راعٍ للغنم على قمةٍ شاهقة تخترق السحاب تارة ويلامسها تارة أخرى، يأخذني غروري لرفع
يدي لعلي أبلغ السماء، تلامسُ وجهي ذرات الغمام فيرتعش جسدي من نسمات بردٍ لا يضر،
للمكان رائحة امتزاج ألوان الطبيعة، فعشب أخضر مع ورد أصفر يبدو ويستترُ بحياء خلف
ستار ذاك الغمام، تتراقص الأغنام نشوى وفرِحة، صغير يُشاغب بين أقدام أمه بحثا عن
قطرات الحياة، وأخرى تقفز لاكتشاف معالم الكون الجديد، عشُّ حمامةٍ قابع في هدوء
معلقٌ في السماء فيه ثلاث بيضات، تصمت صاحبته وتسكن مخافة أن تكتشفها يد الإنسان
فيُحيل لحمها مشويا، وبيضها مقليا، في حفيف الأشجار حكاية، وفي سكون الأحجار
رواية، حكاية تتحدث عن عزلة عاشت بعيدا عن الضجيج، ورواية تحكي فصول الانتصار على
الإنسان، عند الأصيلِ أشياءٌ تتحركُ من حولي تُلهمني الخضوع، وتزرع في قلبي
الهدوء، فيعلو حاجب الصمت وتتردد على الأذن همسات السكون، للسكون ترددات ملونة لا
يدركها إلا من حبَّذ عزلةَ الاجتماع، ترددات لا تُدرك إلا بالانفصال عن ترددات
الاتصالات وشبكات الإزعاج، أُلقي برأسي على وساد أخضر، أشارك الطبيعة مخدعها، آمل
أن أسمع دبيب النملة عائدة لجحرها، تلتصق مفاصل الجسم الترابي بأصل التراب، تحتجب
السماء خلف الأشجار، تأتيك رياضة الاسترخاء رغما عنها، تناجيني الأرض أين أنت عني؟
أشَغلتك عني مراكض الحياة أم آثرتَ بدائل الزمان؟ تنسلُّ من جسمي شحنات طاقةِ
الألم، وتغادرني رعشات التوتر والقلق، علمتُ أن الأرض كانت عيادة الضعفاء، اقتربت
أغنامي أسمع صوت احتكاك أسنانها تقتطع العشب، هو كوكب العطف وبذل الحياة رغبةً في
استمرار الحياة، لن تتوقف الحياة مادامت هناك أرضٌ تبذل، زخات المطر تتساقط من
كفوف الملائكة، لا أريد النهوض، في الاستلقاء نعيم آخر، تدوي أصوات الرعد وتومض
أضواء البرق من فوق جفونٍ مغلقة، تسقط قطرة، يتلوها قطرة، حلَّت رحمة الرحمن، دعني
أغرق تحت ماءٍ لم يعرف النجاسة ولم تعكره مصانع تكريرٍ أو تحتجزه سدود الإسمنت،
كأن السماء اطَّلعت على صدري فأرادت منحي كل ما أريد، بل علمت حاجتي فوهبتني ما
أحتاج، مع قطرات المطر شُيد جسرٌ بيني وبين السماء، فسيح وسيع معطاء أراه وإن
أغلقتُ عينيّ، تتدفقُ معه أحاسيس الأمان، شيء متصلب داخل صدري، أشعر أنه غادرني،
عند الأصيل كانت الطبيعة تعزف معزوفتها الملائكية، كنت في شهر أُغسطس، ارتجفت من
البرد، ولكنه كان بردا منعش، مدّني بالقوة والنشوة، مدّني بالأمل، أوهام كانت
تتورم داخل رأسي لم أعد أشعر بها، كوابيس كانت تجثم على صدري لم أعد أعلم مستقرها،
الأصيلُ هو وقت عمل عيادة الضعفاء، أيقظتني عجلتي وتسرعي، فتحت عيني، تبدل الكون
والسماء غير السماء، لبست الأرض لباس الماء، كان كل ما حولي يجري جريان الأودية،
السيول تقفز من علوٍ إلى دنو، مع قفزها صوت ارتطام الماء، قد غادرت أغنامي، لابد
أنها التجأت لمسكنها، وقفت أغسل رأسي تحت صنابير السماء، وضعت قدمي فانزلقت، وقعت
على ظهري، هذا ما كانت تشعر به "هايدي" في زمن الطفولة، رائحة الطين،
هذه هي رائحتنا قبل أن نعرف البصل والثوم وأسواق باريس، استقمت وألقيت رأسي للخلف،
اغسلْ أيها المطر أدران علب كبريت نعيش فيها، شرَعتْ الأماني تملي حضور من أتمنى
حضوره، الأماني تكون وسائط السعادة، لوقع أقدامي ارتطام بالماء، تخضبت بالحمرة
وعلاها الطين، كان البيت لا بالقريب كما أنه ليس بعيدا، مع كل قطرة تسقط كانت
النفس تعود لمسارها القويم، غلبَ الظلام انتظاري لقوس الألوان، وعُدت لأوكار البشرِ
مطمئنا لعزلةٍ اخترتها، لم يشاركني فيها سوى قطرة مطر، وترنيمة طائر، وأوحال طين.