جُمجُمةٌ من حديد ..







لزاماً عليّ وفي مستهل حديثي أن أنطلق من قاعدةِ متينة أراها مناسبة للواقع والمقال وذلك لمنع المناوشات ودرأ الأخطار والمُهلكات وهي حديث رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم: ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأسِ كل سنة من يجدد لها دينها). وقد ذكر الكثير أن التجديد يُقصدُ به العودة للنبع الصافي والمصدر الزلال وهما (الكتاب والسنة) بعيدا عن شوائب التعصب والقُدسية والتقليد. فالتجديدُ سنة الله في كونهِ العظيم نلحظها تدبُ من حولنا ونشعرُ بها في كل مكان.
قلت هذا ونحن في مجتمعٍ نشأنا فيه صغارا نلعب ثم شبابا نتعلم ثم شيوخا نعجز نتلقى فيه سيلا جارفاً من الوعظ الإسلامي والإرشاد الديني والبيان للحلال والحرام ورسمٍ للطريق الذي ينبغي علينا السير معه وأن لا نزيغ عنه قيد أنمله. وعلى هذا السبب فالنتيجة الحتمية المتوقعة أن نكون على رأس القمة وفي قمة الهرم الاجتماعي والديني والواقعي والعلمي ولكن الصدمة الواقعة والواقع المصدوم أننا في وضعٍ نقبع فيه عند الدرك الأسفل من التسلسل الاجتماعي والثقافي والعلمي والعقلي بل وتحته قليلا.
الشرع الحنيف متين قوي، منزلٌ من لدن حكيم عليم على لسان صادق أمين، فيه الأسلوب الراقي والفكر الحر والتعامل الحسن والقيم النبيلة المبنية على قواعد صحيحة. إذن فلماذا نحن مخرجاتٌ ضعيفة، هشة، ركيكة، بائسة، نخاف العلم والتقدم ونخشى الإلحاد وداروين و انشتاين ولماذا نخاف أن تهتز فطرتنا الإسلامية أو أن تتكسر مجادفنا أمام أمواجِ الآخر. وما هذا إلا لجمودٍ هبط علينا، وانعتاقٍ ألم بنا من جراء التحجر البليد والتزمت العقيم في طريقة واسلوب وعرض الخطاب الديني المُفَسِّر لنا وجاهة وعدل وسماحة ورقي الفكر والمجتمع الإسلامي، خطابٌ عكس لنا قصوراً مُحرجاً في المحتوى وعجزا ظاهرا في المضمون وتهالكا عظيما في الهيئة، فمنذ أُغلق باب الاجتهاد الذي هو مصدر التجديد ونحن من هاوية إلى أخرى. تساؤلات تواجهنا كل لحظة فكيف تخلفت هذه الدعوة العالمية حتى أضحت وسيلة للعجز والغباء والجمود الفكري والاضطهاد المُجتمعي، وهذا يعود لسببين أحدهما هو الاحتكار من قِبل طبقة مُحددة والمناداة بالتخصصية المتزمتة، فاحتكار تفسير النص القرآني في حدود فكر واحد فقط سيخرج لنا تفسيرا واحدا فقط وهذا مناقض لمفهوم شمولية الاسلام وأنه صالح للجميع. وثانيهما: الإلزامية وتطبيق ما كان ينفع في وقت ما لا ينفع والاجبار وبالقوة على تطبيق مفاهيم ليست من أساسيات وثوابت الدين والتي بتركها لا يكون الخروج من الملة وإقناعنا أن التعديل عليها أو المساس بها وبقدسيتها لهو من مصائب الأمور وكبائر الذنوب، فالجميع أدرك أن طُرق الوعظ العتيقة والإصلاح البطيء والتقليد الأعمى لهي أمور عفى عليها الزمن، وفي التجديد تطبيق لسنة الله في كونه.
