حروفٌ ذات قروح .

بداخل صندوق مضلع واسعٌ تجري فيه الجبال ضيقٌ لا يحتمل نسمة الهواء رقيقٌ يَشِفُّ عن بعضه غليظٌ مُتَقرح ككعب راعي بدوي في سماديرِ سكرةٍ أم صحوةِ مُتنبه؟ على تلك الأرض تُقِلُّنا خطواتٌ تجرنا تحت ليل بهيمٍ يُظلنا - تائهٌ حائر في بادية يلفها سراب سرابٌ من أمل عند كثبان من رمال رمالٌ من خَيبة - كنت قد ابتُليتُ بلدغةٍ فما هلكتُ، وما برئت أحثُ السير فتتعثرُ الخُطى أنتشل الخطوة فيذروا الغبارَ ريحٌ ريحٌ فيَّأها هجرٌ هجرٌ أثار كُل تِلك الزوبعة أُحيلُ عن عيني أرى الظلامَ نوراً أُحدقُ، فإذا النور ما هو إلا مسمارٌ مسمومٌ تّدُقه مطرقةٌ بانتقامِ صليبي أكوي هذا القرَحَ المُمِدَّ بكلماتٍ...

إنعاش المُحتضِر .

هل من المقدسات العقدية أن نقبعَ على كرسي التعليم لمدة يجب أن تكون اثنتي عشرة سنة؟ ثم هل المُخرجات التعليمية الحالية تعطي دليلا على فاعلية تلك السنوات الطويلة؟ وهل ما حازه الطالب من معرفةٍ وعلم بذي عمق وفائدة توازي بها تلك المدة من السنوات؟ أعتقد أننا سنتفق على هزالة وضحالة ما يجنيه الطالب في مراحل تعليمه العام فهو لا يعدو أن يُلِم بقليلٍ من المعرفةً بالقراءة بلسان أعجمي أو ببعض الحساب باستخدام الآلة الحاسبة أو حفظٍ لتاريخٍ غير مُدقَقٍ أو معرفة بتضاريس شرق اسيا وصادرات دول حوض البحر المتوسط. البيت التعليمي لا يحتاج لترميمٍ هش، ولا إلى اجتهاداتٍ مُخجلة، أو مشاريع من غير هدف واضح. بل...

مُكاشفة.

اقتحم عليّ مكتبي شيطانٌ شرِبَ كأس الغضب وزرط شوك الغرور، فانتفخ حتى سد الباب وأحكم بناءه ولم يبقى من الحائط إلا بناءً مصمتا لا باب له. جلس مستوفزا على جمر الغضى، متهيأ كذئب الغضى، وبه من الغيض ما يشد به حبلا من مكانه إلى أبواب جهنم. سألتُه ما بك يا رجل؟ قال: يعيرونّي بما لست من أهله! ويقحمونّي في دروبٍ لم أسلكها، ويقذفون سمعي بأقذع الوصف وأقبح النعت. ثم أجرى لسانَه مجرى السيل الهادر وقال: نحنُ مجتمع محافظ نعتز بالقيمة العالية والراية المرفرفة، لم يقع الذباب على طعامنا ولم تصبْنا الأوبئة، خُلقنا منزهين عن كل درن، مبرئين من كل عيب. صحيح أن المخدرات كالنار في شبابنا مثلها في الهشيم...

خفايا الروح من بعد البُعاد.

بين جوانح الصدر لهفةٌ ولوعةٌ واشتياق من أثر نوازل الأيام، ومُكابدة القهر والآلام. فما الحب إن لم يكن لذة يغمرها وجع؟ وشهية يناكفها امتناع؟ ومُتعة يُنغصها أنفه؟ ولهفة يُعارضها إعراض؟ ولوعة يضايقها مجافاة؟ أو شوقٌ يُكابر عليه حبيب؟ كلها تُعمِلُ في القلب كما تُعمل المَعاول في الأحجار الصم حتى نسمع لها صليلاً وزجلاً. بل ما الحب من غير حنين، وما حنينٌ من غير ضياع، وما ضياع من غير فتاة قضى عليها القدر بمكانٍ ناءٍ بعيد. حنينٌ يصحبه أنين، وأنينٌ بكفه مباعض الجراحة، يجرح، يُدمي، يستثير أمطار العيون. يُمازجه عزلةٌ عن البشر عسى أن يكون حاجزاً عن إزعاج البشر. هي كذلك الأيام عندما...

