قراءة في كتاب " العرب وجهة نظر يابانية" للمؤلف الياباني:
نوبوأكي نوتوهارا
1.
غُدْوة:
المستعرب الياباني نوبوأكي نوتوهارا، درس
اللغة العربية في جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية، ففي العام الذي حاول فيه أن يدخل
الجامعة (1961)، أعلنت عن افتتاح قسم للدراسات العربية، فتحرك صوت في داخله يدعوه
لدراسة اللغة العربية، وبسبب ميله واهتمامه بالأدب عامة فقد اتجهت عنايته إلى
العناية بالأدب العربي خاصة، فهام بهذا الأدب وأولاه جهده ومثابرته، وكرس نفسه
لدراسة العرب كنموذج إنساني غريبٍ عن الداخل الياباني. سافر إلى مصر سنة 1974
وأقام في محافظة الشرقية شمال القاهرة، عاش مع الفلاحين رغبة منه في كشف شخصية مصر
الحقيقية من على رسمات وجه ذلك الفلاح البسيط. أقام فترة في بادية الشام من العام
1980 وارتحل إلى حضرموت في اليمن ولم تغب عنه مركزية المغرب العربي في صلب الكيان
العربي فزار المغرب وتعرف هناك على بعضٍ من عادات شعب الطوارق وجالس بعضا من
أدبائهم وكُتابهم. ترجم روايات عربية إلى اليابانية منها على سبيل الذكر لا الحصر
رواية (الحرام) و ( أرخص الليالي) ليوسف إدريس، ورواية (تلك الرائحة) للكاتب
المصري صنع الله إبراهيم، وروايات (يوميات كاتب في الأرياف) و (عودة الروح) و
(عودة الوعي) لتوفيق الحكيم وإن كانت ترجمته الأهم تعود لروايات الأديب (غسان
كنفاني) والتي من خلالها تعرّف وعن قرب إلى القضية الفلسطينية، وبهذه الترجمة
تعرّف اليابانيون على وجه آخر للقضية الفلسطينية بعد أن كان الوجه المشوه للقضية
هو الوجه السائد بين أظهرهم، لأن المنبع كان واحدا فقط وهو الإعلام وحسب. يقول
نوتوهارا في هذا السياق: "كان من الصعب على الياباني أن يفهم جوهر القضية فهما
سليما بسبب التباس المواقف وتعارض وجهات النظر في وسائل الإعلام عندنا، بحيث لم
يكن الإنسان يعرف بمن يثق، وفي ظل هذا الوضع الإعلامي الملتبس جاءت ترجمتي لرواية
(عائد إلى حيفا) لغسان كنفاني لتؤدي دوراً مهما لدى فئة من الجمهور الياباني"([1])، وأعقب هذا بترجمته لرواية (ستة أيام)
للدكتور حليم بركات ليكتمل المشهد الفلسطيني في عين الياباني ويعرف بدايات معاناة
الشعب الفلسطيني وتكوينه قبل قيام دولة إسرائيل.
عطفا على هذه المقدمة الوجيزة عن المؤلف
ينجلي بوضوح أن هذه العين اليابانية المسلطةُ أشعتها على العرب لم تأتِ من قراءات
أدبية وحسب، بل كانت تتكئ على معايشة لطبقات المجتمع وحياة كاملة معهم مدعومة
بقراءات للوجه الثقافي العربي من خلال ما أنتجته العقول الأدبية المعاصرة.
2.
صلب الكتاب
شرع المؤلف في هذا الكتاب بذكر نقاط تسم
الشخصية العربية المعاصرة من خلال مشاهداته وإن كان قد جمعها تحت مبدأ واحد أطلق
عليه (غياب العدالة الاجتماعية)، وهذا المبدأ استشفه من معايشته للداخل العربي
وكان هو الجسد الطاغي والثقافة الضاغطة على المجتمع العربي والتي نتجت بشكل رئيس
وأساسي من ظلم الحكومات للشعوب ومخاطبتهم لهم بخطاب الظلم وعصا القمع. الكاتب شدد
كثيرا على تسرب القمع هذا، بل وذكره كثيرا في ثنايا صفحات كتابه فمن عشر ومئتين
صفحة وردت كلمة (قمع) في ما يقارب العشرين صفحة([2])
بلفظها الصريح عوضا عن معانيها المجازية أو المستنبطة وعوضا كذلك عن مرادفاتها
مثل: سجن، منع، استبداد، ظلم. وفي الكثير من أرائه التي نثرها نجد أنه يعيد أساس
الظاهرة المشاهدة إلى خبايا اجتماعية ونفسية مردها القمع النظامي، ومن الأمثلة على
هذا الرأي نجده يتناول ظاهرة تحطيم الممتلكات العامة ثم يتبعها بقوله: "هذا الخوف ينمي الشعور بالعدائية للسلطة
فيتحول الأمر إلى الانتقام من الممتلكات العامة على أساس أنها ملك للنظام، ينتقم
سلبيا من السلطة القمعية فيدمر بانتقامه وطنه ومجتمعه بدلا من أن يدمر السلطة
نفسها"([3]).
