عشرينيات العشرين




سألني ذات مرة (عشيري) عن ماذا لو عادت بي عجلة الزمان وغاصت بي سراديب السنين والدهور والأيام ففي أي عصرٍ أريدها أن تقف وفي أي مكان أود أن أختار؟
فقلت له بلا تردد فالحلمُ كان في رأسي قد عشعش، والأماني في صدري مستوطنة وما جرى على لسانه معي كان يجيش في خاطري منذ زمان!
أجبته والحسرة على محياي، هي القاهرة ساحرة عقلي وعينيّ، وفي العشرينيات من القرن العشرين غاية منتهاي. فالقاهرة للأعادي قاهرة والنيل هو:
النِّيلُ العَذْبُ هو الكوْثرْ والجنةُ شاطئه الأخضرْ
ريَّانُ الصَّفحةِ والمنظرْ ما أبهى الخلدَ وما أنضرْ !
فسرح خاطري وجال، فإذا أنا في شقة العقاد، استنشق الغبار وأتصفح كتبه وأتقلب داخل مكتبته الوارفة وعلى أوراقه البسيطة، أقرأ اسم (سارة) وأنعم وسط ديوانه وشعره. أراه غاضباً كعادته مُكابراً معانداً، أسمعه يصرخ ويقول (ومن الذي يختبر العقاد؟). وبجواره طالبه الفيلسوف الذكي المُفكر (أنيس منصور) وعلامات التيه والحيرة على محياه..
ها هو العقاد يُنشد بحزن وشجن أبياته في (مي زيادة):
أين في المحفل (مي) يا صحابِ.
عودتنا ها هنا فصل الخطابِ.
عاملني بالكرمِ بما لا مزيد عليه، وطلب مني المقام عنده فتحججت. خرجت من صالونه لألتقي العميد (طه حسين) لأَدلف شقته الأنيقة الناعمة الهادئة المُلهمة، هو قابعٌ يقرأ ويكتب ويغوص في الأدب والشعر الجاهلي، ناولني سيرته (الأيام) وكتبه (الشيخان) و (الوعد الحق) و (دعاء الكروان) ولما وليتُ منه نصحني وقال: ويلٌ لطالب العلمِ إن رضي عن نفسه.
أسعى للرافعي، ومن الرافعي ووصف الجمال وفلسفة الجمال وجمال الجمال؟ عبقريةٌ فذة في صوغِ الصور من المعاني وتوظيف المعاني لوصف الصور، جلست عند ميمنته فأنشد:
يامن على البعدِ ينسانا فنذكره
لسوف تذكرنا يوماً وننساك.
إن الظلام الذي يجلوك يا قمرُ
له صباح متى تدركه أخفاك.
شكواه عن المساكين وحديثه للقمر ومناجاته للسحاب الأحمر ووحي القلم له ورسائل الأحزان وأوراق الورد وتاريخ الأدب، كل هذا يُخبرُ عن جبلٍ أشم وشامخ يعلو فيعانق كبد السماء فهو صاحب مبدأ وتُقى وورع.
سألته عن خلافه مع (العقاد) ومع (طه حسين) وعن رسائل الحزن فما أجابني وانكب على السفود ليُكمل شويهُ للعقاد واللهو به. تركته بين أوراقه وقصائده لأرى بالقرب (نجيب محفوظ) يراجع روايته (عيال حارتنا) فاقتربت وسألته لماذا يا نجيب؟ أنت سماءٌ في الأدب وبحرٌ في المعاني فلماذا قتلت الجبلاوي وهو حي لا يموت ؟
