لوحة الرحمة .




زرقاء جميلة وضاءة،

وريشة فنان أكثر إبداعاً.

تُصبغ اللوحة بالأبيض.

كيفما شاء

يرسمُ الشكل ويمحوه.

تأتي بيضاء من اليمين.

لتتزاحم مع بيضاء من اليسار.

تتصارعان مع تلاحم,

كإبل ترد المورد.

ثم يرسم الشكل ويمحوه.

تأتي ثالثة.

تهتز وتتراقص.

تداعب قرص الشمس.

تحجب قرص الشمس.

تُرسمُ جبالٌ وأشجار وحيوانات وأسماء.

أره مخيلتك وارفق بها.

أطلقها على جناح يمامة

يأتيك الإبداعُ ذاعناً.

تسمع سياط السوًّاقِ

تومضُ اللوحة .

يهتزُ قلبُ مزارع مسكين .

نَشَلَ كفيه من الحرثِ.

يرفعهما بالتراب راجيا أن تكتمل المسرحية


وينزل الغيث.


فتاة الحي .



  

فتاة الحي، فتاة قمراءُ، هِبةُ الجليلِ، عطيةُ الرحمنِ، روضةٌ غناءٌ، التَحَّ عُشبُها و اغتم ، لعوبٌ حَسَنةُ الدَّلِّ، حوتِ الأنوثة من حوافها، وحازت الجمالَ كُله دِقَّه و جِلَّه. نزلت من السماء، فتلقفتها الأرض، عاشرتِ العظماء والجبابرةَ الأقوياء.

مؤدبة ملوكٍ وخلفاء، مُعلمة شيوخٍ أجلاء. أُريق تحت قدميها دماءٌ و دماء.
تواضع لها الفارسي فرفعتهُ، وعشقها الكِناني فزادته إجلالاً وألبسته وقاراً.

وهناك على الطرفِ النقيض وفي الضفة المقابلة:
مقتها هولاكو فأزال الكتب والمكتبات، وأبغضها المسيحي الصليبي فأحرق غِرناطة وأقام محاكم التفتيشِ تنكيلا بها، حنق عليها أتاتورك اليهودي الظالم فاغتصبها في وضحِ النهار وأعمل فيها بعنجهيتهُ، وهي المتواضعة الخاضعةُ المُذعنة.

وافاها طوفانٌ مُفاجئ، وموجٌ سريعٌ متلاطم، وريحٌ صرصر بارد، فخرجت رافعة الرأس، مُنتصبة الصدرِ، أنفها للسماءِ، وكعبها فوق السحاب، شامخةَ عزٍ ومُتكبرةَ إباءٍ.

هذه لُغتنا العربية، على جراحها تقوى ومع وصَبها تفوزُ وتنتصر، تسلخُ عنها الوجع لتلبسَ الغِبطة وتنزعُ العذابَ لتتسربل بالفرح.

إعلامنا الهزيل حصرها في زاويةِ الناقةِ والجملِ وأبي جهلٍ وتباً لك وسُحقاً فقط.
ووزارة التعليم هتكت الحُجُبَ وجردتها أمام أعين الذئاب في ليالي الظلام.
والجامعات ضعيفة الحيلة رديئة المسلك سيئة السمعة.

الفرنسي يُقدسُ نابليون بونابرت ولغة حربه وآلامه، فيمثلها أمام شعبه حيةً في يومياته وشاشاته وأفلامه على ما ينضحُ منها من عارٍ وخِزي ولكنه تاريخه الذي زرع في أبنائه بذور الثقة وغِراس الأمل والطموح.

ونحن أبناء العربية السماوية، نُكني الفصيح (مُتشدق) والبليغ (متفيهق) والمُفوه (مستهزئ) والِمِلسان (ثرثار) فواويلاه  لو خرج الفراهيدي من قبره والكسائي نفض تُراب لحده.

وأخيرا فهذه الفتاة الأصيلة لن يعشقها إلا عربيٌ أصيلٌ، ولن يعاقرها إلا مجيدٌ كريمٌ .





مُعلمْ، لا مُعلمْ .




في صباح يوم من أيام ( تشرين الثاني) ، والسحاب في معاركه الضارية ضد أشعة الشمس الذهبية. خرج من قصره مرتدياً نظارته ومعطفه الأسود الطويل..

أهلا بك أستاذ ( رشيد ) قالها سائقه الخاص وهو يفتح له الباب الخلفي للسيارة .

