الجبين، منقبض الفؤاد، محتقرا كل جميل، مستصغرا كل عظيم، مسدود النفس، ران على وجه الهمُ والغم. يشتكي امرأةً لجوج، وأبناءً كالراجوج، هي ما إن تنتهي إلا لتبدأ، وهُم ألسنٌ لا تهدأ، أحالوا نهاره سوادا، وصيفه شتاءً، بل ما إن تتنزل صاعقة إلا تخيَّلها واقعة على رأسه، ولا نقمةٌ إلا مصيبةٌ هامته. يدخلُ بيته ليهرب منه كفأر رأى ثعبان، نزحتْ عنه الشجاعة وهجرته البسالة، ابتلع حبوب اليأس فأصابه داء القنوط، وتجرع كأس العزلة فشرِق بشربة الهزيمة.
قال له صاحبه بعد أن تلمس موضع ألمه: ما أصابك إلا صنع يدك، وما أضعفك إلا قلة حيلتك، أجلسك الزمان على جبل باذخ، ففارقته في هبطة من الأرض، فسقط عليك الجبل. فلفعلك فاحتمل، إن كان داؤك في بيتك فدواؤك في بيتك، وداوِها بالتي كانت هي الداء، كُن مع زوجك وأبنائك كما كان أبوك معك ومع أمك، لا تكترث بمقولات الحداثة، ففي الأمر سعة، فالبرود المُطرَّزة لم تختصمْ وأحذية باريس المرتفعة، ولكن السر في المزج والخلط، فإن كان بيد حكيم ماهر، فهو الدر والجواهر.
كان الأبُ يوقظ الابن للصلاة أداءً لا قضاءً، يأخذ بيده في سراديب ومتاهات الحياة، يركبان راحلة القصص والروايات وحكايا الماضي ومغامرات الأجداد وفضائل السير وبطولات الأيام ليقطعوا شعاب الليالي ووَهَدات الأسحار. كان الأب "الأمي" يحكي قصص الأنبياء وحكايات الصحابة وروايات التابعين، يسرد -للأبناء وأمهم يتحلقون حوله يغشاهم الأمن وتحوط بهم الألفة- النوادر والحكم والطرائف، فتبرق ابتسامة، وتدوي ضحكة، ويغدو البيت حديقة غناء، وردة تعشق وردة وتحرسهم وردة، هو هكذا البيت وربُه، فالفلاحُ يُهمل أرضه فتصبح مسكنا للحشرات والأشواك، تختفي خضرتها فتبدو غبراء مقحلة وأرض جرداء، وآخر يُحافظ على ريها ويُبعد يابسها، يجعل لها أوقات السقاء وأوقات الزرع وأوقات النزع فتعشقه أرضه وتبادله ينعاً بمحبة، وثمرا برعاية، وعبقاً بحراسة، تغدو جنته وفردوسه، وطمأنينته ومستقره. كان الأب في محرابه يلجأ إلى العلي القدير أن يبارك له في ماله وذريته وأهله، فيجهد بأن يسلك طريقا محفوفا بالبركة، فتسمو به النية الصافية في معاريج العُلا فتتراكمُ سحابا يُزاحم بعضه بعضا ثم تتهطل قطرات مِلؤها الرحمة وبردٌ تُشكله ألفة، فتُزهر الأنفس وينبتُ منها نبات الإخاء والمودة.
حياتنا الاجتماعية لم تفرقها تقنية ولم تُشتتها شبكة، بل نحن تركنا مكابِحها فهوت، وفارقنا مِقودها فغوت، وإلا فالكف الذي كان يحمل الوردة مازال هو الكف، والمبسمُ الذي كان ينشقُ عن اللؤلؤ مازال هو المبسم.

لنُعيد النظر إلى قدراتنا وإلى سرائر أرواحنا فنحن نملك عصا التحكم، ولنتخلى عن عروشٍ وضعنا أنفسنا عليها من غير أن نستحقها.