وفي موضع آخر يشيد العلاقة بين الاستهتار والغرور والاسلوب الهمجي المشاهد على
شخصيات العاملين في المطارات -التي تُعد هي الواجهة الأولى لقدوم المسافر- أثناء
عمليات التفتيش وبين قمع النظام: "تلك صورة مؤلمة تفضح النظام بكامله، النظام
السياسي والاجتماعي والأخلاقي، وتُبين كيف يتلازم القمعُ مع عدم الشعور بالمسؤولية
تجاه سمعة الوطن وتجاه الآخر كإنسان صاحب كرامة"([4])
. بل وينتهي بحكم قوي نصه "لا أستطيع الفصل بين القمع والشعور
بالمسؤولية في المجتمع العربي"([5])،
وهو يقصد من وراء هذا أن القمع إذا اشتد تراخت معه حدُّ العدم مشاعر المسؤولية
داخل الفرد. وفي هذا صوابٌ كثير وإن كان أحيانا يُحمّل الفرد حياءً بعضا من
مسؤوليته عندما يقول: "إنني أُضيف أن الناس في الوطن العربي يُخبئون الحقائق
التي يعرفونها حق المعرفة"([6]).
وإذا أمعنّا النظر في هذه الجملة فسنعود معها وبها إلى مبدأ القمع والخوف من
النظام إن تجرأ الفرد وأعلن عن الحقيقة.
أرى أنه من المحتم ذكر ذلك الفصل الصغير الذي
عقده المؤلف في بداية كتابه عنونه بثقافة الأنا وثقافة الآخر، ومراده أن يرسم
خطوطا عريضة تساعد في فهم الكتاب ومنهج المؤلف، خطوطٌ تنطلقُ من نظرة (الأنا) إلى
(الآخر)، فبحكم ثقافته اليابانية المنغلقة على نفسها يذكر أن الفرد الياباني منطوٍ
على نفسه، منكمش تجاه الآخرين ولا يرى في (الآخر) إلا بعداً غيبياً ولا يَعدُّ له
وجودا موضوعيا حيا، فالموقف السليم في التعامل البشري أن نرى الآخر موجودا وجودا
حيا مثلنا تماما ولا نحكم عليه إلا من خلال ثقافته هو، لا من خلال ثقافتنا نحن، ثم
ندرك أن علينا تقبل المجتمعات الأخرى كما هي دون أن نشوهها أو نُخفض من قيمتها على
ضوء قيمتنا نحن، وعلينا إذن أن نرى المجتمعات الأخرى كما هي ونقبلها كما هي عليه ([7])
. وهنا أطرح سؤالا نعود إليه مرارا في إيغالنا بين طيات الكتاب وهو هل تمسّك
الكاتب بهذا القانون ونجا بنفسه من شرائك التحيز ووعورة الحكم على الآخر بحياد؟
يبدأ فصله المعنون بتجارب وأفكار ليسرد
بالعين اليابانية المظاهرَ العربية المُشاهدة، ومن المُلاحظ هنا أيضا اتكاءه وبشكل
كبير على مبدأ (القمع) في تفسيره لظواهر مثل الخوف، والرشوة، وتقديس السلطان،
ونجاة المسؤول عن العقاب، والعنصرية العربية الداخلية، وتحطيم المواهب الطفولية،
وقمع الأطفال، وفرض الملابس، ودور الكُتاب والمثقفين، ومبدأ الشرف العربي، وانعدام
الثقة. ففي ثنايا الأسطر يبدو لي أنه ضعف وانهار أمام صخرة التحيز أثناء محاولته المستمرة
البقاء حياديا بشكل كامل، ولكن العزاء أن الطبع البشري في أصله لا يملك من الأمر
شيئا أمام ضغط الثقافة الشخصية والأيديولوجيا المتحكمة، فحتما أي شخصٍ لا يقوى
الجلوس كامل وقته على عرش الحيادية المثالية. ومن أمثلة هذا ما ذهب إليه أن العربي
يتفاخر ويتبارى مع غيره عند امتلاك سيارة حديثة وهذا التفاخر يتحول إلى تعالٍ على
الآخرين واضطهاد لهم مع أن ملكية السيارة في البلدان المتقدمة صناعيا ليس امتيازا
ولا يختلف كثيرا عن ملكية دراجة عادية ([8])
