ابن جاري .





أقول لهم وقد جد الفراق......رويدكم فقد ضاق الخناقُ.
رحلتم بالبدور وما رحمتم....مشوقاً لا يبوخُ له اشتياقُ.

وداع الغريب مؤلم.
ووداع الحبيب قاتلٌ.
سنةُ الحياة عناق ثم فراق وأكثر الأحيان هي عناق وفراق.
ما إن تتلاقى الأيادي والأكف وتتشابك الأصابع بعد تشابك القلوب حتى تنسل من بعضها
فتسمع -واحر قلباه- حشرجة الصدر وأنات الألم و غصات الحنين.
تسكبُ جفون الليل قطرات الندى على تيجانِ الأزهار ليأتي النور ويبخرها كأن لم تكن.
فراق يتبعه فراق، وبُعد يتلوه بعد.
ومن عجيب هذه الحياة أن هناك من يمشي حولنا و يدور في فلكنا من أقارب و أصدقاء حتى أننا نستنشق أنفاسهم ونشم رائحتهم ونرى ضياء وجههم ونبتهج بجود أفعالهم ولكن من سوء الحظ أنها في حياة واقعية ترمينا بسهام كدرها، ورصاص سأمها، تلفنا بليل قذاها وتطحننا برحى عسيرها وأعمال شقائها، فعنهم ننشغل ، وبالسؤال عن أحوالهم نبخل.
وفي ثورة الشبكات الاجتماعية والتواصل السريع التي حاربت بسهامِ نورِ سراجها ظُلمةَ الواقع المزيف فكشفت لنا معادن الرجال وقلوب الأوفياء وأفئدة المخلصين. أزاحت الغشاوة عن بصائرنا لنرى أجسادا من زجاج خلفها قلوب بيضاء تنبض حبا وصفاءً. فلا يخرج منها إلا ماء رقراق ونسيمٌ عليل وأرجوزة تأسر الكون بنغمتها وموسيقاها.

ومنهم ( ابن جاري ) فله عندي على شغاف القلب لمسه، وداخل الأحشاء همسه، وحول الفؤاد بصمه، وداخل الصدر لوعه.
فصبرا لأرضٍ أنت تفارقها وهنيئا لأخرى أنت راقيها.
فعند لحظات الفراق أجد مشاعراً مختلطة تتصارع أمام مشارف القلب ودموعا حمراء حارقة تعاقب العين التي أبطأت رؤياك لتلسع بسوطها خداً لم يودع خداك.
فلأجلك ينفجر الصمت ليخرج من وسطه شوقاً لما فات، وندماً على ما ضاع من أوقات.
كم من لحظة أجبرتنا على أن نشكي آلام بعضنا ونُمازح، ونُقلب جروحنا ونتضاحك.
غصاتٌ ولحظاتُ موتٍ جمعتنا.
شهقات وزفرات قتلتنا.
على من عُبد اسميهما وحُمدَ.
أخذنا أكفنا بأكفنا بلا شعور.
تواسينا بلا تكلف.
رقَّقتَ علي فأشفقتُ عليك.
تبادلنا الحروف بحثا عن السلوان.
فسكنّا واديا من غير سكان.
تناجينا......
تعانقنا بلا مكان.
فالأرواح لا تُسجن بأقفاص المكان والزمان.
كنا نجالس صفحات الذكرى فنقرأها والدموع تحجبُ عنا ما حولنا.
فأضحت الدموع دماً والبكاءُ نحيبُ.

الشوق سيأخذ منا أكثر مما أخذ، وعزاؤنا أن الوصل بعد النوى أشهى وألذ، فأكفنا ترتفع وألسننا تدعوا رباً كريماً بأن ينيلك أمانيك وينير لك دربك ويجعل التوفيق حليفك ويعينك على غربتك ويُعيدك سالما غانماً وينزل الصبر على قلوبٍ غصت لفراقك.


آلام.





