الدكتور عبد الوهاب المسيري عشقتُ فكره قبل أن أقرأ له،
وجذبني نتاجه قبل أن أطّلع عليه، ذلك الدمنهوري النابغة، والمصري العبقري، والمفكر
الجهبذ، والمسلم المُفكر. عاش صراعاً فكرياً تمخض عن عقلٍ جبار، ورؤية سديدة، وفكر
ثاقب، ولمدة ربع قرنٍ من الزمن بدأه بسؤال الشك والحيرة والبحث عن إجابة لتلميذٍ
يتملكه الإلحاح فاصطدم بمجتمع يحفظ ولا يُفكر ويردد ولا يُجدد. كانت حيرته عن الشر
في العالم وما الحكمة من وجوده ولماذا الحروب والدواب والأفاعي والحسد والاستقواء
والظلم وعن أصل الكون والإنسان. تساؤلات بديهية في مثل عمره عصفت به وحيداً كما
تعصف الرياح بخرقة بالية، فكان الإعلان بمُقاطعة الصلاة والصوم...
رجالٌ من التاريخ

إن أردت التاريخ فهذا مجاله، وإن أردت الأدب فهنا منبعه
، وكأنك تشربُ من جدولٍ ماؤه التاريخ وحوافه الأدب. في تناغم عجيب وتلاحمٍ ساحر
بصنعة صانعٍ ماهر و مُحترف بارع. مع رجال من التاريخ و في ليلتين حلقتُ فيها مع
الشيخِ الأديبِ المرحوم ( علي الطنطاوي ) رحمه الله في حدائقه ورياضهِ الغناء وعلى
سفوحِ جباله الخضراء، يصعد بي واحداً ويهبط بي الآخر . حُزتُ الفوائد الشريفة
وقطفتُ الثمار اليانعة ونلتُ الربح الوفير الذي لم أجدهُ من مطالعةِ كُتبِ التاريخ
وتعقيدات المؤرخين، وزادني أن أذاقني إياها في كأس الأدب الطنطاوي الشفاف اللامع
وأسلوبه البليغ المُقنع الدامغ.
كتابٌ كان حلقاتٍ في الإذاعة السورية فطبعها...
رسائل الروح .. ( الرسالة الثانية ) .

مهجة فؤادي وعين قلبي :
أمانُ من الله عليكِ، و سلام من قلب
مجروح لقلبك ، وتحية من كبدٍ مكلوم تصلك في مأمنك وتمنحك مأملك، وشوق من الفؤاد
يحوم حولك حتى يتأبطك لهيبا و يلتهمك صبابةً. أتدرين أن بين الشوق والزمن خصومة
وعداوة ، فلا الشوق ينتظر الزمن ولا الزمن يعير الشوق اهتماماً. فلا رابط بينهما
كما ليس هناك رابط بين وقت رسائلي إليك وشوقي لك . فالشوق لك أثيث والحنين لك وافر
وفرة الزمن نفسه.
كانت قد ركدت مياه البحيرة وظهرت على
سطحها الطحالب، ثم جالت في السماء سحبٌ سود يعقبها سحب سود، مثقلة كأنها سمينة في
شهرها التاسع وسوط البرق يسوقها وسط دروب السماء وأزقة الفضاء حتى بلغت مكمنها
ونفذ صبرها وتعالت...
تلاطم دموع
.jpg)
جلسا بجانبي في الطائرة وكانا لم يبلغا الحُلم بعد، أخٌ حنونٌ وأُخته اللطيفة ، كان يطعمها ويتفقدها ويحرص على خدمتها واضحاكها، صغيرٌ كان بقلب أمٍ رحومة، صغيرة كانت بقلب معشوقةٍ جميلة، لا يبتغي منها الكثير ولا القليل ، ولا المكافأة ولا العطاء ، ولا المدح ولا السخاء. أخ مع أخته وكأنه العاشق مع معشوقته في لحظة اجتماعهما خلسةٌ عن الأعين أو زوجان في شهر عسلهما،، صغيران كبيران.
عندها استوضَحت أمامي منارات الأخوة ، وتجلت لي معاني اللحمُ والدمُ الواحد، وبانت لي قوة حبل القرابة . كان الساعدَ المُعين، والعين المراقبة، وكانت الصدر الحنون و الفراش الدافئ الوفير.
الأخ وآهٍ من الأخ. ومَن غيري يعرف...
رسائل الروح (الرسالة الأولى)