أخذتني قدماي في شوارع القاهرة وانبهرتْ عيناي من رؤية ما يُسمّى (القطار)، لم أكن أعرفه في المستقبل فأنا في السعودية! يا لهذا الحظ المبارك فها هو الدكتور (زكي مبارك)، جالساً على الحصير وماداً قدميه مُحتضناً كتبه ومعه تلك النظارة السميكة، هل أناديه الدكتور زكي أم الدكاترة زكي، سألته عن (عبد الرحمن بدوي) فقال هو ما زال صغيراً مالك وله؟ لم أخبره بما سيكون هذا (البدوي) فآثرت الرحيل بعد أن قبّلت رأسه وقلت له: لقد أجدت وأجدت ونفعت وألهمت.
التهب لهيب شوقي، وأنا أبحث عن أحمد شوقي، شاهدته راكباً إحدى مراكب النيل وبجواره العظيم حافظ ابراهيم، كان شوقي أكبر من إبراهيم بالعمر ولكنه يجله ويقدره وبينهما طُرفةٌ ومزاح، فصدح حافظ إبراهيم وقال:
يقولون إن الشوقَ نارٌ ولوعة
فما بال (شوقي) اليوم باردُ.
فابتسم شوقي وهو ينظر إليّ وقد عرف أنني من غير المكان وقال:
استأمنتُ الكلب والإنسان أمانةً
فالإنسان خان والكلبُ (حافظُ).
تركتهما وأنا على عجل، فالموعد مع (إبراهيم المازني) قد حان وقرب، جالسته ليُعلمني استخدام الصورة في الشعر حتى يَبين بها البيان ويجلو المراد. أهداني (حصاد الهشيم) و(خيوط العنكبوت) وديوانه. أنستُ معه وقتي، وتركته وشوقي أعظم وحنيني له أكبر. سألني قبل الوداع هل قابلت المنفلوطي الذي ملأ الأبصار والأسماع؟ فكأنه أفاقني من غفلتي، وذكّرني بمن عنه لَهت ذاكرتي، هرولت لأستاذي في المقالة ومُلهمي في الصورة والعبارة، طرقتُ الباب ودخلت وعانقته وقد كان هادئاً رزيناً يُراجع (النظرات) ويُقلب في (العَبرات)، أردتُ البقاء ولكن الوقت أزف فاستعجلتُ لبنت الشاطئ بنت عبد الرحمن، تلك المُفكرة الكاتبة الاستاذة، أخبرتني عن جامعة الأزهر وأفادتني عن المعري ورسالته الغفران. أسابق الشمس المتعبة من طول النهار فرأيت (سعد زغلول) فكرهت اللقاء وآثرت العودة عن البقاء.
أفقت من حُلمي وعانقت (عشيري) بطرفي، فقلت والدمع فياض: تلك هي القاهرة التي عشقت، وتلك هي الشوارع والصالونات والمنتديات التي تمنيت، تلك القاهرة التي أعرف، والمجد الذي طال وأشرف. ساحات حرب النبلاء، ومعارك الأدباء. منها تَضَمَّخ الحرفُ الأصيل والمعنى العتيق الجديد والأسلوب الأدبي الرفيع. هؤلاء أساتذتي فأخبرني أنت عما سألتني عنه؟
فاستحيا واحتشم، فما بعد هؤلاء يُذكرُ اسمٌ ولا ينقشُ وشمٌ. وولّى وهو يقول: عليهم رحمة الله، عليهم رحمة الله.