طريق العلم الأوحد.






لم تسعفني الذاكرة لتذكر كم كان عمري عندما طرقت سمعي حكايةٌ مفادها أن علماء الولايات الأمريكية أرسلوا لعلماء اليابان إبرةً لا تُرى بالعين المجردة لإثبات قدرتهم وحد تفوقهم في العلم وتقدمهم في الاختراع، فما كان من علماء اليابان إلا أن قاموا بثقب تلك الإبرة وإعادة إرسالها للولايات الأمريكية التي وقف علماؤها موقف الحيرة والدهشة والاستغراب.
أحقا كانت تلك الحكاية أم خُرافة؟ فكلاهما في مقدمة الركب يقودان، وأفُكاهةً كانت تلك الحادثة أم هُزالة؟ فالبلدان في نعيم العلم يرفلان، يقودان الأمم من كهوف الظلام لفسيح الأنوار، ويرفلان في نعيم المجد فلا يزاحم أقداهما قدم. يقول زكي نجيب محمود: "لا نهضة عربية إلا بفتح المختبرات للطلاب والعمل بالتجربة والأخذ بقوة بجانب العلم التجريبي"، سئمنا التنظير وحفظ القوانين، ينهش العجزُ قلوبنا جراء أسئلةَ عرِّف، وضعْ علامتي الصح والخطأ. نحن قومٌ لم يخلقنا ربُنا ناقصي أذن ولا عين، ولا زواحف أو نمشي على أربع، نحن بشرٌ كما هم بشر، ولكن حظنا جعل طريقنا مسدود، وسبيلنا مردوم، في غرفٍ محصنة، خاف منا أحدهم فأقر: كمموا الأفواه، ابتروا الأصابع، فقئوا الأعين، نحن أعلمُ بالضرر والضرار. في أبنائنا حباً للاستكشاف سُحق، وشغفا بالغوص في الأعماق خُنق، وولهاً بالتجربةِ والمشاهدة مُحق. تنبجسُ منهم أنوارُ محبةٍ لفتح الأصداف لا يقل وميضا عن إشعاع الآخرين، الفارق أن أشعتنا كلما أبرقت اصطدمت بمرايا الخوف والمنع والاستبداد فإما أن يعود حاسرا منكسرا إلى مبعثه، أو يتسلل من خلال الشقوق لعله يجد سبيلا كما السبيل التي سلكها أحمد زويل.
في التاريخ عظات وعبر، وقف عِلم اليونان عند الوصف والمشاهدة فما أحدثوا ثورة، ثم أخضعها العرب للتجربة والتحقق فترجرجت أركان الأرض، ثم خمدوا فخمدت، ثم أكملها الغرب الحديث من داخل المختبر فتزلزت السماء قبل الأرض.
أعجب من وفودِ رجال تعليمنا عندما يقومون بزيارة لليابان مثلا فيما يسمونها زيارات لتبادل الخبرات! العجب يدور في فلك أن هناك من يعلم سر النجاح ولكنه لا يشتهي!

عودا إلى حكاية اليابان والولايات الأمريكية فقد سبقهما "أبو حيان التوحيدي" بألف سنة  عندما ذكر في امتاعه ومؤانسته بأن فيلسوفا نزل بمدينةِ فيلسوفٍ آخر فأرسل الفيلسوف المقيم إلى الزائر كأس ماءٍ ملأى يُشير إلى غزارة علمه واستغنائه عنه، فما كان من الفيلسوف الزائرِ إلا أن طرح في الكأس إبرةً يُشير إلى أنّ علمَه سينفذ في علمِه. هي ذات الأسطورة إذن، تتناقلها الركبان وتُحورها الثقافات، والنتيجة أن هناك أمةٌ تعمل وأخرى تستغني بالوصف والحكاية.

الوعي المزيف.







