عندما اعتلى "خرّاص بن مُتظاهر" عرش الحِجابة أتته الوفود إثر
الوفود، وانهالت عليه الرسائل الإلكترونية كالسيل الجارف، للتهنئة له بالعرش
والدعاء بطول المُقام، حتى اضطر رحمه الله كما ذكر المؤرخون أن اقتنى جهازا آخر
يحملُ ذاكرة أوسع وأكبر ليتمكن من استقبال الكم الوافر والحجم الكبير من الرسائل
والصور الصوتية المُثقلة بالزغاريد وأناشيد الفرح.
أتته القصائد العصماء زحفا، وركع أمامه البيان البليغ، وأُقيمت تحت رجليه
المقامات المسجوعة، والتي كانت كما ذكرتها كُتب الأدب تقطرُ وفاءً وتسيل صدقا كما
يسيل الندى على أوراق الورد أوقات الصباح، تتزاحم حروفها إجلالا وهيبة في مشهدٍ
ينجلي عنده حاجز السماء الدنيا في فؤاد المُتصوف، وكأني بالرسائل المكتوبة وهي
تنخلع عن أيدي سُعاة البريد عَجَلة وحُبا للقائه، فلم يكن بها من الصبر عنه بما
يُحمِّلها بُطئ خطوات الساعي. وكأني أيضا بالخرافِ تُذبحُ على موائده احتفالا كأنه
الغيث أتى بعد دهورِ العجاف.
كان من فطنته رحمه الله أن تواردت عليه الأفكار توارد الإبل على الوِرد بعد
طول سفر، فجال بخاطره كيف لهؤلاء الرعية البُلهاء أن يُكشف لهم عن عدله قبل ظُلمه،
ووفائه قبل غدره، وسماحته قبل زيغه. لمْ أعزلْ وأُنصِّب، ولم أُقررْ وأَكتب، وهاهم
يُمجدون ويُعظمون، ويلهثون ويتذللون، وما هذا إلا من سوء الطبع وخُبثِ السريرة
وطمع النفس، تتجلى عندها صورةُ خضوع العبدِ من سيده وتذلل القطة من مالكها.
كان في تزلفهم له إشهارا بكذبهم وإبانة عن تملقهم، فعلِم أنهم مداهنون
للعرش سواء كان له أم لغيره. ظل هذا السيل الجارف يُعمل فيه عمل المُخدر في
المتخدر، حتى أصابه مرض "البارانويا" فأشعل فؤاده بغريزة العظمة وحُب
النفس، وصبَّ عليه القُدسية صباً، حتى ألهاه عن حقيقة وجوده وبنسيانٍ كامل لمشروعه
الإصلاحي لم يفق منها إلا بعد سنتين وخمسة أشهر قُبيل أن يُعلن عن ربوبيته
وأُلوهيته، فأُقيل وشُفي من مرض الحياة.
تحول العرش منه إلى غيره وتحولت معه ذات الرسائل من جموع الأغبياء تمحو اسم
المُرسل إليه في الرسالة لتخُط الاسم الجديد ثم تضع إصبعها على زر (إرسال)، وكذلك استُبدلت
الإبل بالخراف، والنحر بالذبح.
ومنذ ذلك الوقت إلى الآن مازالت هذه عادة من عادات العرب الأصيلة، والتي
يستبين عنها عُمق فكرهم وبُعد نظرهم وكشفهم لأسرار الغيب قبل أوانه، وحقيقة الهطلِ
قبل انهطاله.