أتاني طيفُك سَحراً بأجنحةٍ بيضاء مستفسراً عني، ووجهه الوضاء عنوانه الشوق، ولهفته مُسطرةً بأحرف الاستغراب عن أي أرضٍ تُقلني وأي سماءٍ تُظلني؟ فعانقته عناق المُحب وودعته وداع الهائم ثم أخذتُ ظِلعاً من أظلُعي وغمسته في قلبي حتى ارتوى دما وكتبت أقول:
ملني الكوكبُ ومللته، ناجيته حتى سئم، وناظرني حتى كرهني، أرميه استفسارا ، فيجلدني سكوتا. ومع هذا أرتدي ثوب عِشقك الفتان المُوشى بخيوط الجمال. ملني هذا الكوكب بعد أن أحالني قطعةً ثابتة أبدية الجمود، غائر العينين، لا أعي إلا شيئاً ينبثق منكِ، فأراها نسمةً سابحة أو طيفاً خفي أو صورة علقت في الدماغ فاستَمكَنت وكَنَّت.
أحسبني بعد أن قذفت بي قذائف...
ِخِيْرَة

بالقرب
من غرفةٍ أسرتها بيضاء، منعزلةٌ في نهاية الممر، مضاءة بأنوار خافتة، تحومُ في
أركانها رائحة النظافة. كانت ساعات السحر المتأخر تعلن لحظات السكون القابض على
الملل.
وحدي
يلفني معطفي الأبيض الخانق لخصري النحيل مع تدلي سماعة الأذن المعلقة على رقبتي
المندس رأسها بين نهدي النافرين وصوت حذائي المرتفع يقرع بداخلي نغمات الأنوثة
الطاغية فأضرب بها الأرض لترتج معها بقية مفاتني.
منذ
أُدخل للمستشفى وطيفه يعتصرُ مُخيلتي وكأنه لوحة وضاءة معلقةٌ أمام عيني. يبدو
أنني ولجت به عالما آخر، هل هو عالم الحب الذي أسمع به؟ لن أكابر على زماني فقد
جعلت مناوبتي ليلا لأجل رؤيته والسهرِ بجانبه، قلبي يسيرني...
اسلاميون والنقيض.

حُشِر
في أذهاننا في الماضي القريب بأنهم قُساةُ قلوب، سفهاء لسانٍ، غلاظ تعامل، أعينهم
الشرر، وأنوفهم الجوزاء، يتقلدون الغرور ويلبسون الكبرياء ويتسربلون الغطرسة.
وهْمٌ فوق وهم ، وكَذِبٌ كُذِبَ علينا، افتراءُ المفتري واختلاقٌ على الخلق.
رجل
الدين يجافي النظافة ويحارب الأدب والحُسن والجمال و يقف كالجدار المنيع أمام
جحافل الحرية ومعه عصى من حديد تحت إبطه.
رجل
الدين عملاق طويل عريض ، كفه مرزبه وذراعه جذع نخله.
رجل
الدين ، قلبٌ أسود وفؤاد ضيق، كأنما يصّعد في السماء.
حرب
ضروس أطلقها أعداء الإسلام ليتلقفها أصدقاء أعداء الإسلام وينمونها في أحضانهم
ليذْرُوها...
مؤامرة تأنيث الأسواق

كثر
ترديد لفظة ( المرأة ) في الأيام الأخيرة حتى أصبحت نقطة ارتكاز الكون. ولكل
متحدثٍ نظرته التي يقصد من خلالها الوصول لهدف رسمه لنفسه.
السؤال:
كيف لمجتمع إسلامي محافظ أن يسمح لرجل أجنبي بأن يبيع الملابس الداخلية للنساء؟
بهذا
السؤال أعزائي بدأت حملة شعواء لتأنيث العمل في الأسواق، فضرب على وتر الرجولة
وأثيرت به الكرامة. ولكن هل وراء الأكمة ما وراءها؟
سأترك
الإجابة الآن؟
وأتساءل
هل في عمل المرأة في الأسواق تكريما لها كما يذاع أم امتهان لكرامتها وأنوثتها؟
الموضوع
أكبر من أن يجاب عليه دون النظر لأكثر من جانب؟
إذا
كانت النظرة المادية هي العنصر الأساسي فالإحصائيات تثبت عكس ما نأمل، وخاصة أنها
تقول...
لحظة زمن .

تهرولُ عجلةُ
الزمنِ جارّةً معها قتيل (أمسٍ) القريب لتغتال (حاضر) هذه اللحظة وترسل نذيرها
بهديرٍ يُفزعُ (غدا) المستقبل. قد نراها ومضاتٍ سريعةٍ أو لحظاتٍ نشاهدها كما
نشاهد فيلماً يُكرّ مسرعا. ولكنها أثقل من ذاك وأكبر، وأدهى وأمر .
لحظةُ زمنٍ،
كانت وعاءً لأصدقاء عاشرناهم وأحباب ألفناهم وأماكن اعتدناها وحارات سكناها ومنازل
هجرناها.
لحظة زمنٍ، تُذيقك عسلاً مصفى، وتُهديك ورداً مُنقى، وتُسقيك ماءً عذبا، وتُلبسك الحرير ناعما، ليسكن قلبُك ويهدأ طمعُك ثم تنتزعُ روحَك وتبتعد.
لحظة زمنٍ،
تموتُ وتفنى فلا تعود إلينا، فما إنْ تغربَ شمسُها حتى تقتُلَ نفسها وفاءً منها
للحظة زمن أخرى.
لحظةُ...