بالشين كانت أم بالجيم، فما هي عندي إلا راية
حقٍ رُفعت، وصرخت رجلٍ دَوَّت، ونُصرة مظلومٍ سُحق من أجلها أربعون ألف جمجمة. شالدران
لم تُكبرها لنا عدسة، ولم نقرأ عنها في مدرسة. فاليوم وإن هناك من يتغنى بحملات
نابليون ومعارك هتلر وفروسية هانيبال، فليفسح لي ولو للحظة بالتغني بما هو حق،
والتطرق لما هو أعظم من أن تستره كفٌ من أصابعٍ خمس، أو يحجبه عنا لمعانٌ من قرصِ
شمس.
عندما كانت رايات الجهاد العثمانية تبثُ أريج
(لا إله إلا الله) في كبدِ أوروبا، والناس يفرون من تعسفِ البابا ونواقيسه، إلى
حدائق الإسلام وبهجته. كان على النقيض وفي الطرف الآخر من يُحدِق بعين العِداء
ويمكُر بعقل المقت وينَقِب عن فرصةٍ تلائمه ومغنمٍ يغنمه من دولة الإسلام، فأنشأ
مذهبا يُضاد به (آل عثمان) ويتميز به عنهم، وهو شاه الباطل ومؤسس الصفوية (الشاه
اسماعيل).
وكأني بهذا الشاه وهو ينشر التشيُع بحد السيف
وقوة السلطان وظلم الجبابرة، فزاوج بين تعاليم التشيع وما تعلمه من الصوفية
الفارسية وبين القومية الفارسية التي تدعو بالاعتزاز بالهوية الإيرانية وتفضيل
العجم وتمجيد الأكاسرة، فأمر أتباعه بالسجود له وابتدع سب الخلفاء الثلاثة وجعله
هو المحك والحكم الذي يُعلن به الناس عن موافقتهم لصفويته المزعومة، ومن أبى
فوداعا لرأسٍ كان ينتصب على الجسد.
أقول كانت هذه الصفوية تغرسُ خِنجر الغدر في
ظهر دولة الإسلام وتُزاحمها على حدودها وتُأجج عليها قبائل (القزلباش) المتاخمة
لها، وتناصر البرتغاليين الذين أرادوا نبش قبر الرسول صلى الله عليه وسلم في
المدينة، بل بلغ بالصفويين المبلغ أن استولوا على بغداد ولم يقتصروا على الدخول
فقط بل أقاموا مجزرة في أهل السنة في العراق بعد أن سفكوا دم ما يقارب من مليون
سني في إيران، ثم نبشوا قبر الإمام أبي حنيفة وأخرجوا عظامه واستبدلوها بكلب أسود،
لم تكن إلا حربا وقودها الغيظ و خيولها البُغض ورماحها الحقد على الدين وأهل السنة.
وفي تلك الأثناء كانت دولة الإسلام مشغولة بممالك النمسا وهنغاريا وروسيا وعلى
رأسها ومالك زمام أمورها الشجاع والد الشجاع (سليم الأول) تاسع (آل عثمان) وفاتح
الشام ومصر وناقل الخلافة إلى الترك. لا أكذب فقد أشغله في البدء قرصات سفيه
الصفوية (الشاه اسماعيل) وآذته في ظهره فجعله في رأسه ولم يستعجل، فأطفأ شعلة
النار في بيت السلطان، وأمسك عنان المُلك وشمل الأوطان، ثم نظر حوله فأقام هُدنة
مع ملوك أوروبا ليأمن الجانب ويسلم الغدر، ثم شد خطام فرسه وأداره من الشمال إلى
الجنوب، ثم أقبل كسيل جارف وموجٍ هادر تسوقه عزة الإسلام و تقوده الرغبة في توحيد
البلاد وتطهير المساكن والمقدسات. فأرسل رسالة للصفوي تنضح ثقةً وتَقطُر صدقاً يقول
فيها: (أنا سيد فرسان هذا الزمان، وحقٌ علينا أن ننشط لحربك ونُخلص الناس من شرك)،
فلم يأتي الرد فأتبعها بأخرى باللغة التركية مُخضبة بخضاب الموت ومنقوشة بلون الدم
يقول فيها: (إن كنت رجلاً فلاقني في الميدان، ولن نمل انتظارك) وجعل معها ملابس
للنساء وعطورات استهزاءً بالشاه اسماعيل.
وعندما وصلَ إلى (شالدران) وفي الصباح، دوت
أصوات رعدِ مدافع آل عثمان، وماجت صرخات الإنكشارية الشجعان، وتعانقت السيوف، وجُندلت
الصفوف، ووصلت السماءَ التكبيرات، فلاذ الصفوي بالحجرات، تساقطت السماء شهباً،
وأُلهبت الأرض شررا، ثم بزغت شمس النصر وهبت نسائم الفوز وبان الحق وزهق الباطل،
هرب (الشاه اسماعيل) من (شالدران) وترك وراءه أهله وجيشه، فدِيس على رقاب من سبوا
الخلفاء وهُشمت جماجم من حارب الإسلام وأُخذ بثأر شهداء بغداد، ورُدت كرامة أبي
حنيفة.
الصفويون ظلموا وطغوا وتجبروا وحاربوا الله
ورسوله بغريزة الوثنية والحقد والكراهية للدين والعرق، فأذاقهم الله شرا مستطيرا.
وفي ختام (شالدران) عاد (سليم الأول) بالنصر وبالأسرى وبينهم زوجة (اسماعيل
الصفوي) ونكاية به زوجها بكاتب من كُتَّابه، وأيضا عاد (الصفوي) مطأطأ الرأس، جارا
أذيال الهزيمة وظل يعاقر الخمر بقية حياته من شدة الكمد والحنق حتى هلك.
جميلة هي لوحة الانتصارات بجمال عزتها، وصور
الظفر برونق شموخها، وأسطر الغلبة بروعة رفعتها. رُد كيد الصفوية وجثموا قرابة
المائة سنة، ولكن نار الحقد لم تنطفأ وأعين السخط لم تُفقأ ورؤوس الانتقام ما زالت
كرؤوس الشياطين، فعادوا اليوم كما كانوا بالأمس لأننا لم نعد نحن كما كُنا، بل وبطمع
أكبر وهمة أعلى وتخطيط أدق وجيوش أعظم. عندما أخذنا بأسباب النصر انتصرنا، وما
طرائق الهزيمة ببعيدة عن ناظرينا. هذه معادلة التاريخ، والأيام دول لمن لا يرعى حق
نفسه وحق شعبه وحق عرشه، فلا أسمعنا الله صرخات الثكلى ولا عويل اليتامى بين
ظهرانينا. وليس بغائب عن صاحب النظر أنهم أحاطوا بنا ليس كما يُحيط السوار بالمعصم
بل أضيق دائرةً وأشد إحكاماً، فواجب علينا التنبه والاستعداد والتكاتف ونبذ
خلافاتنا فالعدو واحد، وإلا سنقول ( شُنقتُ يوم شُنق صدام ).