طريدا ذليلا يجر رجليه الحافيتين فوق لهيب رمال الصحراء، راعياً في إحدى القبائل الصحراوية ولم يدر في خلده وعقله في حينها أكثر مما يدور في هوى من تغنَّم غنما وتأبَّل إبلا و الاهتمام بها لتأمين لقمة عيشه من ألبانها ولحومها. ينام ملتحفا السماء من دون أن يقلب ناظريه في نجومها فلا شيء يشغل تفكيره البته.
غادر بعد فترة وجيزة من تلك الصحراء بعدما استغنى أصحاب القبيلة عن خدماته. سارت به قدماه حتى وصل سور قرية صغيرة لا يعرف عنها شيئا فأجبره الجوع والعطش والبرد على الولوج ليلوذ بأهلها لعله يجد لقمة عيشٍ أو شربة ماء.
وكان في الطرف الآخر من القرية رجلاً أعجمياً في عينيه زُرقه وفي وجهه حمره ، كبير الرأس، عريض المنكبين ، من ملامحه كأنه من بلاد لا تغرب شمسُها. تُحبه النساء الصغيرات وتُفتن بنات البدوي بماله وسطوته وحسن معشره وبلاغة لسانه. وكان يَعشق فيمن يَعشق فتاة تسمى ( صباح) تملك حانة صغيرة في مكانٍ قصي مظلم من أطراف القرية .
تلاقيا – البدوي و الأعجمي – في حانة ( صباح ) وأعجب كل منهما بالآخر فتسامرا طويلا وتحدث كل منهما عن نفسه, ومن شدة ما وقع بينهما من تآلف ومودة وولاء عرض الأعجمي على العربي الزواج من فتاةٍ عربية يعرفها ويعرف حالها، متكفلا بكل شيء من أمورِ الزواج، واصفا له هذه الفتاة بأنها فتاة منزويةً على حالها ، لا أحد يعلمُ عنها شيئاً فقد عاشت في بلدٍ نائيٍ عن أعينِ البشر. وسبب عزوف الرجال عنها كان بسبب ملامحها البشعة في أعينِ الكثيرِ من المهتمين بأمور الجمال والوسامة وطيب المعشر، فهي دميمة المظهر قبيحة السلوك. ذاكرا له أنه قد تقدم هو لخطبتها ولكنه كان يخاف العواقب ففي طبعه خوف المجازفة وكُره المغامرة. فعدل عن خطبتها لنفسه على أن يساعد في خطبتها من رجلٍ هو يختاره.
فتح البدوي فاه مستغربا، وحرك رأسه موافقا، فكل هذه العيوب لا يراها عيوبا وكفى بها أن تكون أنثى فقط ومدفوعة المهر أيضا فقد أمده عريض المنكبين بالمال والعتاد والرجال الذين يسيرون معه كنوعٍ من الوجاهة والرفعة.
تقدم لخطبتها فرفضته وهي قانعه, فجر أذيال الخيبة راجعاً باكيا لصديقه الأعجمي. فرسما الخطة وقررا أخذها عُنوه.
وفي ليلة متسربلةً بالكُحل كانت الفتاة نائمةً مطمئنة فهجم عليها وشرع في البيت هتكا واستبدادا وفي الأهل قتلا واستحلالا. ثم تزوجها غصبا وقهرا وظلماً بغير شرع ولا ذمة بحضور الأعجمي الذي كان هو الشاهد والولي وكاتب العقد ودافع المهر.
لم تحبه ولم تهنأ بعيش معه ولكنها كانت تملك من الصبر والوفاء ما تنوء منه الجبال فقد كان مثالا للكذب والخداع وحب النفس والكبر والغرور.
وزد على هذا كله حبه لرغباته فقط فهو دنيويٌ لا أُخروي، و أرضي ترابي لا سماوي نوراني.
تَهَنَّأ بها حد الشبع ،وتجمَّل منها وجَمع، وتشرَّف بنسبها وسَطع.
افتتحها عنوة. وولدت له أولادا فاسقين وقليل منهم الصالحون. وفي الحال يتم وأدَ من صلُح أو سجنه والربت على رأس من فسد وحِفظه. ففي قلبِه خوفٌ من صلاح أبنائه فصلاحهم يقظ مضجعه ويهدد بقاء أمهم معه، فصلاحهم برٌ بها، والبرُ بها نجاتُها من ظلمه .
ومع طول العمر وسير الأيام ورثَت الفتاة المالُ الكثير، وأصبحت من أصحاب الدراهم والدنانير. فتبدل حالها، وأورقت أشجارها، وفاح عطرها، وسطع نجمها، وانتشر اسمها وصيتها .
فزاد ظلمه لها، وطمع فيما أبدته من ورثها وحقها، فاغتصبه لنفسه كما اغتصبها من قبله. فكانت تخبئ منه ما تستطيع أن تخبأه . ولكنه كان يصل إلى كلِ ما معها وإن لم يستطع بنفسه فبمعاونة صديقه الأعجمي الذي قويت روابط الصداقة بينهما من بعد ما ورثت ما ورثت.
ومن سوء ذوقه وفساد سريرته يغتصب منها مجوهراتها وحليها وقلائدها ثم يهديه لبنات الهوى وصاحبات الخَنى اللاتي يلتقي بهن في كل ليلة من لياليه. فعشيقاته كثر، ومن أجل أن يقوى على مصاريفهن فلا مجال له إلا بالسرقة فتمادى فيها وأوغل في تدنيس يديه، وفي وضح النهار أيضاً فلا خوف من الجليل ولا تقى من العظيم.
ثم علَّم أبناءه من حوله كيف هي حياته وسيرته الاستبدادية، فساروا على نهجه وسلكوا أثره. فهذا يغظ الطرف عن الآخر في الفساد لكي يغظ الطرف هو عنه أيضا .
ظلم و نتانة وخلاعة وفسق وفجور كانت حياته وأبناءه .
وغلبَ الفسادُ في البيت، وصار الفاسد منهم في عيونهم مصلحا والمصلح فاسدا، انقسم البيت على نفسه، وعمت الطبقية والحزبية على أساس الفُحشِ والغِناء.
ومع غلبةِ ما هم عليه من فساد وانتكاس في الفطرة . ضاق الأبناء الصالحون الذين نجوا من المعتقلات والسجون والتعذيب ذرعاً وسئموا حياة الظُلم والظُلمة. ولكن ليس باليد حيلة ولا يوجد للنجاة أية وسيلة.
ألفوا حياة الخنوع والسكوت، بل حتى خيانات أبيهم لأمهم أصبحت من ضمن المشاهد التي اعتادوا رؤيتها والتعايش معها. فلم يعد المنظر يهزهم والمرأى يزعزهم. فالأمر أصبح سيان.
فعادوا للتشكي والتألم والعويل والنواح.
وقبل أيام أتاهم الناصح ينصحهم بأن يطالبون هذا الأب الظالم إما بالحفاظ على أمهم والرعاية بها وبهم أو أنه يسارع إلى طلاقها والهروع إلى أحضان مومساته وعشيقاته.
ولكن يا ترى هل يستمعون النصح أم يبقوا على برهم لأبيهم رغم قسوته..