الكلامُ صَلِفٌ تيّاه، لا يستجيبُ لكل حال، فلا أقوى أن أُحضر دِّقه وجِلّه، ولكن سأحاول أن أجلوه لعلكم تلحظونه بردائِه وإزاره. تسحرنا الصورة، ويشد عنان عقولنا جمال التصوير، نرتعي من موائد الأفلام الوثائقية حد الشبع، نُثَبت عقولنا كأهدافٍ في مرمى سهام نشر العلم بالطرق الحديثة، فتصيبُ منا في مقتل ونحن نرجوه في مأمن، نستقبل بلا تمحيصٍ رسائلَ وراءها فكرٌ مؤدلج، وصورٌ تكاد تكون صحيحة.
من الأكيدِ أن مشاهدة الفيلم الوثائقي أمتع للنظر، وأيسر على الفهم، وأقدر على التذكر، وأرسخ في الذاكرة. ولكن يجب الحذر من المعلومة المغلوطة والثمرة المُثلَّجة والهدايا المُغلَّفة.
كنا نقول لا تُصدق كل ما تسمع، واليوم نقول لا تُصدق كل ما ترى، وراء كل صورة قناة، ووراء كل قناة شخص، ووراء كل شخص فكرة، والفكرة تحتمل الخطأ أكثر من الصحة، لأن الحقيقة ناصعةٌ واسعة، فيتم اختزالها في رُكن أوحد، ويُنظرُ لها من خلال زُجاج المُعتقد ودخيلة النفس، ثم تُشكلُ من صلصال مصلحة الشخص وطين طائلةُ المكسب.  فالاختزال هو انتقاء ما نريده أن يُسمع ووأد ما لا نريده تحت أرماس التراب. الكثير من المسلمات التي كنا متيقنين من صحتها، أثبتت خطأها مع إشعالِ أول وهجٍ من مصابيح التعلم، وورود أول منهلٍ من مناهل الكُتب.
شخص ما يملك مالاً كَرِمال نجد، تنبتُ فيها أشواك حمضية، فمن السهولة عليه بمكان أن يُزينَ شوكه ويبعث فكرتهُ ويُؤثر بها ويقود المجتمعات المُغيبة، بإخراج متطور وسرد مُختزل للحقيقة ولكنه مُقنع. شخصٌ ما يملك نصف علم، فيُفتي ويشرح ويُصنف ويخلط باطله بالحق فتُصدقه الحشود ويقع المحظور. في حادثة تفجير أبراج التجارة، تجد العشرات من الأفلام الوثائقية تناولت هذه الحقيقة، كلٌ منها حسب مصلحة صانعيها ومُنتجيها، فهذا يُؤل وذاك يُفند والمُشاهد يتوه وتضيع الحقيقة الناصعة.
صنيعُ العقل قبول الأمرِ أو رده، تطييبه أو تشنيعه، ويستطيع ذلك إن كان المعروض غير متلبسٍ ولا مُستتر ولا مزيف ولا مُزور، ولكن بضاعة اليوم مُزجاة، تخلطُ بين العُلَبِطَ  والسَّجاج، وبين العسلِ والماء. فإذا كان العقل لا يملك أدوات تؤازره وتُسانده، ومعاول تُناصره وتُعاضده، فحتما سيقع في الوعي المُزيف.

هنا ومع هذا السيل الهادر لابد وأن يكون للفرد قاعدة متينة من الثقافة وبُعد النظر، وسلاحا نافذا من النظرِ الناقد، والعقلية النافذة التي تتورع عن الهفوة، وتبتعد عن الكبوة، ووحدها القراءة هي من تمنحك قاعدة واسعة تستطيع بها المقارنة والمفاصلة ورد الشبهة وتقبل المعلومة. أوجبتُ على نفسي أن أصنع لها درعا متينةً لا ينفذ منها إلا أصح الصحيح، فقد طال الأمدُ على لُبدٍ، ومللتُ أن أبقى قطعة شطرنج.