محاورة شيطان

زجرني شيطاني ذات صباح ووسوس في فؤادي متهكما بعد أن فتحتُ غطاء قلمي لأسجع سجع الكهان وأرسم نمنمة الكتابة قائلاً: سأسألك فحدْثني بالبيانِ ولا تحاورني بالألغاز كعادتك القبيحة، أين ترجو من هذا الطريق؟ تبحثُ عن قلم لتُدميه، وورقة لتشوه بياضها الناصع! ألا تأخذ عبرةً ممن سبقوك؟ وهم فيما كانوا فيه أعظمُ منك خيالا وأبينُ بلاغة وأطول قلماً وأعرض قرطاساً! يرشفون من النيل وينبوعك جاف، بمغاريف تحجب أفق السماء وأنت بملاعق الحليب، أخبْرني ماذا أراد الجاحظ من بيانه؟ قلت: هي الفضيلة. قال: والتوحيدي من إمتاعه ومؤانسته؟ قلت: الفضيلة كذلك؟ قال: وصاحب العبرات والنظرات؟ قلت: أيضا أراد الفضيلة. قال: ها...

من حديث النفس

نمقُتُ دائما في كوكبنا ذاك الكاتب الذي يتحدث عن نفسه كثيرا، ويحشر كلمة (أنا) بين كلمتي (أنا) و (أنا)، متباهياً بمجده الغابر أو مفاخرا بغابره الحاضر، ندرك منه شدة غروره قبل لين سريرته فكرهنا دخيلة نفسه قبل أن نزدري ضحالة عقلة. ولكن في رحلة إلى كوكب الأديب (علي الطنطاوي) الوضعُ جدُ مختلف، فلا التربة هي التربة ولا الهواء هو الهواء، ففي حديقته (من حديث النفس) انقلبت الحكاية وارتدّت النظرة الناقدة خاسئة حَسرى. هناك تحدث عن نفسه كثيرا فأحببته كثيرا، وتألم كثيرا فدعوت له كثيراً، نقلبُ الصفحات فنلمس كم هي معاناة هذا الأديب من ظُلم الأيام و كم هو ألمُ تقلب الدهور والحكام، وجور الأنظمة وتجاهل الأتراب....

دَجْلُ التاريخ.

يبدو أننا في حاجة ماسةٍ إلى إعادة النظرِ في كل ما حولنا مما نعتقد بحقيقته المسلَمة، فإيماننا بكل ما يُلامِس آذاننا من دون تمحيص أو تقصي لهو اضطراب في تفكيرنا وبصمةُ تخلف لجِيلنا، بل لم نكتفي بذلك حتى نُنَزلَ تلك الأنباء والأخبار منزلة الحقيقة المجردة والصحة المحضة، فهي عندنا لا تقبل النقاش فضلا عن ردها أو رفضها. ففي خضم هذا السيل الجارف لا نكاد نميزُ بين الصالح والطالح. هنا تجد قصةً طريفة يتبين فيها كيف تُزيفُ الأحداث وكيف تُنتهز الفرص في الإقناع، ودائما الضعيفُ هو الضحية البريئة الذي يُسلِّمُ رقبته لمحزِّ سكين الجزار. ففي عام (1727م) كان هناك تأكيدا غريباً نشره العالم الفرنسي...

توفيق الربيعة .

