الرهاب الثقافي








شنَّف الدكتور: سعيد الكملي سمعي وهو يقول: سألتني إحدى الأخوات عن الكتب التي أنصح بعدم قراءتها والتي تتضمن المخالفات والمنكرات؟ فقلت لها: أنتم هؤلاء الجيل اقرؤوا ما شئتم، لأنكم لا تفهمون ما تقرؤون فلا خوف عليكم. 
وعلى ما في هذا التعليق الطريف من صدق على ما فيه من قسوة، فهل نحن فعلا لا نفهم ما نقرأ؟ ليس على اطلاقه ولكننا لا محالة مصابون بعاهات أكثر خطورة من الغباء! ربما هو "الانقياد"، "التأجير"، "الخنوع"، لا أدري كُنهها حقيقةً ولكنها عاهات لا تخرج عن هذه الدائرة. نقرأ لكبار الأدب الحديث فنجد تعظيما لشخصيات سبقوا، وتهويلا لرواةٍ فنيوا، وتجسيدا لنقادٍ مُبالغا فيه. فلم نملك إلا الانقياد فنحن نقرأ لعظماء يتحدثون عن عظماء! أو لُذنا بالتأجير المبتدئ بالتمليك فنحن أمام كبار مُلاك العقار الأدبي! أو اكتفينا بالخنوع فنحن تحت وطأة تعصبٍ ثقافي يسحق كل متباهي، وسلطة تُخرج من دائرة اهتمامها من يتجرأ برأي مُخالف! فنصاب بالانبهار بمن نتوهم أنهم عظماء، ويتملكنا الرهاب الثقافي الذي تتساوى عنده أصالة الأفكار مع سفالة المعنى، فيستشري بين أساتذتنا أننا لا نفهم ما نقرأ، وأن مطالعتنا مجرد دخان ينبعث من فم مدخن شره.
ما إن نقرأ عبارة لعظيم حتى نسجد اقرارا بصحتها، من غير تتبع، ونضعها نبراسا لا يُنال منه، ولو كان من سراب،  وهذا هو ما قصده الدكتور سعيد الكملي بحديثه، ونحن نستحق ما قيل فينا إذ سلمنا عقولنا لكبار النهضة الحديثة ولرواد السلطة الثقافية واستسلمنا لآرائهم مع فضلهم الشامخ ونداهم الماجد وسبقهم الشريف. لم نعد نقوى على ابداء آرائنا خوفا من أن نُخالف العُظماء، فإذا قيل أن روسو مُلهم، وهيجل نابغة ونيتشة عبقري ودوكنز آسر ساحر، فينبغي علينا أن نردد ما قيل لئلا نُتهم بعُقم الفهم واجداب الفكر. لا أحرض هنا على العناد من أجل العناد، ولكن الشيء الجميل الآسر لعينيك قد لا يبدو لي إلا ركاما من أحراش، وكلا النظرتين لا تسلب ذلك الشيء حقيقته، فدعونا نُصرح بآرائنا فهي مجرد آراء.
في ثقافتنا المحلية المعاصرة إذا وردت أسماء أوائل المفكرين والرواة والقُصّاص والأُدباء فإنها تُقبِلُ ومعها الكثير من وشوم الاستغراب ووسوم التحيير ومتضادات الآراء المتراكمة في النفس مع أراء استشفيناها من حروفهم في ليالٍ سامرنا النجوم بحضورهم بين طيات كُتبهم، وأيضا يُقبلُ معها الخوف المتجذر والرهاب الثقافي الذي تتراعد معه الفرائص من قيود التسلط الثقافي. لا نستطيع أن نُحرر شطرَ رأي جديد في هذه القامات الورقية حتى يكون الرأي جهالة، والحصافة حماقة، ثم يقام فرحٌ ومرح بتقليدنا قلائد الرجعية وخَواء الخواء. ولكن هذا لا يُعفينا من اقتحام غمار هذه الأمواج، وتحطيم تلك التماثيل، وولوج حربٍ ولكن بسلاح، بسلاح العلم لا بأخشاب العناد، وتحت سنا الفهم لا تحت عتمة الانبهار.

