هوت برأسها على وسادتها المحشوة بالقش، مُحملقةً إلى
أخشابٍ مهترئة في سقف غرفتها المظلمة الخالية إلا من سراجٍ ملقى على الأرض يبعث
بضوء ضعيف أصفر.
بابٌ واحدٌ ونصف نافذة يسمحان لهواء محرقة النفايات المجاورة بالدخول لهذا القبر. كم من ليلة مرت وهي تتمنى أن يأتي شيءٌ خفيٌ يمزق لحمها إرباً ويمتص من دمها ليتركها جثة هامدة بلا أدنى حركة .
للتو تخطت شتاءها (الثامن عشر) وقسمات وجهها الأسمر النحيل توحي بأنها عجوزٌ تخطت الخمسين. عاشرت الفقر فأنجبت توأم الهم والغم .
مع هذه الحملقة والتأمل. رنت في أذنيها صرخات أمها عند لحظات موت أبيها متأثرا بمرض ( حمى الوادي المتصدع ) الذي أهلك الحرث والنسل في قرية ( آل جردان ) المُظلمة والتي هي في عُرف ( أمير المدينة ) لا تتعدى كونها مقبرة نبت في زواياها بعض الشوك.
- هنيئا لك أبي فعلى جثتك هناك من يصرخ.
- مسكينة أنت أمي، فلم تجدِ غير الدود ينهش في جثتك حتى لم يبق منك إلا مكانك.
سكنت التنهدات الموجعة وخفضت الغصات الأليمة وتوقفت الدموع - الخارجة من قلبٍ مسحوقٍ - إثر سماع صوتٍ ينادي : ( جازنة ) يا ( جازنة ) هنا طعامٌ جلبته لقطتك الصغيرة .
أزاحت ( جازنة ) ما يشبه الباب وأخذت الطعام من الجارة العجوز، افترشت الأرض ، وسمت الله، وتناولت الطعام .
مدت يدها وسحبت الصحيفة التي كانت قد وجدتها على قارعة الطريق لتلصق صدرها عليها وتنام وعينها على تلك الحروف و الخربشات متمتمةً بحسرة : (ليتني أقرأ)..
استيقظت صباح (الثلاثاء) على أصوات الشاحنات التي كانت ترمي النفايات في مكبها، فهبّت من نومها مسرعة تجري نحوها لعلها تفوز بوجبة إفطار ساخنة قبل أن تسبقها إليها قطتها الشقية.
هاهي ( جازنة ) تُفتش في الأكياس السوداء، تضع يدها على أنفها فالرائحة لا تحتمل ، تمد يدها للداخل ، تتحسس ، جرحت يدها ، تُخرجُها لتمتص نزيف الدم من أصبعها ، تواصل البحث ، هذه نصف سمكة .. ما ألذها .
قبيل الظهر .. (جازنة ) متكورة على بطنها تتقيأ نصف السمكة.
استقامت متهدلة الأكتاف ترتدي قميصها المُرقع ومئزرها المُقلم ، تسير وصدى ضربات نعلها المطاطي على كعبيها المتشققين وهي تنادي حمارها ( فْلِيح.. فْلِيح ... يا فْلِيح..)
سمعها فأدار أذنيه وحدد المقصد وانطلق نحو فارسته .
ما أنبهك يا ( فْلِيح)، والحمد لله أن عمي الظالم تركك لي ولم يغتصبك مع ما اغتصب من أرض (الدُّخن) وأربعة رؤوسٍ من الغنم ، ووافقه في ذلك القاضي الذي منحه هذا الحق بحجة أني لم أبلغ الحلم .
كان هذا العم يكره (جازنة) ويتحين الفرصة للخلاص منها ، لأنها تعيره بظلمه وسرقته لمالها أمام تجار القرية.
أدارت خطام حمارها بعد أن طرق على مسمعها من أحدهم أن (جمعية الخير) توزع على المساكين والمحتاجين بعض الصدقات والزكاة.
في الطريق عرفت كم سحقتها رحى الحياة وكم خنقتها عبرات الأيام ، لا لذنب اقترفته ولا لخطأ ارتكبته، دائما ما كانت تحسد ( فْلِيح ) وتتمنى أنها لو كانت ( فْلِيحة ) . تذكرت الأيام الخوالي التي لم يكن أنيسها فيها إلا دموع المحاجر وقرقرت البطون وقطتها و(فْلِيح..)
