ورقة بيضاء .





قدمها لي الأستاذ عبدالعاطي  قائلا: احذر أخي الورقة البيضاء، في دلالة منه وهو القاص المغربي الذي أسرني بروعة أسلوبه وأنيق سرده ونُبلِ خُلقه بأن لا تترك الورق أمامك خاويا من غير أن تسكب عليه شيئا من قارورة الحبر أو تطلق القلم ليرسم خريطته التي يريد على ساحاته الواسعة. ولك أن تترك العنان لخيالك، فالورقة بيضاء قد تكون عملا تركته أو هدفا تخليت عنه.
إدمان العزوف عن الكتابة آكلةٌ تأكلُ أصابعك، وجرذٌ يقضمُ ورقك. وقد عانى منه الكثير من الأصدقاء الذين كانوا يشاركوننا بأقلامهم، ويشاطروننا صفحاتها، فكانت مقالاتهم كالشعلة المنيرة، والقبس الهادي.
كانوا رموزا ففقدناهم ومنارات فأضعناهم.
أصابهمُ السقم وتملكهم الملل، تغطوا بغطاءِ الكسل، فغزاهم الشلل.
طلقوا أوراقهم الطلاق البائن، وحبسوا أقلامهم وسط الخزائن.
لا تنقصهم الموهبة، وعندهم القدرة، ويمتلكون المهارة في غزل أجودِ الجملِ وأقوى النصوص ولكنهم فقط لا يريدون. 
قال لي معلمي أبو حسامٍ ذات ليلة: أنصب قلمك وافرش أوراقك لترضي ما بداخلك فالكتابة هي مشروع حياة، حقق أهدافك أنت و لك أنت ، لا تنتظر الشكر من أحد.
نحن كائنات معقدة، كتلة من المشاعر والأحاسيس، تحتاج التقدير والتحفيز من الخارج، وهذا ما قاله الدكتور إبراهيم الفقي –رحمه الله – عندما ذكر لنا قصته وهو ينتظر المهنئين والمهنئات بمناسبة ترقيته ووصوله إلى إدارة أحد الفنادق، يقول:أخذت منصبي الجديد وجلست خلف المكتب الفخم و على الكرسي الوثير  انتظر المهنئين والمهنئات، ولكن الوقت مضى ولم يأتِ أحد، فأصابني الإحباط وتملكني الحزن وكأن نجاحي لم يكن نجاح. وأنا في ذلك الوقت في أمس الحاجة إلى التقدير والتحفيز, فذهبت أنا بنفسي واشتريت وردة كبيرة ووضعت عليها ورقة مكتوب فيها: عزيزي إبراهيم: ألف مبروك هذا النجاح الذي حققت، مُحبك : إبراهيم الفقي.

مع الانتظام في السير على الدرب حتما ستصل ولكن كن أكيدا أولاً أين الدرب الصحيح؟
صعد رجلان من رجال الإطفاء محملان بعدتهما كاملة إلى الطابق العاشر لإطفاء الحريق الذي شب هناك، وعندما وصلا وقد أنهكهما صعود السلالم قال أحدهما للآخر: سأخبرك يا صديقي بأمرين أحدهما حسنٌ والآخر سيء، فقال: أخبرني بالحسن أولا. قال: لقد وصلنا إلى الطابق العاشر أخيراً، أما السيئ فإننا قد صعدنا المبنى الخطأ.

أود أن أُذكر في النهاية بأنه ليس بالضرورة أن كل ما يلمع أمام عينيك لؤلؤاً، فالسراب لا يجود بالماء، فهو مجرد سراب. ولكن الدرة الثمينة تقبعُ داخل الصدفة فلا يراها أحد، وما إن تخرج حتى تنشر النور والفرح على من حولها.
قم وانهض واجتهد وقاوم التيارات، احمل أجواءك الناجحة معك، لا تصغِ للمثبطين وأنصت للنقد الهادف البناء، ابحث عن قدوتك وقبل هذا كله ابحث عن ذاتك.
أخبرني أحدهم بأن هناك شخص اصطدمت به سيارته وخرج من بين أكوام الحديد مكسور الظهر مخترقةً أضلاعُه رئتيه، وكان ما يزال طالبا في الكلية، خضع لعلاجٍ تأهيليٍ طويل ولم يستطع إكمال دراسته فتخصصه السابق  كان (مهني) ويحتاج هذا التخصص إلى رجال أشداء عوضا عن من هم في حالته المرضية. توقف عن الدراسة في بلده ولم يجد أي فرصة لإكمالها, ولكنه قرر أن يحمل عكازه ويسافر للخارج ويكمل ما بدأه، مرت الأيام والشهور والسنوات، عاد للوطن وقد استبدل العكاز بالشهادة العلمية. عاد مشافىً معافى تملؤه الثقة ويتفجر من عينيه الأمل.