وهمُ الجاهلين







يُقال أن نقشا على جوازِ السفر الأمريكي يقول " حامل هذا الجواز سنحرك من أجله أسطولا"، لا أعلم عن صدق هذا فجُل رفاقي عروبي المولد والمنشأ، فعلى فرض صحته، فأنا أكيد من أنه شعارٌ براق انتقائي يعملُ في تجييش النفس أكثر من وقعه في الواقع، مثله كمثل الديموقراطية المشوهة أو السماحة الانتقائية أو التلطُّف الخبيث. حادثٌ من حوادث التاريخ كفيلٌ بكشفِ السترِ الحاجزةِ عن ذاك الوجه البائس والقناع المستهلك، وشقاوةٌ طفل مدلل تُجلي عما يختبئ تحت المنضدة. تعالوا معي لنرى هل سيكون خلف أروقة البيت الأبيض للدم الأمريكي من ثمنٍ فعلا ؟ وهل هناك ديموقراطية حقة في بلاد الهنود الحمر؟ 

في عام ١٩٦٧ وفي حُمى وطيسِ حربِ اسرائيل ضد العرب والنكسة المشؤومة، وأثناء ما كان عبد الناصر تاركا طائراته صيدا سهلا للوهم الإسرائيلي، اقتربت من شواطئ الإسكندرية سفينة تجسس أمريكية تدعى "USS" ليبيرتي، مطمئنة آمنة وهي ترى حليفها الأصغر يمارس ألعابه المفضلة فوق رمال سيناء، رافعة علمها ومُعلنةً عن نفسها بأنها "الأمريكية" التي دانت لها بحار الأرض من أقصاها لأقصاها. كان الطاقم يتناول غداءه الشهي ويتلو صلاة الشكر، إذ بطائراتٍ تحملُ "نجمة سليمان" الزرقاء تحوم حولهم، وتتطقسُ طقوسهم، حامت وجالت، وفي تشكيل هجومي انهالت عليهم القذائف والرصاصات، دوي الانفجارات أشد من دوي الغضب، تَخرّق البدن، وانفجرت خزانات الوقود، تناثرت الأشلاء، طغت الدماء، تزلزلت السفينة، انعزل الطاقم، ساد الصمت، بقيت مناظر الدماء، ورائحة الشواء. موجةٌ هجومية أخرى تأكل مقدمة السفينة، تشْتَعل النيران، تتطاير الرؤوس، تلحقها الأيدي والأقدام، لم يبق إلا الغرق، تُبحر الزوارق اليهودية، تقترب من السفينة، إسرائيل عازمة على إغراق حاضنتها، ينطلق الطوربيد، يبحث عن السفينة، أصابها في مقتل، يفغرُ البحر فمه، يصمت الرعب، يتفاجأ ساسة البيت الأبيض، ارتسمت علامة الاستفهام فوق رأس الرئيس "ريتشارد نيكسون"، يأتي الأمر من إسرائيل، أسكتوا الإعلام فهي مجرد غلطة، إن كنت تريد الفوز برئاسةٍ أمريكيةٍ أخرى. ماتت الديموقراطية على ولادة الرأس مالية، والثمن جسدُ خمسة وثلاثين جنديا على السفينة. هنا اصطدمت الحريات السياسية بسلطان رأس المال فعصف بها وأثبت أنها "وهم الجاهلين"، أُغلقت القضية وزادت المعونات الأمريكية لإسرائيل بشكل خيالي، هذه هي حقيقة الرأسمالية عندما تُوهم الجميع أن للفرد حريته، بينما هي من تضع أمامه الخيار الذي يجب عليه أن يختاره من غير وعي، لم تُحرك أمريكا اسطولا لحماية أفرادها، وفاز نيكسون بولاية أخرى لم تدوم.