إن أجدبت الحياة، واغبرَّ أرضها وغار ماؤها وتساقطَ زهرها وأُقحوانها، ثم التحفت ثياب البؤس وعِمامة الفقر، وسرت تلفحُ بسموم الرياحِ وتضربُ بسياطِ الهجير. فلا غرابة حينها بأن نسمع أصداء الشكوى وأنين الضجر من كل كائنٍ ينبضُ فيه عِرق الحياة الذي يشتاق للفرح بعد جور الحزن، وللسعادة بعد ظلم البؤسِ، وللنعيم بعد نيران الجحيم. ولكن الغرابة تأتي حينما يُقْدِمُ من يشْتُم جمال الربيع ويلوم فرحة المطر ويستهزئ برقصة الأرض عند معانقتها سحابة الخير. الأيام حُبلى بالمفاجآت، وقد تلدُ بيننا عِظاماً مبعثرة في ثياب أصحابها لا في قبورهم، فترمينا بأعمى بصيرة، أحمق رأي، أعتى من الصخر وأقسى من الهجر، حسودٌ...

نهاية عزيز.

القمر يُزيحُ السحاب بيديه كيتيمةٍ  تتبدى خجلا من خلفِ ستار، ، ليظهَر من بين فُرَجِ الغمام، حزينا شاحبا لذهابِ عزٍ وجلاء مُلك. يُرسلُ تعازيهُ أشعةً متكسرة يواسي بها أنين الأرض ويمسح دموع الأشجار والأحجار. تلك الأرضُ التي تزينت عشرات السنين بأطواق النعيم وتراقصت أعطافها طرباً تحت مُزن أنوار العلم والحضارة واليُسر والرخاء. هي إشبيلية الفاتنة الغانية، استغنت بأنهارها وحدائقها ومُعتمدها واعتمادها عن حُلي الأرض وزينة السماء. مُعتمدها هذا زادها بهاءً ومَلاحة وزيَّنها بسرير حكمٍ ودواوين علم، فكان هو الشاعر العالم، الأديب الفحل، العاشق المتيم. أحلَّ جوهرته (اعتماد) في قلبه، وحلّت اعتماد بِاسمها...

عدسةٌ مُكبرة

في ذلك الجو المشحون بشحنات البرق وهزيم الرعد وزعزعة الخَريق، كانت (هديل) الطفلة البريئة لم تكمل عامها الثامن، عينان براقتان كسرهما الزمن، خدان متوردان جثى عليهما طائر الأوساخ، الأنف تسيل سيولُه، الثياب مرقعة. مُحتبِئة عند باب المسجد لعلها تجد من يسد جوعها أو يطفئ لهيب عطشها. جلست متكورة وذقنها على ركبتيها وكأن جزيرة العرب بأوديتها وينابيعها وروضاتها ونخيلها ربضت كلها فوق كتفيها شاحَّة بأقل فضلَة عيشٍ للمسكينة. قُتل أبوها وحُرِّمَ الخروجُ على أُمها قسرا اتقاء الشبهات، فأصبح البيت بلا أبواب والصنابير من غير حنفية، والقناديل من دون زيت. لا أمَرَّ من عيش الجوع تحت عناقيد العنب البعيدة،...

كيف أصبحت أديباً؟

إليَّ عزيزي القارئ ولا ترتعب، وادنُ مني بلا وَهَلِ، فلستَ بالفراشة ولستُ من النارِ، بل قطرٌ على قطرٍ، وزُلال باردٌ سلسبيل، وسماءٌ مزينةٌ بالقناديل، فاجْهَد جَهْدَك معي كُله، فهنا نصائح كتاجِ المُلك، على جبينٍ من ذهب، وحروفٌ لن تجدها إلا عندي وسبعة من البشر، أنا منهم وهم ليسوا مني، فسبحان الواهب المنان، يُقسمُ فلا يُسأل، ويَرزقُ من غير حساب. أما بعد: فقد طالعتُ سؤالا وصلني مفاده كيف أصبحتُ أديباً؟ في رسالةٍ بليغة موجزة، جمعتْ الجزالةَ والرصانةَ في زِقٍ من السلامةِ والنصاعة، فالجواب هنا سمعا وطاعة، والنصح عندي في محضر الجماعة، لا في خلوةٍ أو مناعة، فأنا شمعةٌ ومنارة، وذو علمٍ ومهارة،...