كالبحر أنتِ.





كالبحر أنتِ
بسِعته الواسعة وسِحره الساحر وعُمقه السحيق وغِناهُ الفاحشِ من اللؤلؤ وثرواته التي تحسدهُ عليها الجبالُ والأودية والهضاب والسهول.
هو الساحر سحرَ حقيقةٍ لا سحر توهمٍ وخيال وخداع للعين.
الساحر بلونه العجيب وهدوءه المُهيب.
الساحر بوشوشة صوته وعذب همسه.
كمثلُكِ أنتِ.
خلابٌ جذابٌ أخاذٌ فاتنٌ رائع. ففي لحظة قُربي من شاطئه وبمحاذاة مائه تتلبسني الراحة وتسترني السكينة فأنظر إليه مستأذنا ملامستهُ بكفي لأقبض منه قبضةً تذرف قطراتها من بين أصابعي كما تذرف دمعتي غِبطةً عند رؤية محياك.
زُرقته لون عينيك. وأُفُقه سِعة عينيك. وطعمه دمعُ عينيك.
كالبحر أنتِ
عند هبوط ليالي البعاد والفراق،،وإصابتك بما يسمى السهاد،، فوجهك هو البحر عندما يعانق الشفق عند الغروب لتتقلب من روعته العيون والقلوب.
وفي مده وجزره، قُربك وبُعدك ، فبداية الجزر هو إيذانٌ بمدٍ شديدُ القوى، عَرف الحقَ فما غوى.
كالبحر أنتِ
ساحله جذاب ووسطه فتان وجوفُه الجوهر ومِيتته حلال.

لم أرى عناق موجه لصخره إلا كعناقٍ يطفيء جوى عاشقَين قتلَتْهُما الفُرقة وأحيتهُما الضمة.

وقبل المساء تتدغدغُ المشاعر بنسيمه وتلتهب العواطف لجلاء نجومِ سمائه وتشتعل الأحاسيس فلا لغة إلا للحب ولا شيء غير الحب.

في سكونه همسةٌ تتوسط الصمت والنغمة.
وفي حركتهِ قُبْلة تخطف القلب قبل الشفاه.
وفي موجه غَيْرَة تمنع النسيم من إثارة خصلةِ شعر.

كالبحر أنتِ وأكثر
القمر وهو مثال الحب والنقاء، وصورة الجمال والوفاء، ومبعد الهم و الشقاء، يترقب بلهفة  أن يغيب، ليعانق أمواجا تتكسر صورته عليها فتغدو الصورة أبهى وأجمل من الأصل نفسه.

وكما مَنح صورة القمرِ الكمال، فللشروقِ منه نفحة جمال.
يُرسمُ الإبداعُ في منظر ثلاثي المعطيات، بزوغ شمسٍ و تكسر موجٍ مع إحمرارُ سحاب.
يسرق الألباب ويخطف الأبصار ويسلب القلب مع الفؤاد.

وهنا يبقى السؤال قائما، والجواب حائرا،  أأنت أخذتِ من البحرِ صفاته أم هو أخذ منك أوصافك؟


اصطفاف










استيقظ ليجد نفسه مرمياً في برميلٍ أصفر مصنوع من البلاستيك نتن الرائحة تغمره السوائل والقاذورات بجانبه تفاحة فاسدة وقلم ودفتر .
أرخى رأسه المتعب مع زفرة خرجت من صدره محاولاً استيعاب ما حدث قبل لحظات.

 أين كان... وأين أصبح...
تلمس جسده ..  تحسس بدنه..

لقد فقدتُ كل شيءٍ . . . قالها ودمع قلبه ينزفُ قبل دمع عينيه.

 كان حروفا متناثرةً في عقل كاتبٍ حذقُ الصنعة ،متقنٌ لها، مهووسٌ بالإبداع ،مواظبٌ على العبقريه. ثم وبكل أناقةٍ انسكب حرفا حرفا، على ورقٍ فاخرٍ ليبني قصراً من الكلمات ِالسهلةِ المنقادةِ الممتعةِ الباذخة.
خُلقَ واكتملَ على أتم خِلقه. تأزَّرَ بالإبداعِ، وتسربلَ بالجمالِ، وارتدى عباءة الفائدةِ والفضلِ والعموم .