لا يزعجها أكثر من القمل الذي يهرش رأسها ، فلم يعد هناك مكان للاستحمام بعد أن استولى ( أمير المدينة ) على الوادي الكبير بما فيه (غدير الاستحمام) وتحديده بالشبك الشائك وكتابة لوحة حمراء لا تستطيع (جازنة ) قراءتها .
- ماذا تريدين أيتها الفتاة الطيبة ؟
- لقمة .
- هل أنت فقيرة؟
- هيئتي توحي بماذا ؟
- حسنا، ناوليني إثبات شخصيتك ..
- وكأنها تعلم هذا الطلب مسبقاً : لا أملك إثباتاً.
- لا مشكلة فنحن جمعية خيرية ولسنا دائرة حكومية فناوليني شهادة ميلادك فقط . ..
- لم أعرف المستشفيات وقد أنجبتني أمي بجانب العنزة (ميشو)
- فعودي لـ (ميشو) وارضعي لبنها .
غاصت ( جازنة ) في التراب وتوسلت بدم الدموع وحرارة الجوع ورائحة البطن الفارغ، سقطت على ركبتيها قابضةً يده تُقبلها تستجدي اللقمة حتى اختلطت دموعها مع لعاب قبلاتها وصراخ يُقطع نياط القلب وبكاءٌ يحرك ضمائر الموتى ويُحيي صخور الوادي ، حتى رأف لحالها قملُ رأسها فتركها ورحل.
- اذهبي يا فتاة فالأمر ليس بيدي ، وهذه ليست بأموالي وهذا نظام (الأمير)
ازداد صراخ المسكينة ، فسكاكين الجوع قطعت أمعاءها وألم الفاقة كسر ظهرها . وصرخت بهم : لماذا إذن تتنادون بالعدل والإحسان السماوي وتعملون بشرع هذا (الأمير)
شد يده واستلها من بين كفيها وذهب ليعلق لوحة خضراء على باب الجمعية مكتوب عليها ( يحيا ملك الإنسانية)
عائدة مع ذات الطريق، يائسة، متعبة ، متهالكة، مطأطئة الرأس ودموعها كالمطر على ظهر حمارها ، وكل ما في الوادي ساكنٌ إلا تلك الصخرة الكبيرة التي كان وراءها عاشقٌ ينتظر معشوقته ، ويخاف أعين الناس، هاهو يحدق بها وهي تقترب منه، فتتزايد نبضات قلبه، وينتشي فرحاً رافعا ثوبه إلى فوق فخذيه استعداداً لعناق الحبيب .
كانت ( جازنة ) تقترب من صخرة الموت، وهي لا تعلم أن هناك حتفها وعناق والديها.
انطلقت الرصاصة فدوى صوتها أنحاء الوادي متجهة نحو رأس (جازنة) التي رفعت بصرها ناحية الصوت فرأت عيون المجرم مع بسمته، فتجمد الدم في عروقها، واختلط عندها الواقع مع الخيال والحقيقة بالحلم وتلاشت حدود الحياة والموت، شخُص بصرها فاخترقت الرصاصة الرأس وتناثر المخ وغطت الدماءُ الأحجارَ والأشجار. وسقط الجسد ووقع الرأس على الصخرة، وأصبح الحمار جثة هامدة .. لقد أخطأ (عمها) وأصاب (فْلِيح) في مقتل .. فأراحه من هذه الحياة ولم يبق لـ (جازنة) سوى قطتها ودموعها وقرقرة بطنها....
هرب العم بين أشجار الوادي ولاذ بالفرار متخفياً خائفاً مترقب ، تبكي حمارها قليلا وتبكي حذاءها المتمزق كثيراً .
وصلت غرفتها دامية القلب مجروحة القدم، ألصقت وجهها بالصحيفة وبطنها يقرقر ورجلها تنزف، تنظر الحروف متمتمة : (ليتني أقرأ).
وفي صباح يوم الاثنين كانت هناك سيارةٌ تصطف عند بابها، يحملها أربعة رجال وهي مغطاة بقماش أبيض وتقرير الشرطة مكتوب فيه : ( توفيت متأثرة بتعفن جرحٍ في قدمها اليسرى ) ، تنطلق السيارة إلى المقبرة وصوت الراديو يقول :
(اجتمع اليوم أعضاء مجلس الشورى السعودي لدراسة إمكانية قيادة المرأة للسيارة)....