. فإن كان الشق الأول من حديثه مقبولا ومشاهدا واقعا ففي الشق الثاني تجاوز كبيرٌ
لظاهرة المادية الغربية المتوحشة، فالغرب أيضا بماديته الثقافية يرضخ عليلا مكلولا
تحت نيران المظهر والجاه والامتلاك والهرولة اللاهثة وراء أحدث موضة وأسرع وجبة
وأفخم ماركة وأضخم صيحة وأغرب تسريحة تحت أسباب كثيرة منها الرغبة في التسلط على
الآخر.
أجحف المؤلف أيضا وتناسى مبدأ (الأنا) و
(الآخر) عندما حكم على الأنثى العربية والجنس بحكم ثقافي ياباني بحت، وأطلق الكلام
على عواهنه ظنا منه أن الجمال الأنثوي خُلق ليُرى لا ليُخبأ، وإن كان عاد في صفحة
أخرى وتمثّل نظرة الاحترام العربي للأنثى، نظرة الاحترام المعتمد على إنسانيتها لا
نظرة الاستغلال المادي لجسدها. يبدو أن هناك خلطٌ ظاهر عند أغلب المجتمعات الغريبة
عن العرب في نظرتها لملابس الأنثى، وقد تبدّا لي ذلك عندما استرسل المؤلف في
المقارنة بين ملابس الفتاة اليابانية وملابس الفتاة العربية مضمنا حديثه أن لا
وجود لسلطة تشريعية قانونية تفرض على الفتاة اليابانية اختيار ملابسها على عكس
الأنثى العربية المضطهدة –حسب رأيه- تحت نيران فرض الملابس، ثم قال "عندنا في اليابان قيود صارمة على لباس موظفي
الشركات والمؤسسات الحكومية، وفي المآتم ما زال الناس يتقيدون بصرامة اللون الأسود"([9])
. فالمؤلف هنا تغافل عن أن الفتاة التقدمية تنازلت عن سيطرة المجتمع على ملابسها
واستبدلته بسيطرة الشركات والمؤسسات فأنا لا أرى هنا أية حُرية مطلقة بل هي سلطة
أخرى، وعزز موقفي هذا حينما أكمل يقول: "والفتاة الفرنسية الجميلة ترتدي ملابس بسيطة،
لتظهر جمالها بوضوح، هذه نقطة متقدمة علينا وغائبة بالكامل عن المجتمع العربي"([10])
. فالفتاة اليابانية استبدلت سلطة ورأي الثقافة الفرنسية بسلطة ورأي المجتمع
الياباني، لا حرية أرى، إلا إذا وافقني الكاتب بأن الفتاة العربية اختارت من
نظامها الثقافي والديني مقياسا لحريتها في ارتداء ملابسها عوضا عن المقياس
الفرنسي. ومما أثار استغرابي حقا قوله في معرِض حديثه عن التسلط السلطوي الحاكم:
"ولذلك قال بعض الحكام العرب قديما بألوهيتهم أو قال عنهم الناس" ([11])
، لا أعلم حقا من أين جاء الكاتب بهذا الحكم الفصل إلا إذا كان ممن يرى أن
الفراعنة والفرس والآشوريين والبابليين من أفخاذ العرب وممن تربطهم مع العرب وشائج
النسب وعروق الرحم. أما عندما تناول الشرف وأطلق على العربي صفة أنه مُصاب بعقدة
الشرف، فأيضا هو هنا تخلى من مبدأ (الأنا) و (الآخر) فلو فصل المؤلف بين شخصه
وثقافته لاتضح له بما لا يدعو إلى الشك أن العربي لا يصف الشرف بالعقدة، بل يراه
فخرا وحِرزا يُدافع عنه ويحميه منطلقا من عقيدة تزيح تهمة العقدة، وعادة تطرد عيب
الدفاع. وقبل أن أنتهي من هذا الفصل أود توضيح أن من الأمور التي أرهجت نفسي تلك
المقارنة التي يقحمها الكاتب بين الفينة والأخرى، وليس المقارنة هي ما أقلقتني في ذاتها
بل ما عُلق على كفتي الميزان، فحينما يُختار أسوء ما عندنا وأفضل ما عندهم هنا
تسقط العدالة. وكمثال على هذا قوله: "نحن نستغرب ظاهرة مديح الحاكم"([12]).