في المقعد الخلفي أسند ظهره، وتناول جريدة اليوم، وشرع في تصفحها، بينما السيارة تنطلق مسرعةً عبر طريق خاص بمعلمي مدارس التعليم العام. هذا الطريق الذي يوصلُ لفناء المدرسة الواسع. كان خاليا من السيارات، بعد أن أصدرت وزارة التعليم تعليماتها الجديدة بمنع المعلمين من قيادة سيارتهم الخاصة عند قدومهم للعمل، حفاظاً على سلامتهم وهدوء أعصابهم، فلا يكدر صفو تفكيرهم شيء. وقد وفرت هذه الوزارة أسطولا من سيارات الكاديلاك الفارهة لتوصيل رجال التعليم إلى مدارسهم وإعادتهم بعد ذلك إلى بيوتهم...

                                         
كان المدير واقفا في ساحة المدرسة مبتسماً ضاحكا مسرورا:  صباح الخير أستاذ (رشيد) فها أنت كعادتك تصل في وقتك المحدد.

- وكذلك أنت يا سيدي الفاضل، فدائما ما  تُلبسنا ثياب الخجل بطيب أخلاقك ونبل تعاملك بتركك لمكتبك الدافئ والخروج في هذا الطقس البارد لترحب بنا معاشر المعلمين وعلى محياك هذه الابتسامة البيضاء.

- هذا من ضمن واجباتي تجاهكم يا قادة المجتمع يا من تصنعون الأجيال.


يدخل (رشيد) مع مدخل المدرسة فيسمع ترحيبا إلكترونياً بصوت أنثوي مشبع بالحيوية. وبعد وصوله إلى الطابق الرابع ينفرج باب قاعته الدراسية. تضيء الأنوار وتعمل أجهزة التكييف تلقائيا. يعلق (رشيد) معطفه الباهظ الثمن في المكان المخصص ويجلس أمام شاشة الكمبيوتر الخاص به في انتظار الساعة السابعة.

يستدير بكرسيه إلى الخلف، وفي اللوحة التي بها عدة أزرار، يلمس زر ( القهوة بلا إضافات). يتناول كوب قهوته الساخن، ثم يستدير مرة أخرى. ويحين الوقت.

يظهر وزير التعليم على الشاشة أمامه، يلقي كلمته اليومية المباشرة التي من خلالها يستمع لمناقشات المعلمين وطلباتهم و سبل الارتقاء بهم وبهمتهم التعليمية.

يرن هاتفه الخلوي فجأة:

- أهلا من المتصل ؟

- صباح الخير أستاذ (رشيد) أتحدث معك من (بنك المدينة المركزي) فقد تلقينا اليوم أوامر بصرف مكافئة تعليمية لحضرتك، فهل تريد أن نودعها فورا في حسابك لدينا، أم نرسلها شيكاً مصدقا إلى مكتبك؟

- صباح النور والسعادة، أودعها إذا سمحت بكاملها في حساب الجمعية الخيرية.

- تحت أمرك سيدي .. مع السلامة .


أين هي مجلة التعليم ؟ لا أعلم أين وضعتها بالأمس ؟ يبدو أنها في خزانة الكتب في مؤخرة القاعة!! نعم هذه هي ..

سأتأكد مما قيل لي البارحة ! فإن كان ذلك صحيحاً فلن يبقى هذا الوزير في مقعد الوزارة لحظة واحدة، وسنجعله نحن رجال التعليم كورقة خريف صفراء في مهب الريح تلعب بها كيف ما شاءت .

يقلب صفحاتها بعجل، هذا هو الخبر ( وزارة التعليم تنشئ مختبرات العلوم في المدارس الثانوية بقيمة عشرة ملايين ريال سعودي لكل مدرسة)

فاغرا فاه! ما هذا ؟ عشرة ملايين ريال لكل مدرسة ! كيف ؟ لماذا ؟ متى ؟ أنا من وقع عقد هذه المدرسة مع الشركة المنفذة، لقد كان العقد بـقيمة مليون ريال فقط !!

نحن في دولة القانون العادل ودوائر الانتخابات، فسأرفع الأوراق للمحكمة الإدارية وسأقاضي هذا الوزير وسأجعله يعترف ويُقر باختلاسه لهذه المبالغ، وسأزجُ به في السجن، إنه خائن! ولكن ما الذي يجعله يقوم بهذا الفعل الشنيع الذي ما عدنا نسمع به أبدا؟ يبدو أن يقرأ كتب التاريخ كثيرا .!! خائن!!.

سأرسل الشكوى مع الفواتير للقاضي فوراً والآن؟

انتهيت، الآن سأخرج فقد كدر هذا الخائن مزاجي وعكر صفو مائي بتحريك الوحل في قاعه فلم يعد لي طاقة للالتقاء بالطلاب.

في صباح اليوم التالي استيقظ (رشيد) على صوت تنبيه رسالة على شاشة هاتفه.