بابٌ واحدٌ ونصف نافذة يسمحان لهواء محرقة النفايات المجاورة بالدخول لهذا القبر. كم من ليلة مرت وهي تتمنى أن يأتي شيءٌ خفيٌ يمزق لحمها إرباً ويمتص من دمها ليتركها جثة هامدة بلا أدنى حركة .
للتو تخطت شتاءها (الثامن عشر) وقسمات وجهها الأسمر النحيل توحي بأنها عجوزٌ تخطت الخمسين. عاشرت الفقر فأنجبت توأم الهم والغم .
مع هذه الحملقة والتأمل. رنت في أذنيها صرخات أمها عند لحظات موت أبيها متأثرا بمرض ( حمى الوادي المتصدع ) الذي أهلك الحرث والنسل في قرية ( آل جردان ) المُظلمة والتي هي في عُرف ( أمير المدينة ) لا تتعدى كونها مقبرة نبت في زواياها بعض الشوك.
- هنيئا لك أبي فعلى جثتك هناك من يصرخ.
- مسكينة أنت أمي، فلم تجدِ غير الدود ينهش في جثتك حتى لم يبق منك إلا مكانك.
سكنت التنهدات الموجعة وخفضت الغصات الأليمة وتوقفت الدموع - الخارجة من قلبٍ مسحوقٍ - إثر سماع صوتٍ ينادي : ( جازنة ) يا ( جازنة ) هنا طعامٌ جلبته لقطتك الصغيرة .
أزاحت ( جازنة ) ما يشبه الباب وأخذت الطعام من الجارة العجوز، افترشت الأرض ، وسمت الله، وتناولت الطعام .
مدت يدها وسحبت الصحيفة التي كانت قد وجدتها على قارعة الطريق لتلصق صدرها عليها وتنام وعينها على تلك الحروف و الخربشات متمتمةً بحسرة : (ليتني أقرأ)..
استيقظت صباح (الثلاثاء) على أصوات الشاحنات التي كانت ترمي النفايات في مكبها، فهبّت من نومها مسرعة تجري نحوها لعلها تفوز بوجبة إفطار ساخنة قبل أن تسبقها إليها قطتها الشقية.
هاهي ( جازنة ) تُفتش في الأكياس السوداء، تضع يدها على أنفها فالرائحة لا تحتمل ، تمد يدها للداخل ، تتحسس ، جرحت يدها ، تُخرجُها لتمتص نزيف الدم من أصبعها ، تواصل البحث ، هذه نصف سمكة .. ما ألذها .
قبيل الظهر .. (جازنة ) متكورة على بطنها تتقيأ نصف السمكة.
استقامت متهدلة الأكتاف ترتدي قميصها المُرقع ومئزرها المُقلم ، تسير وصدى ضربات نعلها المطاطي على كعبيها المتشققين وهي تنادي حمارها ( فْلِيح.. فْلِيح ... يا فْلِيح..)
سمعها فأدار أذنيه وحدد المقصد وانطلق نحو فارسته .
ما أنبهك يا ( فْلِيح)، والحمد لله أن عمي الظالم تركك لي ولم يغتصبك مع ما اغتصب من أرض (الدُّخن) وأربعة رؤوسٍ من الغنم ، ووافقه في ذلك القاضي الذي منحه هذا الحق بحجة أني لم أبلغ الحلم .
كان هذا العم يكره (جازنة) ويتحين الفرصة للخلاص منها ، لأنها تعيره بظلمه وسرقته لمالها أمام تجار القرية.
أدارت خطام حمارها بعد أن طرق على مسمعها من أحدهم أن (جمعية الخير) توزع على المساكين والمحتاجين بعض الصدقات والزكاة.
في الطريق عرفت كم سحقتها رحى الحياة وكم خنقتها عبرات الأيام ، لا لذنب اقترفته ولا لخطأ ارتكبته، دائما ما كانت تحسد ( فْلِيح ) وتتمنى أنها لو كانت ( فْلِيحة ) . تذكرت الأيام الخوالي التي لم يكن أنيسها فيها إلا دموع المحاجر وقرقرت البطون وقطتها و(فْلِيح..)
