انتشر بين حيوانات الجزيرة وباءٌ
غريب، وباءٌ يُعشعشُ في الجمجمة بين قشرة الرأس وبين المخ، يبدأ صُداعا ثم ينهشُ
المخَ مسبباً آلاما قاتلة حتى يصل لمرحلته الأخيرة فيخرج قيحا وصديدا من العين
اليمنى معلنا دنو لحظات الفناء. فَنِي أثناء تلك الحقبة القاسية من حيوانات
الجزيرة كل حكيم، شمرت الأرض عن كل شيطان التحف تربتها، وحلّ الفراغ مُشردا
الهواء، كأنها لعنة أرواح الأموات، عادت تنتقم لأجساد المقابر تحمل معها أصوات
برزخ العذاب وسحق العظام.
تنفلق ثمرةُ الجوز عن قطران الحقد
فيخرج منها نبتتان تلتفان حول بعضهما صعودا إلى السماء، تصعدان حتى لا يُرى
رأسيهما، يتحولُ السحاب لمعاول هدمٍ، وتمطرُ السماءُ أحماضَ الكوي والحرق، تهرولُ
الأشجارُ تتلفتُ أين العذاب؟ عمَّ الوجع والوصب ثم عمُّ الهدوء فجأة، لم يبقَ إلا
الثلة، يأكلون التراب، يلتحفون الجلود، يموت عقلاؤهم، يسقطون من غير رأي في كمائن <الثعبان
الأسود>، يئِسوا واستسلموا للعهد الجديد، أصبح الثعبان الأسود عنوانَ السلام و
رسولَ الأمن والأمان وحامي الأعراض ومؤمن القوت والزاد، رسم لهم لوحات الجمال على
ماء، أحال التراب مالا في خيال، جسَّد لهم من الوهم مالا يُتوهم، أقعدهم على حرفٍ
يحسبونه القرار، صاح كبيرهم من دون صوت أن "يحيا الثعبان" وردد صغيرهم
أن "كلنا الثعبان".
توالت وفود غربان الليل حين فتور قوة
الشمس، سن الثعبان قوانين البقاء، وسنن اللقاء، فمن أراد البقاء فليركع، وإلا
فالأنياب مشرعة وأحواض السم تفور محمحمة، ومن أراد اللقاء فالعصرُ من نصيبه والقيدُ
حليفه، أضحى حمورابي الجزيرة، استوى على العرش يضرب بذيله، وينفث من فمه، أبناؤه
يحترفون التمثيل والإعاقة، وأحيانا الجنون والشحاذة، كان الأسود يأوي لفراشه فيوقن
أن عرشه دائم مادام الهوان، أكل كبير الثيران، ونفى عظيم الفيلة، ونافق بين
التماسيح فنهشت كبيرها، انحنى له الزمان كُرها في الفناء.
شاع أن له أتباع، بين الوسائد وفي
الخدور، ينقلون قليلا مما يسمعون وكثيرا مما لا يسمعون، حتى أصبحت الحيوانات تتخيل
الحبال أفاعٍ سود، ضرب الخوف أطنابه وأناخ ركابه، كانت اللقمة بخوف، والبولة بخوف،
ومنتصف الطريق بداية، وآخر الطريق ليس له علامة، الأخ يُخوف أخاه بأن "سيأتيك
الثعبان الأسود"، وكأن الوباء تبدل ولم يرحل، والثعبان الأسود سريع
الغضب، لا يهدأ ولا يستكن، أكل القلوب والأكباد، واستقدم الذباب والجراد، وأمر
السحالي بأن تحرس المباني، والحيات لتتبع الهمَسات، منح نفسه عقلا من رماد، القول
من غير تفكير والعمل من دون تدبير، فاستناب عنه قيدا وكرباجا، فازداد خوفا وريبة،
أرسل زبانيته في الأرض حاشرين، اسحقوا كل حالية لبن، اقيموا عرشا من الهلع.
امتلأت الجحور وضجت الكهوف، قال: فناء الثلثين بقاءٌ للثُلث، أُقيمت المشانق وهُتف:
أن الأرض للثعبان يُورثها من يشاء، فأعادت الحيوانات: هو المالك يؤتي مُلكه من
يشاء.