الأمانة، تموت خنقاً !






أمقت حد العجبِ رجالَ الأمنِ, وأكره حد الغرابة تلك العيون الساهرة، بيني وبينها شناءة، ظاهرها عداوة تُحرق، وباطنها مخاصمة تّتقد. بُغضٌ ما هو بالهزل في موضع الجد، ولا بالجد في موضع الهزل، لا للشخص أقصد، بل للفكر المتذبذب وللفهم القاصر و للطبيعة الجانحة عن الفضيلة وللهوى المُتصادم مع كل حرفِ قسمٍ أقسموا به. رأيتُ جماجم تحت أغطية الرأس قد وجَدت ربيعاً بعد قفرٍ، ومالا بعد فقرٍ، وعزةً بعد صِفر المكانة. لا أُبالي، نعم أمقتهم وما أنا بحسير.
لن أركبَ موجة التعميم والتخصيص، فالمنطق موكل بهما وعقول الرجال ليست على استواء، فلنتخطى هذه العتبة الصغيرة.
يُقال في علم النفس أن لكل شعور داخلي دافع خارجي، ذكره الشخص أم نسيه. من هنا فمَقتِي تلَبَّسني عن حقائق لن تُحيله وِداً، وحَنقي من دلائل تشمئز منها الأنفس الطاهرة. فهاكم من عجائب الوقائع وغرائب البدائع، ما يُحزن السامع ويُؤلم المسامع، وما هي بنقلٍ من بطون الدفاتر، بل عينٌ تراه الأصاغر والأكابر. هاكم ما حاك في الصدر ولم أكره أن يطَّلع عليه الناس.
بالقرب من الحدود الجنوبية تلتقي الأجنبي المخالِف يسرد عليك قصص ألعاب المطاردة مع رجال الأمن، يلقون القبض عليه بين غابات سود، هو وماله، فينجو هو ويهلك ماله. اختلاء بين أشجار، مساومة على مال، يدفع المخالِف دائما ثمن حريته من ماله أو جهاز جواله. آخرُ يقول متحسرا: سلبوا مني سلاحا ناريا كنتُ قد سرقتُه، وهنا انتكاس الموازين فالمسروق أصبح مملوكا، ورجل الأمن سارقا. ودائما ما يُكْمل المُخالف بقوله: ما أرخصَ ثمن الحرية!
كنتُ أعملُ منذ سنوات كسائق أجرة في العاصمة، عرفتُ شاباً من باكستان، أفضى إلي بأسرار التزوير وطرائق الاستغلال وسُبل الهروب المضمونة وأوقات الاستسلام المناسِبة، ودائما ما يكون النجاح حليفه لأنه كما يقول: وراء كل عملية هروب ناجحة رجل أمن يقبِض، ووراء كل سهرة خلّابة ضابطُ أمنٍ يُسَّهِل، وخلف السُتر تُمسكُ الباشوات بأجهزة التحكم.
لا نعلم عن ماذا يبحث الباحث؟ ولا عن ماذا يستخبر المُخبر؟ ولا عن كينونة أمنٍ وراء رجل الأمن؟ المكافئات مُجزية والمرتبات عن غيرها مُستعلية، فأحال الحلال سحتا عن طمع، واللذة سُقما عن جشع.
كُل أمرئٍ راجعٌ يوما لشيمته ،،،،، وإن تخلق أخلاقا إلى حينِ.
عندما اكتمل بناء سور الصين العظيم وأُحكمت أسواره وأبوابه، لم تختفي السرقات ولم ينتشر الأمن، لأن رجل العصابة، دخل من عند حارس البوابة، مُقابل ثمن الخيانة. الأمانة ليست برفع الشعارات الخاوية فحسب، بل تنزيلٌ من غير رياء، وإخلاص من غير افتراء.