لا يزعجها أكثر من القمل الذي يهرش رأسها ، فلم يعد هناك مكان للاستحمام بعد أن استولى ( أمير المدينة ) على الوادي الكبير بما فيه (غدير الاستحمام) وتحديده بالشبك الشائك وكتابة لوحة حمراء لا تستطيع (جازنة ) قراءتها .
- ماذا تريدين أيتها الفتاة الطيبة ؟
- لقمة .
- هل أنت فقيرة؟
- هيئتي توحي بماذا ؟
- حسنا، ناوليني إثبات شخصيتك ..
- وكأنها تعلم هذا الطلب مسبقاً : لا أملك إثباتاً.
- لا مشكلة فنحن جمعية خيرية ولسنا دائرة حكومية فناوليني شهادة ميلادك فقط . ..
- لم أعرف المستشفيات وقد أنجبتني أمي بجانب العنزة (ميشو)
- فعودي لـ (ميشو) وارضعي لبنها .
غاصت ( جازنة ) في التراب وتوسلت بدم الدموع وحرارة الجوع ورائحة البطن الفارغ، سقطت على ركبتيها قابضةً يده تُقبلها تستجدي اللقمة حتى اختلطت دموعها مع لعاب قبلاتها وصراخ يُقطع نياط القلب وبكاءٌ يحرك ضمائر الموتى ويُحيي صخور الوادي ، حتى رأف لحالها قملُ رأسها فتركها ورحل.
- اذهبي يا فتاة فالأمر ليس بيدي ، وهذه ليست بأموالي وهذا نظام (الأمير)
ازداد صراخ المسكينة ، فسكاكين الجوع قطعت أمعاءها وألم الفاقة كسر ظهرها . وصرخت بهم : لماذا إذن تتنادون بالعدل والإحسان السماوي وتعملون بشرع هذا (الأمير)
شد يده واستلها من بين كفيها وذهب ليعلق لوحة خضراء على باب الجمعية مكتوب عليها ( يحيا ملك الإنسانية)
عائدة مع ذات الطريق، يائسة، متعبة ، متهالكة، مطأطئة الرأس ودموعها كالمطر على ظهر حمارها ، وكل ما في الوادي ساكنٌ إلا تلك الصخرة الكبيرة التي كان وراءها عاشقٌ ينتظر معشوقته ، ويخاف أعين الناس، هاهو يحدق بها وهي تقترب منه، فتتزايد نبضات قلبه، وينتشي فرحاً رافعا ثوبه إلى فوق فخذيه استعداداً لعناق الحبيب .
كانت ( جازنة ) تقترب من صخرة الموت، وهي لا تعلم أن هناك حتفها وعناق والديها.
انطلقت الرصاصة فدوى صوتها أنحاء الوادي متجهة نحو رأس (جازنة) التي رفعت بصرها ناحية الصوت فرأت عيون المجرم مع بسمته، فتجمد الدم في عروقها، واختلط عندها الواقع مع الخيال والحقيقة بالحلم وتلاشت حدود الحياة والموت، شخُص بصرها فاخترقت الرصاصة الرأس وتناثر المخ وغطت الدماءُ الأحجارَ والأشجار. وسقط الجسد ووقع الرأس على الصخرة، وأصبح الحمار جثة هامدة .. لقد أخطأ (عمها) وأصاب (فْلِيح) في مقتل .. فأراحه من هذه الحياة ولم يبق لـ (جازنة) سوى قطتها ودموعها وقرقرة بطنها....
هرب العم بين أشجار الوادي ولاذ بالفرار متخفياً خائفاً مترقب ، تبكي حمارها قليلا وتبكي حذاءها المتمزق كثيراً .
وصلت غرفتها دامية القلب مجروحة القدم، ألصقت وجهها بالصحيفة وبطنها يقرقر ورجلها تنزف، تنظر الحروف متمتمة : (ليتني أقرأ).
وفي صباح يوم الاثنين كانت هناك سيارةٌ تصطف عند بابها، يحملها أربعة رجال وهي مغطاة بقماش أبيض وتقرير الشرطة مكتوب فيه : ( توفيت متأثرة بتعفن جرحٍ في قدمها اليسرى ) ، تنطلق السيارة إلى المقبرة وصوت الراديو يقول :
(اجتمع اليوم أعضاء مجلس الشورى السعودي لدراسة إمكانية قيادة المرأة للسيارة)....