فالقياس والمقارنة كانت بين ملك عربي ورئيس وزراء ياباني ولو كانت بين حاكم عربي
وامبراطور ياباني لكانت كفة القياس اختلفت قراءتها، فالمؤلف يعلم أن امبراطور
اليابان من نسل آلهة الشمس في معتقدهم ولا يُنجيه من المقارنة أنه مسلوب القدرة
السياسية، وهذا لا يعني قطعا أنني أتفق مع قضية تقديس الحاكم ومدحه الغالي
والملموس واقعا.
الحق أن المؤلف أجاد في نثر مشاكلنا الداخلية
أمام نواظرنا لعلنا إن تبيناها شرعنا في محاربة الفاسد والدخيل منها بل وأجاد أكثر
ونكأ جرحا غائرا في صدري أثناء حديثه عن انعدام الثقة بين العرب فطرح أسئلة موجعة
كسؤال هل يثق الآباء بأبنائهم؟ هل يثق المواطن العربي بحكامه؟ هل يثق المواطن العربي
بالصحافة؟ هل يثق الفلاح بالتاجر؟ إلى آخر هذه السلسلة من الأسئلة الموجعة
الجارحة. إن الثقة لا تستورد ولكنها تنبت في النفوس وتنمو برعاية المجتمع كله،
فمتى تعتمد المجتمعات العربية على رباط الثقة([13])
.
3.
قضية فلسطين
بعد هذا الفصل الصادق في أغلبه الموجع في
جملته، انتقل بنا المؤلف إلى جرحنا العميق وقضيتنا الكبرى وسياط خيبتنا التي ما
زالت تلهبُ جوانبنا بلهيب سياطها وعذاب لسعاتها، قضية فلسطيننا، تلك القضية
الرابضة على صدورنا منذ عقود، رابضة لتظل شاهدة على عجزنا عن مداواة جراحنا عجز
الكلب العقور عن لعق جراحه، فلا نحن أزحناها بحلها ولا نحن عملنا لإنقاذها بل
اخترنا وعن عجز أن تكون لقمة نلوكها في مجالسنا ومائدة يقضي سمار العرب الليالي
حول محيطها. تلك القضية التي علِم اليابان حقيقتها بفضل الروايات والثقافة
الفلسطينية، فلا فضل لإعلام عربي أو لصوت حاكم صادق، كان موقف الكاتب من القضية
واضحا بينا يقول: "إن الموقف من القضية الفلسطينية مرتبط بمسألتين جوهريتين
هما: العدالة ووعي المسؤولية، ومن فكرة العدالة ووعي المسؤولية كونت موقفي من
القضية الفلسطينية، لست ضد حق اليهود في الحياة الكريمة ولكن دون أن يكون هذا الحق
على حساب شعب آخر"([14])
. لا حظ هنا كلمة المسؤولية التي هي نابعة من مسؤولية كل ياباني عما يُحيط
به، وهذه ذات المسؤولية التي يتلبسها العامل الياباني عند أداء عمله داخل وطنه،
الياباني مهووس بالمسؤولية الملقاة على عاتقه وهذا سرٌ من أسرار نجاحهم على
المستوى العالمي.
4.
