تهرولُ عجلةُ
الزمنِ جارّةً معها قتيل (أمسٍ) القريب لتغتال (حاضر) هذه اللحظة وترسل نذيرها
بهديرٍ يُفزعُ (غدا) المستقبل. قد نراها ومضاتٍ سريعةٍ أو لحظاتٍ نشاهدها كما
نشاهد فيلماً يُكرّ مسرعا. ولكنها أثقل من ذاك وأكبر، وأدهى وأمر .
لحظةُ زمنٍ،
كانت وعاءً لأصدقاء عاشرناهم وأحباب ألفناهم وأماكن اعتدناها وحارات سكناها ومنازل
هجرناها.
لحظة زمنٍ، تُذيقك عسلاً مصفى، وتُهديك ورداً مُنقى، وتُسقيك ماءً عذبا، وتُلبسك الحرير ناعما، ليسكن قلبُك ويهدأ طمعُك ثم تنتزعُ روحَك وتبتعد.
لحظة زمنٍ،
تموتُ وتفنى فلا تعود إلينا، فما إنْ تغربَ شمسُها حتى تقتُلَ نفسها وفاءً منها
للحظة زمن أخرى.
لحظةُ زمنٍ،
تحفرُ بداخلِك أعماق المحيطات، وترسلُ أمواجَها فتتلاطمُ تلاطماً يبعث الوحشة في
جوفِك عمن فات عنّا واختبأ خلف جدران الموت أو غيبة الأيام.
لحظةُ زمنٍ،
تعتريك بظلمةٍ كظلمةِ الليلِ البهيمِ وغموضٍ أشد من غموضه، فتضيع منك الاتجاهات
فلا تدري أسهلا سلكت أم وعرا؟ أوطئت رأس جبلٍ أم حللت بطن وادي؟ فيقف النظر عاجزا
والعقل حائرا والسمع ميتاً.
وقد كنت أسمعت لو
ناديت حياً..... ولكن لا حياة لمن تنادي .
لحظةُ زمنٍ
، تُختزل عندها تفاصيل الحياة المليئة بالأسرار والأحداث ولقاء الأعداء ومفارق
الأحبة في مساحةٍ محدودةٍ أمامك. تلك الحياة التي حوت الوجود كله وضمت بين حناياها
كل أشعةِ الفجر السعيد ودوّت كلماتُ الحبِ والهيام بين جبالها فتَسمع لصداها نغماتَ
مزمارٍ تسري مع هبات الهواء الساكن حتى تقرع جدران القلب قبل أبواب الأذن.
لحظةُ زمنٍ،
ترتحلُ أثناءها مشاعر النفس وأحاسيس الوجدان وخلجات الروح من عالمنا فتَحتضرُ
الفرحةُ وتخفتُ البسمةُ وتُسدل الستائر على فصولِ المرحِ، ولا يبقى إلا أنها كانت
مجرد لحظة زمن.
لحظةُ زمنٍ،
فيها نحفرُ القبور، ونغرسُ السهام بداخل الصدور، لننتزع القلبَ ونواريه تراباً مبتلاً
بدماء العيون، ثم نغفو بعدها غفوةَ من لا يريد الاستيقاظ، هروباً من سهامٍ قد
انغرست في أحشاء القلب وأشبعته موتا بغد غُصة.
لحظةٌ زمنٍ،
تُعد في قياس الزمن كشعلةٍ أُوقدت وأٌطفئت في اللحظة ذاتها، ولكنها في الصدور كعمر
الكون وطول الزمان. فهي لحظة لا تعترف بالحقيقة كطول وثقل ليل الشتاء على المرضى
مع قصره وخفته على العشاق؟
فهي كذلك
كالصخرة الصماء السوداء، تسمع من تحتها أطيط الضلوع ، فلا أنت أزحتها ولا أنت
تحملتها .
لحظةُ
زمن، تجعلك تعيش منعزلاً في ثبات دائم، لا مد ولا جزر، لا شروق بل غروبٌ دائم ،
تتلكأ في تنفسك ، تهمس في سمعك: ( اهدئي لا أريد أحداً ، لا أريد نَفَسَاً ، أكملي
حياتك أيتها النفسُ بدونِ صوتِ هذه الأنفاس المزعجة)
فترضخ لك
، وتمتثل لأمرك ، فتتوقف الرئة ويغضب القلبُ فيُعلن عصيانه ويُضرب عن العمل ،
وتُغلقُ الأجفان لتنتهي معها لحظة الزمن .