من يقود القطيع؟







يحكى أن تاجر قماشٍ دخل سوق المدينة فباع بضاعته كلها إلا الأقمشة السوداء، فشكا ذلك إلى صديقه "مسكين الدارمي" فاحتال له بحيلةٍ لطيفة، وأنشدَ له أبياتا طلب منه أن يذيعها في المدينة قال فيها:
قُل للمليحةِ في الخِمار الأسودِ ،،، ماذا صنعتِ براهبٍ متعبدِ
قد كان شمر للصلاة ثيابه ،،، حتى وقفتِ له بباب المسجدِ.
وانتشر الشعر في شوارع الدينة وذاع، فما ترك بابا إلا طرقه ولا سمعاً إلا ولجه، وما بقيت فتاة مليحة كانت أم غير مليحةٍ إلا وذهبت تشتري خمارا أسود ليُقال لها أنتِ المقصودة بشعر الدارمي. وباع التاجر بضاعته، وارتحل مسرور الخاطر ممتلئ الجيب. 
هذا النص ظاهره طُرفة يخاتلها دهاء، ومزاح في قالب خديعة، يُعربُ بجلاء عن قوة تأثير وسائل الإعلام وسطوتها على عقول المجتمع وقوة تحكمها على اقتصاد السوق ومكسب التاجر. 
أما باطن النص وخلف حروفه البريئة فهناك مؤامرة وحشية وسطو غير مسلح، هناك رسائل موجهة لمجتمع مُستهدف يفطن لها من يفطن. فتيات المدينة ذهبن للسوق وفي يقينهن أنهن في كامل حريتهن من غير إجبار ولا إكراه، فكُنّ يتمخطرن في عرصات السوق تمخطر الظباء الآمنة، يشترين الخُمر السود وما دار في خلجاتهن أنهن مُنقادات، لا يَملكُ أمرهن غير الدارمي ذاته.
هذا النهج هو ذاته ما تعتمد عليه الديموقراطية والحرية الحديثة بزيفها وخداعها في توجيه عقولنا، فالشركات الرأسمالية الكُبرى هي من تتحكم بفعالية في سياسة وثقافة كل المجتمعات.
أصاب خلل بسيط مطعما من مطاعم البيتزا مما نتج عنه عجزُ المطعمِ عن صنع بيتزا الدجاج لمدة يومين، لم يرد صاحب المطعم اضفاء منظر العجز على مطعمه أمام زبائنه المغفلين، فقط وضع عند واجهة المطعم صورتين، إحداهما مُضيئة براقة بألوان جذابة وحجم كبير لبيتزا الخضار، تنتظم على سطحها قطع الخُضار كما ينتظم الدُّرُ على صدر حسناء. والأخرى بتصوير مُبتذل مشوه مُصغر لبيتزا الدجاج من غير إضاءة واضحة. لم يتعجب أبدا صاحب المطعم الذكي من أن كل زبائنه خلال اليومين وبشكل تلقائي لم يطلبوا غير بيتزا الخضار.

نعتقد يقينا بأننا نملك حرية اختياراتنا، ولكن هذا يتنافى مع مبادئ هذا العالم المتوحش، نحن فقط مجرد عبيد وإن تأزَّرنا بالعِتق. عندما أرادت بريطانيا تدمير الدولة العثمانية دُمرت بأفواه البنادق العربية، عندما أرادت الرأسمالية فوز أوباما بالانتخابات الرئاسية فاز أوباما، عندما أرادوا نشر الأمركة قدموها لنا طُعما مع "همبرجر" لذيذ وفيلمٍ مُثير ودبابةٍ قوية، أثارتنا الأضواء كما أثارت قبلنا "رفاعة الطهطاوي" و "طه حسين"، كل هذا وغيره لعبةٌ يُتقنها الكبار فقط كما أتقنها "الدارمي" في القرن الثاني من الهجرة.




.