مرحلة الصحراء
انتقل مؤلفنا إلى الصحراء والبداوة التي سلبت
لبه وأثارت بطبعها الواضح المتسع شجون نفسه إلى العودة إلى طبيعته البشرية بعد أن
سرقته الحداثة وتقنياتها والعصرنة وهشاشتها، وجد في الصحراء تلك الأم الحنونة على
ابنها المغترب المسافر بحثا عن وجود، وجد في الصحراء عطف الطبيعة على نتاجها وعشق
التراب لأصله. إن كانت المدنية العربية المشوهة قد أثارت في نفس الياباني بعض
الاشمئزاز والرأفة فالصحراء أجلت عن لواحظه تلك النظرة بل وانتزعت من قلبه جذور
حُبِّ تقدم اليابان فبدا لنا ذلك الإنسان الضجر من الحياة الحديثة الشغوف بالهدوء
والخلود وسوط السكينة. بدت له المقارنة ظلما على موطنه، والحكم جورا على بلده،
فسكت وحطّم ميزانها. ما أضعف الإنسان المغرور بالحداثة المزيفة عندما ينبهر ويذوب
فوق الرمال الصادقة "لم أذهب إلى الصحراء وأدب الصحراء العربية بحثا عن الغرابة،
بل ذهبت باحثا عن المعنى....المكان الصحراوي هو في صميمه بحث عن الجوهري أو بحث عن
الحقيقة"([15])
. وشائج من نسب وعلائق من هيام وروابط من أخوة تربط بين الإنسان والمكان اللائذ عن
حداثة الإنسان، هذه هي الصحراء التي وجدها نوتوهارا في بادية الشام ورمال الطوارق.
وجد فيهما البدوي الفرد الذي عرض نفسه للطبيعة بلا غطاء، وجد تلك الحياة التي رسخت
عند البدوي ذلك الشعور بعدم الملكية، "إن التنقل الدائم يفرض على الفرد أن يحتفظ
بما هو ثمين وأساس لحياته"([16])
، "فالبدو لا يطورون حياتهم لأنهم يعتقدون أنها مكتملة لا ينقصها شيء وأية
إضافة ستكون تنازلا أو انتقاصا من حياتهم"([17])
. "إن حياة البدو تنبهنا نحن الغارقين في الحياة الاستهلاكية وتفتح عيوننا على
ضرورة مراجعة حياتنا وعلى ضرورة النظر بعقل ناقد متسائل في أساليب العيش التي
تسيطر على مجتمعاتنا"([18])
.
في هذه المرحلة الصحراوية من حياة الياباني
لم يعد ينظر إلينا من خلال ثقافته بل تجرد منها تحت سطوة الأرض البكر والعادات
العربية الأصيلة، والتي كان ينظر إليها بأعين هي أقرب من أعين الوليد حين تتفتح
على كون محيط به ينسلخ عن محيط الرحم المُظلم، فتتجلى له الحقائق بمنظور جديد
وألوان خاطفة. أظهرَ المؤلفُ من مسلكٍ غيرِ مباشر الفرق بين التمدن العربي
المُقلَّد المشوه وبين البداوة في عروبتها اللاحبة، ويتبين هذا الفصل أكثر بيانا في
فصله المفاهيمي بين العربي المتمدن والبدوي الأصيل في وصفة السرية إذ يقول: "المواطن العربي يُخبئ الحقائق التي يعرفها حق
المعرفة"([19])
، وقوله "لذلك ليس عند البدوي أسرار ليكتمها، أكاد أجزم أن البدو ليس عندهم اهتمام
جدي بالخصوصية السرية" ([20])
، وأيضا في مقارنته غير الواعية بين البدوي "وعي الشرفِ عقيدة عندهم"([21])
وبين العربي اللاهي المنغمس في الملذات خارج بيته "لقد بدا الأب الذي يمثل في بيته الاستقامة
والأخلاق والحفاظ على كل مظاهر الشرف"([22])
، ويبدو لي أن سر وكنه هذا الفصل في نظري نابعٌ أيضا من منظوره للقمع النظامي،
فالبادية والصحراء معزولتان منحسرتان عن قمع النظام، وقوى موقفي قوله: "أما البدوي فقد حرر نفسه من السلطة البشرية
ولكنه قبِل أن تظلمه الطبيعة"([23])
وقوله "البدو لا يتبَعون لأي سلطة سوى سلطة الصحراء نفسها، أي سلطة الله"([24])
5.