كان يرى ما يملأ العينَ حسناً والنفسَ بهجةً.

برزَ من مكان نشأته مزهوا بنفسه. رافعا أنفه... يمشي مشية الخيلاء وقد ضم بين جنبيه الزاخرِ من اللؤلؤِ والياقوتِ.
وقبل يوم التمائمِ وُزِعت دعوات الاحتفال. وحضر المثقفون من كل حدب وصوب.
ولم يكدر صفوه في ليلته تلك إلا صريرُ قلمِ ذلك المبدع على صفحته الأولى قبل أن يصبح مِلكاً لأحد المدعوين.
وُضِع على رفٍ في غرفة للضيوف وبجانبه بعض بني جنسه وقد لفتت نظرُه تلك الكآبةُ الباديةُ على محياهم، والعمرُ الكبيرُ الذي وصلَ إليه أغلبهم ، بادر كبيرهم بالسؤال :
- لمَ أنتم هكذا؟
- هذا عملنا.
- عملكم إبداء الكدر والكآبة!!!
- لا، بل (الاصطفاف).
لم يتعبْ نفسُه في فهم ما يقولُه هذا العجوز.
نظرَ إلى هيأتِه وتفحص مكنوناته ودرره فوجد الخيمةَ والخباء...الأطناب والأعواد...الإبل والشاء...المساجلة والمنافرة...الحب والغرام...العفة والوفاء...الحداء والغناء...الصبر والبلاء...أسواق الشعراء...مواقف الخطباء...كلام الحكماء...الشتاء والمصيف...الصحراء والريف.

فعندها تيقن أن مستقبلَه مُشرق مُبرق، ومنارته تنير للقاصي قبل الداني.

استيقظ صباحَ أول يومٍ له على يدٍ أنثويةٍ خشنة غليظة تحمِلُه مع وسطه. وتُقلبُه ذات اليمين وذات الشمال.

نظَّفَتُه بخِرقةٍ بيضاء من غبارٍ اعتراهُ في ليلتِه الماضية ثم أعادتُه وولت عائدةً لمطبخها ،، لبصلها وقثائها.

جاءه صبيٌ صغير وأخذه من مخدعه .. كان مستغرباً أن يهتم به مثل هذا الصبي .

وضعه على الطاولةِ ...

وضع فوقه ورقة يرسم عليها. ولم يفتحه.

أشكلَ عليه فهم الحال، ولكنه فضل الانتظار على السؤال.
مرت الليالي و الأيام،

أضحت حياته ملل وضجرٌ وضنك وضيقة.
جلس مع نفسه وحيدا..واستحضر ساعة صفاءٍ واستعان بنظرة جلاءٍ.
استاء، وانتفض، حنق ثم غضب .. صعد الدم إلى قمة رأسه.
ألتفت حوله بعينٍ حمراءٌ لونُها
أحس سكان الرف العلوي بأن هناك زلزالٌ قادم.
صوَّت وصاح

زأر وزمجر
يا قوم

ما هذه الحياة التي رضيتموها ؟
اصطفاف فقط !!!
اصطفاف بالنهار واصطفاف بالليل !!!!
إن الأرضة عاثت فسادا بداخل أحشائي.

واحر قلبي على هذا الحال ,,,, الذي اضحى العيش فيه من المحال.

يرد العجوز...

-         انظر هناك ..

-         أين؟

-         جهة باب غرفة الضيوف....هناك
يدخل بعض البشر لصالة البشر ..
ضحكٌ ودخانُ سجائر وقواريرُ خمرٍ.
يقتربون ... ويلقون نظرة على مكتبة محشوة بمئات الكتب النظيفة من الغبار.
دنا احدهم أكثر
... جثا على ركبتيه
مرر أصبعه على ( حقائق الحق ) وجيرانه.
وجهه لم يوحِ حتى بالإعجاب.
انتصب وصعد بنظره للرف العلوي أخذ ( أوهام الهوام )...داعبه بيده...

وأُعجب بالصور.
سقطت سيجارة من المثقف الثمل.
شبت النيران.
احترق البيت.
احترق الرف.
احترق الكتاب.
انتهت حياته في برميل أصفر من البلاستيك نتن الرائحة تغمره السوائل والقاذورات.... بجانبه تفاحة فاسدة وقلم ودفتر.
تمت ..