يحكى أن تاجر قماشٍ دخل سوق المدينة
فباع بضاعته كلها إلا الأقمشة السوداء، فشكا ذلك إلى صديقه "مسكين الدارمي"
فاحتال له بحيلةٍ لطيفة، وأنشدَ له أبياتا طلب منه أن يذيعها في المدينة قال فيها:
قُل للمليحةِ في الخِمار الأسودِ ،،،
ماذا صنعتِ براهبٍ متعبدِ
قد كان شمر للصلاة ثيابه ،،، حتى
وقفتِ له بباب المسجدِ.
وانتشر الشعر في شوارع الدينة وذاع،
فما ترك بابا إلا طرقه ولا سمعاً إلا ولجه، وما بقيت فتاة مليحة كانت أم غير
مليحةٍ إلا وذهبت تشتري خمارا أسود ليُقال لها أنتِ المقصودة بشعر الدارمي. وباع
التاجر بضاعته، وارتحل مسرور الخاطر ممتلئ الجيب.
هذا النص ظاهره طُرفة يخاتلها دهاء،
ومزاح في قالب خديعة، يُعربُ بجلاء عن قوة تأثير وسائل الإعلام وسطوتها على عقول
المجتمع وقوة تحكمها على اقتصاد السوق ومكسب التاجر.
أما باطن النص وخلف حروفه البريئة فهناك
مؤامرة وحشية وسطو غير مسلح، هناك رسائل موجهة لمجتمع مُستهدف يفطن لها من يفطن.
فتيات المدينة ذهبن للسوق وفي يقينهن أنهن في كامل حريتهن من غير إجبار ولا إكراه،
فكُنّ يتمخطرن في عرصات السوق تمخطر الظباء الآمنة، يشترين الخُمر السود وما دار
في خلجاتهن أنهن مُنقادات، لا يَملكُ أمرهن غير الدارمي ذاته.
هذا النهج هو ذاته ما تعتمد عليه
الديموقراطية والحرية الحديثة بزيفها وخداعها في توجيه عقولنا، فالشركات
الرأسمالية الكُبرى هي من تتحكم بفعالية في سياسة وثقافة كل المجتمعات.
أصاب خلل بسيط مطعما من مطاعم البيتزا
مما نتج عنه عجزُ المطعمِ عن صنع بيتزا الدجاج لمدة يومين، لم يرد صاحب المطعم
اضفاء منظر العجز على مطعمه أمام زبائنه المغفلين، فقط وضع عند واجهة المطعم
صورتين، إحداهما مُضيئة براقة بألوان جذابة وحجم كبير لبيتزا الخضار، تنتظم على
سطحها قطع الخُضار كما ينتظم الدُّرُ على صدر حسناء. والأخرى بتصوير مُبتذل مشوه
مُصغر لبيتزا الدجاج من غير إضاءة واضحة. لم يتعجب أبدا صاحب المطعم الذكي من أن
كل زبائنه خلال اليومين وبشكل تلقائي لم يطلبوا غير بيتزا الخضار.
نعتقد يقينا بأننا نملك حرية
اختياراتنا، ولكن هذا يتنافى مع مبادئ هذا العالم المتوحش، نحن فقط مجرد عبيد وإن تأزَّرنا
بالعِتق. عندما أرادت بريطانيا تدمير الدولة العثمانية دُمرت بأفواه البنادق العربية،
عندما أرادت الرأسمالية فوز أوباما بالانتخابات الرئاسية فاز أوباما، عندما أرادوا
نشر الأمركة قدموها لنا طُعما مع "همبرجر" لذيذ وفيلمٍ مُثير ودبابةٍ
قوية، أثارتنا الأضواء كما أثارت قبلنا "رفاعة الطهطاوي" و "طه
حسين"، كل هذا وغيره لعبةٌ يُتقنها الكبار فقط كما أتقنها "الدارمي"
في القرن الثاني من الهجرة.
.