في صوت عصفورٍ حزمة من الأسرار، أسرار
تنبعث كنغمة لطيفة، وترانيم مُرتلة، تتخلل إلى النفس برائحة الطبيعة، رائحة التراب
المبلل بماء المطر، ورائحة حبق الماء عند جريان الوادي، فتحمل معها كل معاني
السكينة والأناة، هي ممحاة لكل معاني الألم، قاشعة لكل طبقات الغيظ، مُذللةٌ لكل
ندبات الزمان، مانحة نفحة من دواء الطبيعة. تستلذ بها الأنفس من غير معرفة بكنهها
ومعانيها، تسير خلال أسوار الهواء بانسياب الحب العذب وبيان العربي القُح وألحان
الصفاء المُقدس، تطرب لها الأذن فتُصغي، وتسمو بها النفس فتخشع، هي من العُجمة لنا
بمكان، ولكن الجمال هو من نقَّاها، والطبيعة من بعثها، والفقد من عرَّبها، والعدم
من طرَّبها. عندما نُصغي لها بقلوبنا نتوله فيها بأنبل الأخلاق وأعدل القوانين، هي
لا تعرف عنصرية العصر ولا طوائف المكان، تقع بكل إخلاص على أُذن الشريف والمسكين
والغني والفقير والرجل والمرأة والشيخ والطفل، مبدؤها لا يعرف أرستقراطية في
البذل، ولا دكتاتورية في القضاء، ولا ليبرالية في المعنى، أو عرقية في العطاء. لم
تنبني نغماتها على العزل والفرز، جمالها في عدلها وعدلها في جمالها، ولا يأنسُ
بالعدل إلا المستوحش من الظُلم. ولا يُنادمُ الجمالَ إلا مرعوبٌ من القباحة. يُغردُ
عصفور فيأنس قلبٌ كليل، يُغردُ عصفوران فيغدو قلب الفقير مُمتلأً، يُغرد ثلاثة
فيأتيك الربيع زاحفاً، إن كانت تغاريد خِصام أو تناجِ، فلا فضل للروح، فما أروع
تعبير الطبيعة عن خصام بين اثنين بأعذب الألحان! لا يوازيه جمالا إلا أن يكون
تناجٍ بين عاشقين.
لم يُظلمْ ذلك الطائر وألحانه إلا عندما
شبهنا تسارُّ العاشقين به، ما أظلمَنا بني البشر! نتسار ونتناجى ثم نقول هي كألحان
البلابل، مع علمنا أن خلفها سرائر النفس المقيتة، والمصالح المُفسدة، والقنابل
الموقوتة، والدسائس المُميتة، نتألى على أنفسنا ونقهر عاداتنا ونلوي ألسنتنا
لنُخفي حقيقة وراء حرف، ونيةً وراء مقصد، ثم تُعرب لنا الأيام عن سواد من تحت بياض
وعن جمر من تحت رماد. فيغدو بنا التغريدُ ضجيجا، والنجوى فحيحا، والرضاب عيونا
حارة تتفجر بكل معاني العذاب والوجع، وبكل تفسيرات التألُّمِ والأنين. أوليس هذا
ظلما لعصفور لطيف لم نسمع منه إلا أرق الألحان وأعذب الجمال وأرقى المعاني؛ في
صوته حزمة من الأسرار؟