(عزيزي الأستاذ رشيد: موعدكم مع قاضي المحكمة سيكون هذا اليوم في تمام الساعة التاسعة صباحاً. ونود أن نلفت انتباهك إلى أنه قد تم التنسيق من قبلنا مع مدير مدرستك لمنحك إجازة لهذا اليوم ليتسنى لك إنهاء كامل معاملتك لدينا. مع تحيات : وزارة العدل )

يقول القاضي مطلقا أصابع الاتهام للوزير: أمامي أوراق تُثبتُ اختلاسك لمبالغ طائلة من عقود إنشاء المختبرات المدرسية! ما قولك ؟ 

-  هذا تزيف وافتراء وتشويه لسمعتي يا فضيلة القاضي.

-  وهذه الأوراق والفواتير وقد تبين لنا صحتها، وهذا التوقيع هنا أليس توقيعك ؟ اقترب وانظر ! هنا.

-  نعم هذا توقيعي وهذا هو اسمي ..

- إذن أنت تُدين نفسك ؟

- يا فضيلة القاضي هناك خطأ ما، أنا متأكد.

- لن أبقى على الجدال معك أيها الوزير . هيا اذهب واجلس على كرسي الاعتراف ، فهو من سيجعلك تدخل في غيبوبة وسنرى في الشاشة كل ما تفكر به.

بعد ساعة من دخول (رشيد) لقاعة المحاكمة كان صوت القاضي يدوي في جنبات تلك القاعة بالحكم النهائي: أيها الوزير: اخلع عنك رداء الوزارة ورد كل الأموال المختلسة واذهب إلى السجن.


 وأنت يا (رشيد) لك منحة تترقى بموجبها في عملك نظير أمانتك وعدم سكوتك عن الظلم. ثم هوى بمطرقته على الطاولة ناطقاً: رُفعت الجلسة .


دخل بقية المعلمين يهنئون (رشيد) ، رفعوه فوق الرؤوس والأعناق، وهتافاتهم تتصاعد، أرسلوه في الهواء احتفاءً به، انفلت من بين أيديهم . وقع أرضا ، فاستيقظ ليجد نفسه قد هوى من فوق سريره المهترئ في غرفة نومه الصغيرة الضيقة.




حاول مرة أخرى .







بين أودية النومِ السحيقة وقمم جبال النشاط الشاهقة تجدُ أماكن وعرة، تحوي الصخورَ القاسية والأشواكَ الحادة والسباعَ الضارية والأفاعي السامة. تكون لك كالسدِ المنيعِ، فلا قمةً ارتقيت ولا وادياً سلكت. يسميها البعض ( الأرق ) وعند أهل البيان واللسان يقال لها ( منطقة القلق) . تسقط أجفان عينيك فيقف شعر رأسك، يهدأ نبض قلبك فتشرع حينها خلايا عقلك بتوهم الأوهام وتخيل الأحلام.
تريد شراء النوم فإذا بالسعر غالي جداً في زمن تدهور الاقتصاد العالمي، تتمنى الغفوة و تسوق لها الجاه لخطبتها فيصيبها الكبرُ والغطرسة، تطلب ودَ الغمضةِ فتولي منك هاربةً وكأنك قاطع طريق، تذهب لمحادثة نومةٍ صغيرة فتُعرضُ عنك ولا تلقي لك بالاً. أرقُ عقلك يتمثلُ لك أشياءً تسبح في ظلامِ ليلك الكئيب، فتارة ترى نفسك مع فتاةٍ حسناء ثم تنقلب فإذا هي عجوز شمطاء، تفتح خزائن الذهب فتجد فيها الحصى والحجارة . تبدأ بمداعبة أهداب عينيك فتسحبها بأصابعك للأسفلِ وتضعُ عليها قليلا من اللعاب عسى أن تلتصق وتغفو. تمارس تمارين التنفسِ والاسترخاءِ ولا جدوى ، لن يؤنسك إلا جمر مضجعك تتقلبُ عليه حتى تُكوى جنوبك .
تعدُ الخراف حتى تمتلئ الحظيرة ، تتلمس شعر رأسك لعلك تحصيه فتمل وتضجر .
القلب فارغٌ من العشق، والعقل خاوي من الفكر. تلجأ للعبة تَلَمُّسِ جسدك وكأنك لا تعرفه، تحكُ أذنيك وتهرش رقبتك وتدغدغ قدميك فتضحك كالمجنون حتى يُسكتَك وصولك لشقوق كعبيك. يا لهذا الليل الطويل ألا انجلي !!
تختمرُ في الرأس فكرةٌ، فتلجأ للورقةِ فتسحبها فتفقد القلم في الظلام فتلعنه وتطيرُ الفكرة. تنقلبُ على بطنك ثم تعودُ على ظهرك،  تجرب الجنب الأيمن ثم الأيسر ، تتدلى من السرير ، ترفع رجليك، تمارس طفولةً في غير حينها .
يبزغُ نور الفجر لم تنمْ ولم تستيقظ ، يتراءى أمامك خيال النوم وهو يستهزئ بك مخرجاً لسانه ويقول ( حاول ليلة أخرى ) .