نحتاج ثورة ولكن ليس لانتزاع الدين فما هكذا قصدت ولكن لتجديد البناء وضم الفرع للأصل وإرجاع الابن لحضن أمه وأبيه. وتطليق الخوف والجبن المزروع في صدورنا من الخروج من دائرة الألفة المعتاد عليها.
نحن في عصر العلم والثورة وقد تبين لكل منصفٍ عدلٍ بأن العلم أبدا لا يتعارض مع الدين بل هما متلازمان متوازيان، ولكن لم نجد هذا في حلقات الذكر و خطب المساجد التي اكتفت بالمناداة والتأكيد أن الإسلام دين علمٍ وعقلٍ وفي الواقع يهاجم الاجتهادات وابداعات العقل الإنساني.
ينبغي أن تُنزع القداسة من التراث البشري لأنه بشري، فالشيخ ابن عثيمين رحمه الله كان قد شكك في حديث أورده (مسلم) على جلالة قدره وعظم شأنه ولكنها كلمة حق كانت في نفس الشيخ. وأيضا ينبغي الابتعاد عن الاكتفاء بظاهر النصوص والنفاد بعين العقل إلى المقاصد والحكمة من التشريع وفتح باب الاجتهاد والرفع من قيمة العلم وتوضيح تعدد المذاهب الإسلامية وإباحة التقييد بأي مذهب لا يخالف أركان الدين وأصول العقيدة.
إذا تجولنا في حدائق ماضية، حدائق اسلامية باهرة، جميلة المنظر، زكية الرائحة، حدائق المتكلمين والفقهاء والفلاسفة والمحدثين والمفسرين والقضاة لوجدنا النخيل الباسق والثمر الناضج والأوراق الوارفة. نجدها عند ابن الخطاب والنعمان ومالك وأحمد والشاطبي وابن حزم وابن رشد ونجم الدين الطوفي وابن العربي وأحمد بن دؤاد. ومن الحمق أن نترك كل هذا الجمال من أجل شوكة صغيرة في الطريق.
شبابنا في فراغ وصدمة متلازمين، فالفطرة الدينية عندهم قوية ضاربة في الأرض، ولكن لم يعد يملأُ قلوبهم هذا الخطاب الديني الهزيل، فما يسمعونه يصطدم مع الكثير من الجوانب الفطرية والانسانية والعصرية والقلبُ حتما سيبحث ليملأ هذا الفراغ. الشباب سيزيح سخافة الطرح وسُقم المقال في زواج الصغيرات وختان الإناث وإرضاع الكبير وأي جذور تتنازع مع إنسانيته وسيستبدلها بأقرب الأفكار والأطروحات البراقة.
في النهاية أتساءل هل ستعود الصلاة والزكاة والصوم جزءا لا يتجزأ من الحياة التي تربطنا بخالقنا لا كفرائض وواجبات تؤدى من أجل أن تؤدى؟ هل سنعود للقران لنقرأه بنظرة تأملٍ وتدقيق وبُعد نظر؟ هل سأسمع أن هناك مسجدٌ تكون فيه الخطبة باللغة الأوردية أو الإنجليزية؟ هل سأرى الخطيب والشيخ يعتلي المنبر وهو لا يرتدي شماغا على رأسه؟ هل سأقرأ في كتب التاريخ عن حقيقة النكبة والنكسة؟ هل سأقرأ في مناهجنا الأدبية رسالة (الغفران) و (التوابع والزوابع) و(لامية الشنفري) و قصص (يوسف إدريس) و (زكريا تامر)؟ هل سندرسُ الفلسفة ونعلمُ من هو (المعري) و (أبو حامد الغزالي) و (ابن رشد) و (ابن خلدون) ونعرف أكثر عن  (أرسطو) و (ديكارت) و (هيغل)؟ هل سيصدر قريبا كتابٌ بعنوان (تهافت الفلاسفة الجُدد) ليرد عليه الآخر بكتاب ( تهافت التهافت الجديد)؟