المرحلة الأدبية
في أوضاع القمع والاستبداد العربي يقول: "في أوضاع كهذه ماذا تنتظر من الكاتب؟"([25])،
"اكتشفتُ أن الكُتاب النجوم يتكلمون كأنهم سلطة، فتجلس مع كاتب يتحدث عن
الديموقراطية بلا تعب ثلاث ساعات ولا يعطي مجالا لأحد من الحاضرين بالكلام، عمليا
هو يمارس الدكتاتورية أو سلطة النجم"([26])،
ولكنه استبعد من هذا الحكم ومن هذه الطائفة عبد اللطيف اللعيبي من المغرب و ابراهيم
الكوني من ليبيا ويوسف إدريس من مصر، لماذا هؤلاء من دون غيرهم؟ عوضا عن أدبهم
الجميل فقد شده لهم مقاومتهم للسلطة النظامية واتباعهم لسلطة ضميرهم الأدبي، فهم
يحلقون في سماواتهم الخاصة، وحريتهم الأدبية من غير خوف ولا ريبة، هذا هو ما
ينتظره الشعب ممن ألصق لقب "كاتب" بنفسه.
6.
رَوْحَة
بعد هذا العرض لأهم ما جاء في الكتاب والذي
أهفو ألا يكون مخلا، أرى أنه من الضروري عدم الحكم على المؤلف على أنه رحالة قام
بدراسة علمية على المجتمع العربي، فما هو برحالة ولا هو تعمد الكتابة، فقد أسقطه
حظه في طريق العربية والعروبة فأبدى لنا ما رءاه وما تطلبته منه مسؤوليته كأستاذ
للأدب العربي في جامعة يابانية، فما رأى غير ما هو بيننا كامن من ظواهر قد ننتبه
لبعضها وقد يخفى علينا بعضها الآخر بحكم العادة والاعتياد، فهم لم يقل غير أن رجال
السلطة وأقرباءهم والتابعين لهم من الحاشية فوق القانون، وأن الحاكم العربي يحكم
مدى الحياة في الدولة الدينية أو الملكية أو الجمهورية أو الإمارة أو السلطنة، وأن
الناس يدمرون المرافق العامة، وأن أجهزة الأمن العربية تراقب الهواتف والأفراد
والبيوت وحتى الهواء بلا إذن ولا محكمة ولا قانون، وأن القمع يبدأ من سلطة الأب في
المنزل إلى سلط المعلم في المدرسة وهكذا يألف الطفل القمع كجزء من وجوده، وأن المرتبات
متواضعة للغاية والعلاوات غائبة والتشجيع غير موجود بالإضافة إلى غياب التقدير
الاجتماعي لمكانة المعلم، وأن الأطفال في المدن العربية يلعبون على الأرصفة وفي
الأزقة والشوارع أحيانا، وأن رعاية الطفولة ضعيفة للغاية بدءا من الأبوين وانتهاء
بمؤسسات المجتمع، هذا ما قاله فقط، فمن
سوء الفكر قول أن الكاتب لم يزر كل المجتمعات العربية لعله يأخذ انطباعا شاملا،
فهذا خارج حدود الكتاب وهدف المؤلف. كما أن الكتاب لم يظهر لي ذلك التعصب الذي
يزري بالعرب، المؤلف فصل بين فئتين هو رءاهما وعاش بين ظهرانيهما وأبدى ما طغى على
كل فئة من دون أن يستقرأ كل جوانب حياتهما، فالمدن العربية تئن وتصرخ والبداوة
والصحراء ساكنة هادئة، وبلمِّ شمل الجزئين تكتمل تلك الصورة العادلة، وهذا لا يعني
قطعا أن التمدن خالي من المزايا أو أن البدو خالي من العيوب بل كل مزمارٍ بما فيه
يُطرب، وختاما فالمؤلف قد طرح بين ثنايا عطف الكتاب -بصورة غير واضحة للقارئ
المستعجل- بعض النصائح لمن بحث عن العلاج والدواء منها :
1.
من أسباب علاج القمع البدايةُ بالنقد الذاتي
للفرد والبحث عن نقاط قوته وضعفه الشخصية
2.
على الشعوب مهمات جسيمة مثل البحث عن العدالة
الاجتماعية والوحدة العربية والنهوض الصناعي وبناء علاقات جديدة داخل المجتمع.
3.
التشدد في التعليم حد الإرهاق فهذا من أهم
دواع الفلاح. . .