تجنب التقليد وأختر طريقك وتوكل على الله واجعل هدفك أمامك واضحا جلياً.



الفيس ويتر .









مع بداية سأم الليل ورحيله جارا أذيال هزيمته أمام سناء الفجر وشفق الصبح، ومع خروج بواكير العصافير وجفاف ندى الأوراق، كانت هناك سفينة فضائية عملاقة زرقاء اللون غريبة الشكل عظيمة المظهر، تقترب لتهبط على كوكب السنافر.


سفينة سدت الأفق وحجبت الشمس التي مازالت تصارع بأكتافها بقايا فلول الليل، أثارت النقع وهبطت.


أضحت هي السماء ، وأصبح الكوكب والسفينة كالبرتقالة وقشرتها، إحاطة من جميع الاتجاهات ، لا مفر ولا منجأ ولا ملجأ إلا لله .


رُفعت الرؤوس حتى اختفت الرقاب، وفغرت الأفواه فبانت اللِهاء، وفُتحت الأجفان واتسعت الأحداق.


طُيت أبواب السفينة كما يطوى السجل من الكتب إيذانا لولوج من يريد، وأُشهرت لوحة كتب عليها (الدخول بالمجان).


حسناً، قالها ثلاثة سنافر مستأذنين أباهم العجوز فتردد (بابا سنفور) قليلا ولكنه كان يعرف هؤلاء المشاغبين فإن رفض فسيذهبون تحت عتمة الليل، فقال في نفسه: بيدي لا بيد عمرو، ثم صاح فيهم حسناً انطلقوا ولكن احذروا (شًرشبيل) المجرم وقطه (هرهور) ولم يدر في خلده أن السفينة ما هي إلا شًرشبيل وقطه .


تقافز الثلاثة مهرولين نحو السلم الكهربائي وحانت منهم لفتة وداعية مع تلويح بالأصابع نحو (بابا سنفور) الذي بدا وكأنه يصغر رويدا رويدا كلما اقتربوا من باب السفينة .


وقف الثلاثة على الباب المشرع والذي كتب أعلاه على لوحة بيضاء بأنوار صغيرة زرقاء ( فيس ويتر ) وتحتها بالأحرف لاتينية (facewitter).


تقدموا خطوة صغيرة ليستكشفوا السفينة فإذا هي ممرات كثيرة متشعبة ودهاليز تشابه دهاليز بيوت النمل وحجرات وقاعات يمنة ويسرة و سنافر مزدحمين متراصين. بالإضافة إلى مقاعد قليله في بعض الممرات.


أخذ (سنفور ذكي) بأيدي أخويه (سنفور كسلان) و (سنفور صايع)، وفي معمعة السنافر وسنفرتهم المعهودة تفرق الإخوة وتاه الجميع. فقرر كل واحد منهم السنفرة لوحده وبعيدا عن الآخر حتى تجمعهم الصدفة وتضمهم الدهاليز والوصول إلى النهاية التي لا تبدو أبدا واضحة المسالك.


(سنفور كسلان) يداه في جيب سرواله الجينز الذي يربطه من فوق أكتافه بخيطين من المطاط العريض مع قميصه الأزرق المقلم بخطوط حمراء طويلة، وكعادته مطأطأ الرأس، لا شيء يثير سنفرته الكسولة، فالحجرات الملونة مملة له والممرات ذات الرائحة الزكية لا تعني له شيئاً، اكتفى بقليل من النظرات السريعة من خلال بعض أبواب الحجرات لاكتشاف ما بداخلها وهو مقطبا جبينه، غضبانَ أسِفا.


