ثمار رحلة عبد الوهاب المسيري الفكرية للدكتور ( عمرو شريف )


 
الدكتور عبد الوهاب المسيري عشقتُ فكره قبل أن أقرأ له، وجذبني نتاجه قبل أن أطّلع عليه، ذلك الدمنهوري النابغة، والمصري العبقري، والمفكر الجهبذ، والمسلم المُفكر. عاش صراعاً فكرياً تمخض عن عقلٍ جبار، ورؤية سديدة، وفكر ثاقب، ولمدة ربع قرنٍ من الزمن بدأه بسؤال الشك والحيرة والبحث عن إجابة لتلميذٍ يتملكه الإلحاح فاصطدم بمجتمع يحفظ ولا يُفكر ويردد ولا يُجدد. كانت حيرته عن الشر في العالم وما الحكمة من وجوده ولماذا الحروب والدواب والأفاعي والحسد والاستقواء والظلم وعن أصل الكون والإنسان. تساؤلات بديهية في مثل عمره عصفت به وحيداً كما تعصف الرياح بخرقة بالية، فكان الإعلان بمُقاطعة الصلاة والصوم إلى أن يجد الإجابة. وكأنه وهو في وسط هذه العواصف إذ تلقته ( الشيوعية ) بفكرها الساذج وإجابتها المريحة ونموذجها المادي المُختزل فوجد عندهم بعضا مما يريد وانخرط في الماركسية ومبادئها فأصبح مادياً ينظر لك شيء من منظار لينين واستالين.
ما كان المسيري يعيش عيش العبث الفكري والتقليد الأعمى حتى وهو في أحضان الماركسية فاصطدم بالتناقض بين المبادئ والواقع والمناداة بمشروع وتطبيق نقيضه. كان يملك المسيري نموذجا معرفيا واضح الأهداف بيّن الاسلوب فلم يقبل الماركسية، وعاد بالتدرج إلى ثنائية الإنسان ( المادة والروح) ثم الإقرار بالمصدر الغيبي ( الإله ) ثم النماذج الدينية واستقر به المطاف في أحضان الإسلام من جديد. كانت رحلة عقلية صرفة نابعةَ من التأمل والفكر والدراسة والقراءة والاطلاع.
في هذا الكتاب ( ثمار رحلة عبد الوهاب المسيري الفكرية ) يسرد لنا الدكتور عمرو شريف مائة وخمسين ثمرةً قطفها بيديه التي لا تخطئ الثمار اليانعة من حدائق المسيري الحياتية والدمنهورية والفكرية والتأملية و الترحال والهجرة إلى بلاد النور الأمريكية وكيف أن هذا العملاق المصري نزلَ بأرض الأحلام وشوارع التقدم وأنوار الحضارة فلم تُبهره ولم تنل منه بل كان ينظر لها بمنظار الواثق من نفسه، المتمكن من فكره، وبعقله الذي لا يقبل شيئا إلا بعد أن يعلم كيف؟ ولماذا ؟ ميز المسيري بين المادي والطبيعي وفرّق بين المتناقضات والتي كانت من فترة لأخرى تعصر به، فقد ذكر كيف أنه كان ينادي في مُحاضراته وينوه بمناقب الغرب المستنير وما فيه من تقدم وحضارة وكيف أن جانبه الآخر يعلمُ بأزمة الإنسان الحديث وتفتته واغترابه عن ذاته وطبيعته. عَلِم أن المجتمع الغربي قد اختزل نفسه في الإنتاجية وحسب، فالفرد فيه كالآلة يعمل لينتج فقط، وكلما زاد انتاجه زادت قيمته ثم إذا زالت قوته عن العمل أصبح كالآلة البالية المركونة في أحد المستودعات. وبسبب هذا المبدأ العقيم والنموذج المادي فالفرد الأمريكي مثلا يعيش كفردٍ دائم القلق أزلي البلبلة سرمدي الاضطراب، وهذا التذبذب في شخصه يجعله أكثر إنتاجيه على حساب الروح والحياة والإنسانية. فالتقدم العلمي الغربي مشبعٌ بالإيمان بمفهوم (التقدم) السريع بأي ثمن إلى أن تنامى هذا المفهوم وأصبح هدفاً بحد ذاته يحارب الأفواه المُتحدثة عن (تكاليف) هذا التقدم وغلاء ثمنه المدفوع من قيم الإنسان.
الإنسان عند المسيري هو أن يكون الإنسان كائناً حرا يصنع التاريخ وجزءً من الطبيعة ومستقلا عنها ولا يُمكن أن يُرد إليها، كائن له منتجاته الحضارية التي تمنحه خصوصيته القومية والإنسانية.
أما صراع المسيري مع الصهيونية فهي حياة بأكملها عاشها المسيري منذ صغره وحتى أن أهدانا موسوعته الشاملة الكاملة الماحقة الفانية للصهيونية (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية) والتي سلك فيها منهجاً مغايراً في التأليف، مع اتباعه لأسلوب التجديد والعودة بكل المصطلحات لأصلها من غير تزييف ولا نفاق، وليُعري هذه الصهيونية القميئة من انسانيتها المزيفة ومن حقها الدعائي الكاذب.
تجد عند المسيري منهجاً في الضبط قلما تجده عند غيره وهو التفريق بين المصطلحات الشائعة تفريقا علمياً فاحصاً فهو يخبرنا ماهي الموضوعية والموضوعاتية والواقعية والوقائعية والفكر والأفكار والحقائق والحقيقة، فله فيها فلسفة ممتعة جذابة تسلب العقول وتخطف الإدراك لتنير له دربه وتكشف له ما حوله فما يعود يمشي في دروب الظلام وصحاري القحط والوبال.
مما راق لي في قراءة سيرته الفكرية تفريقه بين العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية والتي فيها – ربما – بعض الحلول لبعض المعارك العصرية وهو أن العلمانية الشاملة أيدولوجية كاسحة لا يوجد فيها مجال للإنسان والقيم وتختزل حياة الإنسان في البعد المادي وحسب ، أما العلمانية الجزئية فهي تترك حيزاً واسعاً للقيم الدينية والإنسانية والأخلاقية المطلقة. أي أن تكون لديك القاعدة متينة من قيمك ومعتقداتك لمُعاصرة ما يدور من حولك من تقدم وحضارة. وأيضا ما ذكره عن حركة تحرير المرأة وأنها أصبحت حركة التَمركُز حول الأنثى وأن الأمر لم يعد حديثاً عن التحرر وإنما عن تثويرها ضد الرجل وعزلها عنه وأن الصراع أصبح بين الأنثى المسيطرة العنيفة المستقلة المتكبرة الباحثة عن المتعة وبين الأنثى اللطيفة المؤدبة الخاضعة وتكون النتيجة رجال يشربون المخدرات أو يراقبون تلك الأنثى من بعيد .

والخلاصة أن المسيري ارتحل رحلةَ أدرك من خلالها فشل ونقائض الحضارة الغربية وأن التعايش الثنائي ( الإنسان/ الروح ) هو الركيزة الأساسية لتعيش كإنسان إنسان. المسيري لم يرفض الحضارة الغربية برمتها بل يرفضها تماماً في قوالبها الجاهزة من غير طعم ولا رائحة والمفروضة فرضا على المجتمعات الإنسانية فهو يؤمن بوجوب أن نملك نماذجنا وقوالبنا الخاصة، لبناء حضارة مزدهرة تسمو بنا وتسمو بالبشرية جمعاء فنحن نملك العقل والمادة والروح والقيم.