مع النشأةِ بصمةٌ متجذرةٌ لا تقتلعها آلة،
ولا يمحو أثرها ريح السنين، كالنقش على الحجر والنحت في الصخر، عذراً فأنا مُخطئ
فالحجرُ يتكسر والصخر يتحطم. بل هي نقشٌ بإبرة خياطة دقيقة الرأسِ على جدارِ قلبٍ
كان ينبض بالأمل ويدفعُ الحياة دفعاً عسى أن يُحيي جسداً يتصارع صُبحه مع كتائب
ليلِه.
أغمضْ عينيك فما إن ينغرس رأسُ الإبرة لتجترح
النقش حتى تتنبه كل شعرةٍ في جسدك فتمدُ أعناقها لتستجلي ما الخبر داخل هذا الغضّ
الطري الذي لا يملكُ درعاً يحتمي به ولا سيفاً يُدافع به رأس الإبرة وهي تمشي
الهوينا تاركةَ أثر الدماء خلفها و خاطّةً ما يستحق أن يبقى نقشا أحمرَ قانياً.
طار غراب الرأسِ فارتقى الجرح وأصبح طَبْعي،
والألم اعتيادي والمُخاضُ بطعمِ السُكر الممزوج بالهيروين المُخدر.
أتلذذ بِكَمِّ الألمِ الهاطل على بومة رأسي
كتلذذ طفلٍ دفعته أمه في أقاصي الصحراء وبين جحور العقارب والأفاعي بقطعةِ حلوى
مُثلجة أُعطيت له ساعة القيظ.
العيشُ بداخل كهف الظلامِ أجلى عن ناظريَّ
السواد، والنومُ على وخزِ المسامير منحني أديماً يقيني خداع النسيم، والإنصات
لأصوات القنابل من حولي أنعم على أذنيّ بالصمم، والتقام الحنظلِ أهدى لساني حراشف
الأسماك.
إن أبطأ عني التوجعُ هبطَ عليَّ الشوق وتملكتني الرعشة والهذيان فأبحثُ
عن وجهِ الألمِ فإن وجدتهُ ما تركته إلا وأَرُفُّ شفتيه حتى ولو كنت مُحرماً.
نظرت في المرآة وحدقت ملياً وقلبتُ البصر فما
رأيت بريقَ أسنان ولا تضاريس بسمة بل سِحنةُ الخريف بادية وأودية الجفاف وعروق
الأشجار مُتكشفة. رضعتُ الحزن من ثدييه واضطجعتُ مع الأسى مهداً واحداً، فالتحفنا
الصداع وتوسدنا المعاناة، حتى أصبح أُوَارُ(1) اللحظة قَرّا(2)
ولسعةُ البراغيث شفاءً
الألمُ حياة والتوجع زفرةُ قلبٍ يتنفس، إن
كان هذا دلالة الوجود وبرهان العيش فليكن. فكم من كائنٍ يمشي على اثنتين ولِدَ بين
الموائد وانغمس في الشهدِ لا نعرفه ولم يقف الزمن عند لحظاته المملة، وكم هناك
بالمقابل سِيرٌ تُقرأ وتراجم من نورٍ تُحتضن لمن عانى وشُرد وظُلم وقُهر وأُخضع
وأُرغم وسُلب.
فلن أكترث إن كان الوجدُ قلنسوتي وسربالي،
والضيمُ اصطباحي وغبوقي متذكراً أن التشكي لغير الإله نقيصه.
أغلق فاك، فحُزني يُدغدغ وشتان بين ألمٍ
يَبُشُّ وآخر يُبكي، فالمهيمنُ مسحةٌ من جنون ومُطارحةٌ مع غيرِ البشر. ألم يقال
أن أتعس الخلقِ العقلاء، فهات لي يا أميمةَ بأقداح الزوابع وهواتف شمهروش وميمون
أبانوخ، فمُدامهم مُستساغ وفتاتُهم مُستطرَفة تجلو عني ما يُثقل وتُظهر لي
النَّاجِع القراح.
في قاموسي أن عذاباً
ينفذُ منه بصيص أملٍ خيرٌ لي من سعادةٍ يخنقُها نكد، وفي كل قرصةٍ خير، وبين لهيب
اللظى سلام إن اعتدت عليه ووفيتَ له.
لا أحقدُ ولن أكره، فنشوتي مرارة الحرمان، ولهفتي
ملح العيون، وشهيتي نحرُ جَزورِ الحُبورِ على شواهد القُبور وُدمتم في سُرورٍ
يتلوه سُرور....
1-
الأُوارُ، بالضم: شدَّةُ حر الشمس
2-
القرُّ : البرد.