(مالِ هذه الحجرات الخاوية إلا من المقاعد) رددها وهو يطل برأسه، وانظر إلى تلك الأخرى لا يوجد بها إلا مدير القاعة وحيدا يتحدث مع نفسه ، يبدو أنه يتحدث عن أمر لا يهم أحدا من هذه السنافر الغبية, يتنقل بنظره بين المارة فيرى سنفورةً فيزيح بنظره ويزدريها فما من شيء يستحق الابتسامة، وذاك( سنفور حزين) يبكي فيصفه بالتخلف والغباء فما من شيء يستحق الدموع.


لاشيء يعجب هذا السنفور، حتى المقعد الذي قرر الجلوس عليه لينتظر أخواه لم يبدُ له مريحا، فهو يعلم أنه لم يأتِ إلى هنا إلا من أجل تقليد أخواه لا أكثر من ذلك ولا أقل.


في هذه الأثناء كان أخوه (سنفور صايع ) يُسنفر مع كؤوس الخمر في قاعة اللهو والمسكرات ولا يسمع شيئا من مكبرات الصوت الضخمة التي تصم الآذان سوى          ( طُفف، طُفف، طُفف....) ومع كل ( طفطفة ) تتمايل رقبة الصايع .


سنْفَّرَت به كؤوس الخمرِ فقفز على الطاولة وسَنْفر بصوت عالي: الموت لهرهور، الموت لهرهور، الموت للقط هرهور. أين أنت يا هرهور ؟ تعال هنا إن كنت قطا بحق وحقيقة.


نزل عن طاولته مع هتافات زملائه السنافر الصُّيع، خرج يسنفر عن ملذة أخرى، فوجد باب حجرة الرقص مفتوحة فأدخل رجله اليسرى فإذ هي ساعة الرقص الشرقي الممتع بتمايلها وغنجها ودلالها وبياض جلدها. حان المساء وقد أخذت كؤوس الخمر ما أخذت من عقله فخرج ليسنفر عن شيء آخر, فقد بدا أنه سأم الصخب والإزعاج، دخل حجرة الدردشة فأعجبته بهدوئها وجمال ترتيبها فهاهي مئات الهواتف المعلقة، فما عليك سوى أن تتناول أحدها وتتحدث مع من تريد لتتبادلا كلمات الغزل والحب والقصص الخرافية والمغامرات الكاذبة.


أصبح الصباح وهو لا يعلم أين هو وماذا فعل ، فقد الوعي، استلقى على الممر، خده على الأرض .


(سنفور ذكي ) بطبعه المسنفر السريع ونشاطه المتقد وحيويته التي تظهر جلية واضحة على محياه، رأى ما رأى أخواه ولكنه ظل يُسَنفرُ عن ما يريده هو.


تَسَنفرَت به قدماه حتى أوصلته لممر طويل هادئ قليل الإزعاج ، لا يبدو أن عليه إقبالا شديدا من بقية السنافر، ولكنه ما إن دخل قاعته حتى أصابته الدهشة و تسنفرَ عقله طربا، فكلِ علومِ الأرض وتاريخها وثقافتها ولغتها وجغرافيتها وعاداتها وتقاليدها أمام عينيه .


يا للروعة ، قالها وهو يقفز فرحا مستنفراً : نعم هذا ما أريد .


استنفر (سنفور ذكي ) كل سنفرته وجهده، ليقطف من كل بستانٍ ورده ويأكل من صحنٍ لقمة. يخرج من حُجرة ليلج أخرى ، وجد الكتب والعلماء والمثقفين والأدباء الأحياء منهم والأموات. فزاد من سنفرته ليلتهم كل شيء سقطت عليه عيناه.


وجد قاعاتٍ تسافرُ بك خيالا للمكان الذي تختاره ولو كان في أطراف درب التبانة أو في أعماق التاريخ.


استزاد علما وثقافة، والتقى آخرين أحبهم وأحبوه، شعر بالسعادة معهم المقرونة بالفائدة والتعلم.


مضى الوقت سريعا عليه، وهو بين هذه الأرفف والكتب والدروس والتدريب والمتعة الذي انتظرها منذ سنين عديدة ولكن (بابا سنفور) ينتظره في الخارج وكذلك أخواه (سنفور كسلان) و (سنفور صايع).

 ذهب لحجرة البحث والتصفح وبحث عن أخويه فدله العاملون فيها عليهما.



وجد الأول مازال قابعا على مقعده مُقطبا جبينه، قتله الملل، والآخر ملقى على وجهة في الممر.