مدنٌ تأن تحت وطأة اللامبالاة، وبلادٌ تفتقر
الحياة من جراء الكسب الشخصي، وطرقاتٌ تنزف جراحُها تحت مشارط العبث، مباني ضخمة
فوق أعمدة من هَباء، إن عاجلها الزمن أضحت غباراً منثورا. مستشفياتٌ مقابر، مدارس
أكواخ، طُرق مجاري، حدائق مكبات قمامة، نوادي معاقة، أحياء ميتة، مكتبة مقطوعة من
خِلاف.
هذا الواقع القاتل والمرأى المشين والصورة
الباهتة لحياة نعيشها تحت أصداء التصفيق والتصفير وشعارات (عاش المسؤول) ورفع
(البشت) ولعق الرخام مع استئصال شقفة لسان الصدق ووأد كلمة الحق والتفاخر بالعبودية.
في بلادي (حائل) وردةٌ سُرق رحيقها في وضح
النهار واستُل لونها فأضحت كما الخِرقة، ونخلةٌ مثمرة اجتُثت من جذورها ظلماً،
وسحابٌ ماطر مُنع القطر، وثكالى حُرموا حتى الأنين. كُممت أفواه لتنعق أفواه،
نُسفت الجبال الشامخة فأضحت قتاماً، وشُيدت الأصنام الراضخة فأصبحت إشراقا. لم يعد
( الذر يقرُص) فحسب، بل وله مجلس ومُتكئ، ويُزار وإليه المُلتجأ، استحوذ الدلال
المسكوبة والنوقَ المنحورة والصور المرفوعة والدعوات بإطالة ليله المُظلم الذي
يستتر تحته كل خفافيش النهب .
العجز في إقامة النظام الذي بلغ حد الشلل
التام، حتى في ردم حُفرة طريق بسيطة أو إنارة مصباح مُحترق، أو إصلاح انبوبة صرف
مهترئة أو فتح مجرى سيل مُختنق أو انقاذ حياة أناس بسطاء، كل هذا وبقية الإجراءات القائمة
تكشف عن عجز مُخيف في التعامل مع تقلبات جو عاجلة أو حويدثٍ طارئ.
كل ما يطلق عليه إدارة حكومية في بلادي
(حائل) أضعف من عجوز عاجزة فقدت الابن والزوج والقريب، فالهياكل المُقامة والمُوكل
إليها بالتنظيم أنظمة أنانية، عطشى، جائعة، نهِمة، لا بطن فيشبع ولا عين فتمتلأ،
أمست واجهة تتملق لرفَاه المحظوظين والرعاية بأصحاب النفوذ وتلبية مكتسبات
الأغنياء ومقدراتهم والسهر على المزيد من الفساد و التلف والخلل. أما نحن (الطبقة
المنكودة) وذوي الاحتياجات المسروقة فلا نشُم إلا عفن التخلف الذي خلفه الوجع وأبقته
الخيبة ومنحه انقطاع الأمل. نهرول صباحاً نبحث عن ماءٍ في مسجد، ثم نعود فلا ندري
أمركبات نستقلها أم حميراً؟ أطرقات للبشر مرصوفة نسير عليها أم دروبا للكلاب
الضالة؟ الأراضي البيضاء لذوي الحظوة والسور (المشبك) يلتف حول عنق البسيط، والقصور
تُشيدُ في الشمال من خزانات الضعفاء والمساكين.
في بلادي (حائل) الحدائق منمقة وملمعة فقط في
الصحافة المتسولة أما واقعها فلا يتجاوز أن تكون إلا وكأنها قاع صرفٍ صحي ومكبات للنفايات،
فقيمة البرميل الأصفر أجدر أن يكون في جيب أحدهم من أن يُوضع في خدمة الصالح
العام.
في بلادي (حائل) مستشفى الملك خالد – رحم
الله الملك خالد- والمستشفى العام مات منذ أعوام. والله أن قَصَّاباً في سوق
اللحوم لهو أمكن من طبيب الجراحة بل وسكينه أحد وأسرع نفوذا في الجلد. ولَـ (طلحةٌ)
في (الشعيب) أقوى على ستر المطر من سقفٍ في جامعة حائل .
لم أتقوقع بداخل صدفة وأنسج الأحلام مسترسلة،
بل واقع عشته، ومرارة ذقتها، فدماء قلبي
ما زالت تلطخ دهاليز الطوارئ منذ سنتين، وأعتذر فلم أملك الوقت لأعود بمُطهر وخرقة
لأنظف ما جنت يديّ. نتساءل لماذا لا يتدخل من يحل المشاكل ويعالج الموت ويقي من
الانهيار النفسي؟ فيمنع من الانتحار والغرق في آبار النفط. فالحوادث تكشف الكثير
عن مسؤولٍ عالي ولكنه هزيل ومشوه، والشلل هو كل ما تبقى لمجتمع مكلوم وبنية مريضة
ستؤدي بالخوف والخيبة نحو الاحتقان. فالنتيجة الكونية التي لا ينكر قدومها عاقل
ستؤدي إلى مزيد من الاحتقان وإلى ثورة ضد كل أطياف المؤسسة الإدارية فها هي
الشاشات الصغيرة تنتفض هادرة بحناجر الاحتقان ورافضة للواقع القائم التي أصبحت
أساليبه وقراراته تقليدية مطبوعة بطابع واحد وهو العجز عن طرح الحلول بالإضافة إلى
العجز في استيعاب المتغيرات.
لا أحبذ البكاء من دون اقتراح، ولا النحيب
كما العاجز، ولأننا تحت سلطة إدارية تريد امتيازاتها وعدم التخلي عن طرف الخيط،
فلتبقى كما هي على كرسيها العاجي ولها امتيازاتها واعطياتها المعتادة، على أن تُلقي
بالمهمة على مجلس إدارة مستقل برئاسة مدير تنفيذي طموح له استقلاليته عن الحكم
المركزي وله كامل الصلاحيات، ويكون من ابناء المنطقة يعلم ما بداخلها ويدري طبيعتها
واحتياجات مجتمعها وافرادها ضمن التقاليد المتعارفة والعادات المعتادة، فيكون هو
(الرئيس الإداري) صاحب استقلال جزئي عن (أمير المنطقة) ومسؤول مسؤولة كاملة عن كل شاردة
وواردة.
لا عيب في فكرة ولا صعوبة في تحقيق، إلا في
قاموس الحمقى والأغبياء والعجزة فربما سُنة حسنة تُسن، وفكرة غائبة تُطرح، تكون
مثل الدواء الشافي والشفاء المداوي من كل علل وأمراض مدننا العتيقة التي تُبحر فوق
بحار من الزيت، فقط لو أُعطيَ الخباز من خبزه.
بندر الأسمري