خرج من بطن أمه مجبولاً على ( الأخذ ) . فلا يعلم إلا ( الأخذ) .
يأخذ بالثدي فهو ملكه . ويأخذ بالحضن فهو له .
يأخذ لعبة رفيقه . ويستحوذ على اللاشيء فكأنه ملَك العالم. يأخذ أقلام
أبيه ليرسم نفسه . ويأخذ حلوى أخيه ليشبع لذته . ويرى أن أهم شيء في الوجود شخصُه.
يكبر قليلا فيشعر بأسرته ويرى رفاقه ويجلس بجوار صديقه في صف التعلم .
يكبر فتبدأ ( أنا) بالضمور وتبدأ ( نحن ) بالنمو.
يرسخ في ذهنه أنه ليس وحيداً في
الكون الكبير . وأنَّ هناك منافع ومصالح مع الآخر ، وهناك مسؤولية ملقاة على عاتقه
، وهناك أمة تنتظره , ولكنه لا يرى أبعد من أنفه فقًصُر به النظر وضاق به التفكير
نحو أكل طيب ، وشرب طيب ، وملبس طيب . فجعل عمله وسعيه ولهثه ليغنم هذه الطيبات فقط
.ولم يعلم أن هناك أطيب. فوضع أمام عينيه لوحة مكتوب عليها أن من جُبل على ( أنا )
يجب أن يحارب ( نحن) .
غلبه شيطانه وكبره وصغر نفسه فكابر وصارع وجالد الحياة لأن لا تصغر (
أنا ) وتكبر ( نحن ) . وجعل حدود العالم حدود نفسه، فلا يعنيه من حوله أشقوا أم
سعدوا ، أجاعوا أم شبعوا ، أبكوا أم ضحكوا . لا يحمل في قلبه إلا نفسه . ولا يحمل
في نفسه إلا حتفه .
نزع كل وردِ ( نحن ) الجميل الملون من بستانه . وأبدلها بشوك ( أنا )
البائس القاتم الباعث لمن يراها بضيق النفس و الخوف.
رسم لنفسه خطاً على الأرض يمشي عليه، جاعلاً في أوله ( أنا ) وفي آخره (
أنا ) .
استعاض خِرافه الأليفة بقطيع ذئاب لتهجم على حظيرةِ جاره . وتناسى
أنها ستعودُ مقطعة أوصال جسده. فلكل فعلٍ فعل معاكس له .
حياته أخذٌ خاصم عطاء ، إمساكٌ باغضَ سخاء ، طمعٌ مع تقتير ، جشعٌ عاشر بُخل.
همه جمع ماله ، وإرضاء ملذاته ، وملأ بطنه ، وإشباع شهواته، وري شوكه
.
عِشقه للذاته غلب حبه للحق والصواب، وهام بـ ( أنا) وتناسى ( نحن ) .
نضج الجسمُ واكتمل والنفس لا تزال نفس طفل .
لم يُسمع نفسه مصطلح ( أسرتي ) ( مجتمعي ) ( أمتي ) ( عالمي ) .
اختزلها في شهوة ، وسجن نفسه في شهوة ، وقتل نفسه بشهوة.