هل سيأتي يوم وقد خلعنا فيه جلباب الخوف؟ وأذبنا جُمجمة الحديد؟

( سَلْبٌ )




 بحثتُ في الصباح، 
في المساء، وعند الشجر .
حلقَ العقلُ ثم أطلقَ النظر.
غابتِ الشمسِ وطاف موعد السفر .
سِرْتُ الجبالَ والوهادَ والطريق الوعر .
في جوفي همةٌ لا تبردُ لا تتعبُ لا تستقر.
،
أخفوكِ.
غطوكِ.
كَفروكِ.
حجبوك كما الغجر .
دفنوك تحت الحجر .
،
مجرمون يخرقون المضاجع .
سفاحون ينثرون الفواجع .
،
أحفادُ أحفاد يهود.
نقضوا العهد والعقود .
أعلوا الجُدرَ والسدود .
مكَّنوا الوحشَ والقرود .
،
أين الزهور والإقحوان
أين لحظات السعود. 
أين الروض والسحاب ذات الرعود .
،
اقذفي يا سموات ومُجي الروح لا تُحتٓضر .
اقذفي يا سموات شهباً تخسفُ بمن غدر .
أمطري
نعم أمطري يا سموات قلوباً علَّها تعتبر .
قلوبا علَّها تعتبر.
،
ماتت الملوك وسئمنا البكاء .
دارت الأفلاك فهدمنا البناء .
ردمنا القليب عطشى للدماء .
،
سئمنا الشقاء
سئمنا الشتاء
نريدُ الضياء
نريدُ الضياء. 


مُوَاءَمَة





غُصْ جوفي لنجعل الدفئ نورا ، أَقبضُ معصمك وأُحيطُ بعنِقك والعين تُبحِرُ في العين.

أتذكّر حبيبي قبل أن أهنأ بقربك سنينَ ظلامي ولحظات عتمتي وخرفشة الخفافيش من حولي في سراديب الكهوف الملتوية حيث كنتُ أعيش. 

كم من صرخةٍ صرختُها وأنا قابعةٌ داخل الوجار، غاضبة آكل من نفسي حطباً لأتقيأه بعد دقائق جمراً يندفنُ رماداً. تتصارع ألواني القانئة وتتقاتل ويُجندل بعضها بعضاً لتمنح الظلام ظلاماً والسواد سواداً .

يحلُ ليلي فلا أنام قليلاً، فلم ينبتْ جفنيّ وأكره الدموع حقاً .
عندما أخبرتُك كم من أختٍ لي ماتت وانطفأت شمعتها من أجل دمعة ، فغرتَ فاك !

أريدُ أن أبكي وأٌحبُ الحياة رغم اللهيب .

كنتُ وحيدةً، لا أرى أبعد من مد يديَ، متكورةً أُصلي من حولي بلهبٍ لأطردهم عني خائفة أن تمتد إلي يدٌ عابثة تعبث بداخلي وتهتك ستري وتُحطم مشاعري التي حتما ستقع .
صرختُ : جوفي خِواء .

الذكريات تُنعشُ الأطباء، فتعال ( عشيري ) نطوف بالشارع قليلاً قبل بزوع الفجر. ما عدتُ أخشى الظلام.

أنت - حبيبي- كنتَ حينها على النقيض تماماً، كنتَ بالقرية المجاورة، كنا نُطلقُ عليكم ( قرية الصقيع ) تعبيرا عن غيضنا عندما تنادوننا ( سكان الظلام ). كنتَ في أيدي الرجال وأحضان النساء والأطفال وتطرد الشياطين. إذا هبط الليل تؤنس المحبين بقليلٍ منك فقط ، وفي النهار تُجلي الحقيقة .

كم أضحك عليكَ إن تذكرتُ لِين عطفك وهشاشة قَدِك وهُيامك بتقليد النساء، لو لم ألحق بك لرحل بك غنجُك من مضارب الرجال وألحقك بمخادع النساء .

ولكن أيضا أتذكر أنك تكره برودة جسدك وتبتغي الرُقي وتحدثُ نفسك: ( لما لا نجمع الآراء الأضداد ونولِّد فكرة جديدة ، سئمنا الاختلاف) .

فُتحت لي أبواب السماء بقدومِ رسالتك وأريجها الفواح وشذا طيبها العطر، تدعو للقرب وتشتهي الوصال .
جرَّتني الأيادي للاجتماع العاقر، تمددتُ على الطاولة للفحص، إنهم لا يكترثون بي، أُحلقُ فتختبئ الرؤوس. لماذا أخذتوني إذن ؟

مِنجلُ الاستحواذ يقتص الزهرة وأقفاص التعسفِ تخنِقُ الفكرة. الرحمة الرحمة .
انزويتُ، هربتُ، حثيثة الخُطى والأنفاس، حضنتك، مكنتك من نفسي، مزجنا الأخلاط بالأمشاج، طلقتُ وحدتي وظلامي، ملكتُ نورك .
مازلتُ في الوجار ولكن أرى أبعدَ من مد يديَّ بكثير.