أهكذا ستسير السنين؟
أهكذا سينقضي العمر تحت أقدام الليالي والأيام؟
أهكذا تتهشم اللحظات الجميلة ؟
أهكذا يتصدع زجاج الحب ويهوي كحبات من الكرهِ والحقدِ ليجرح أصابع من يمسك به؟
أهكذا تنطفئ شمعاتُ الأملِ ويخبو نورُ السراج؟
أهكذا يغطي الظلام أبصارنا؟ أم أن السير بغطاء من الظلامِ في النور أفضل من السير بنور الفؤاد في ظلام الطرقات؟
الجواب بأن الألم أصبح طبيعة والوجعَ حياة والجُرحَ عادة ونزيفه ارتواء. 
دمعةُ بلا بسمة، ووداعُ من غيرِ عِناق، وليلٌ بلا صباح، وسموم بلا نسيم، وجفاف من غير مطر، ضِحكةُ من غير نواجذ، هدوءُ من غير سكينة، فقرٌ مع مال، وعريٌ مع لباس، وكآبة مع ملاهي، وسقمٌ مع دواء، وضجر مع أصحاب، وجهلٌ مع فقهاء، أو شوك وطلح وغبار.
جفت جداول الوادي، وماتت زهرة البنفسج، وتحطمت الإقحوانة كما تتحطم الفضيلة تحت أقدام البِغاء. 
لا تقل هي نظرتي للواقع الأليم، فهو واقعٌ من غير أن أراه، ولا تقل ارتدْ نظارة الأمل لِتُزيح مآسي الألم.
دنيا تعيسة لا تقبل إلا التعساء، لا مكان فيها لصحنِ خبزٍ روحي ولا عصيرٍ ملائكي نتناولهما بأفواه القلوب والخواطر. فتربتها الشيطانية المختلطةُ بماءِ البشريةِ القذرِ المُشبعِ بكذب المُلتحي وخداع الرأسمالي وظُلم الحاكم واستبداد الرئيس وتسلٌطِ الأخ وصراخِ الزوجة وصِراعِ الصديق ومجابهة الأمواج ولفحِ الرياح، أُخِذت ليُصنع بها كائن صلصالي ضعيف سلس منقاد صاحب شكل خارجي أجوف. 
سُلب ما بداخل الصدور ونُزع ما في القلوب ليبقى الجسد الترابي يهيمُ وحده كآلة تكدح وتعملُ لأجل صاحبها. 
عُظِّمت الشرائع البشرية على حساب حريةِ الجمال ومُتع الدنيا ولذة الحياة، فأصبح الكل كطائرٍ محبوسٍ في قفصٍ يعاني الجوع وعنده أكله ويقاسي العطش وماؤه حوله.
من سن الطفولة ونحن نسمع صرخات من اللاءات تصم الآذان وتفجرُ الدماغ، حتى أصبحنا نحن نكررها لمن حولنا فقد أصبحت شرعا وعادة. 
نسير في طريق من اتجاه واحد يوصلنا إلى جرف وادي سحيق فنتساقط واحدٌ تلو الآخر، فإن عاكست السير للنجاة دهستك الأقدام وهلكت وإن أكملت المسير سقطت. 
نحتاج شيئا نابعا من القلبِ، متقدا من الفؤاد، جارفا كالسيل قويا كالصخر، نحتاج حبا يُنعشُ القلب ويُلهب الأحشاء.
حبا بين الأخ وأخيه والزوج وزوجته والصديق وصديقه والرئيس ومرؤوسيه والحاكم وشعبه والوزير و خادمه والرجل وأبنائه والمرأة وجارتها.
نحتاج أن نترجل عن سرج كبرياء البشرية المصطنعة وننزلَ عن عرشنا المزيف ونزيحَ عن كاهلنا عباءة العنصرية ونعود كما خُلقنا ونستبدل قلوبنا بقلوب أطفال وعقولنا بعقول حكماء، عندها سيلمُ الليل أذياله وينسحب لتُشرق أشعة شمسٍ تسقطُ على المباني والأزهار والحدائق فتُحيلُ لونها للون الذهب البراق ويمتطي الشتاء فرسه راحلا لنستقبلَ الربيع فنهشُ به متأهلين ونقودُه مرحبين فتنمو الإقحوانه  من جديد وتحيى زهرة البنفسج ويترقرق الجدولُ حرا إلى الوادي.