الزلايب المُستضبعة .





أسوقُ العذر مُقدَماً، وأجتلبُ العفو مُعظِماً، القراء الأفاضل والأخوة الأكارم، لِعنوانٍ مُهلْهلاً كتبته، وأحرفٍ عامية نسختها تَقَدمت مقالي، ولكن عسى أن تجدوا لي بين طيات عفوكم صفحاً وفي شمائلكم حلماً وصبراً. فأنا ثائر مُغاضب لا غير.
من أسوء ما تراه في بني جنسنا ما أسميته ( ذو الدّجلتين )، دجَّالون عياناً، دجَّالون إضماراً، يتسلقون الأسوار ويقفزون الدور، بِخُبثِ سريرة وسفالة هيئة، يُحاك في صدورهم الإثم والعدوان بعد أن رضعوا ألبان الثعالب وربوا جحور الأفاعي، طلقوا الإنسانية طلاقاً بائناً والتحفوا الشعر والصوف كقطة تلتصق بك ثم تخدشك وتصيبك بالمرض. جمعوا بين خصلتين أحلاهما العلقم، فإلى نفسه الضعيفة وهوانه بين الرجال المُبصرة و ( زلابة ) قدره ومكانته جمع إليها خصال الضبع آكل الجيف المتطفل على البقايا والقَمّام للقمامة.
مثل هؤلاء من يولون المناصف فيستغلونها لإشباع شهيتهم المريضة وملأ قلوبهم الخاوية إلا من النتانة والزناخة والعفن.
الإعلامي شريفٌ في مكانته صادقٌ بكلمته يحسبُ للفضيلة حسابها ويؤدي الأمانة حقها. فإن زاغ أو مال فيجب الضرب عليه من حديد والتنكيل عليه والتضييق، ليستقيم أمرُ هذا المنبرِ وتتساقط الهوام عن سناء ضوئه وجلاء بدره.
الإعلامي إن استغل إعلاميته بما يُخالف شرف المهنة ويُعاكس إخلاص قلمه فما هو إلا من بني ( الزلايب المستضبعة) . ومثله مثلُ الطبيب المُستغل والمسؤول المُستثمر والموظف المُنتهز، ولكن اخترت الإعلامي هنا لما وصل إلى سمعي بالأمس من قيام واهنٍ حمل قلمه بغياً وهزيلٍ أخذ الصحافة جبراً بتهديدٍ لنساء ضعيفات وإرهابٍ لبنات شريفات بكشف ما لا يُكشف ونشر الأرقام وتخويفهن بصحيفته ومكانته ليجلسن إليه ويتحدثن ويتسامرن وإشباع لحيوانيته، فكشفه الله لسوء خبيئته، و ضآلة قدره، وما هذا إلا بضاعة الكاسد وصغارة النفس ورذالة الطبع.
الأنثى قارورة تُعزُ من عزها وتُذلُ من ذلها، ولا يستأسد عليها إلا جبان ولا يستغلها إلا عاجز ولا يهينها إلا دنيء. فعار عليك ما صنعت أيها المُصْتَصحف ومسبةٌ لك لن يمحيها تزلف المتزلفين، ومَثلبٌ سيرافقك أينما حللت.

الشرفاء لن يسكتوا والحكماء لن يغضو البصر فالجميع سيصرخ بالصدق ويُطالب بالحق، فالعربي قد يسكت على الضيم ويتحمل الأذى إلا إذا شارفت على حدود شرفه وكرامته. وما لحق بنا من بلاء إلا ممن حمل القلم وهو منه براء واعتلى منبر الصحافة وهو أحقر من أن يصعده.

تسوييد بلا تبييض.



في شهر فبراير من العام الماضي دوت أصداء صحفنا المحلية ومجتمعنا بأحداثِ تهمة الفساد والرشوة والغش التي نُسبت إلى منسوبي إدارة التربية والتعليم في منطقة حائل متمثلة في رئيسها والقابع على قمة هرمها يومئذ الأستاذ: حمد العمران.
وقبل الخوض فالمسلمُ ليس من أخلاقه الشماتة بأحد ولا الاستهزاء بأخ و لا التهكم بظالم أو مظلوم ولا الفرح بمصيبة تقع أو تهمة تُدفع. هذا إلا أن المجتمع – أي مجتمع – فيه من التفاضل والتباين في الأقدار والأرزاق والقامات والسمات والأخلاق فهناك الشريف والصادق والخائن والكاذب. وكلنا يجمعنا مسكنٌ واحد ووطن أُم نقفُ عليه وقفة الأمانة وموقف الإخلاص ونعتنق الشرف وننبذ اللُؤم فهذا واجبٌ يُحتمه الواجبُ نفسه وقبله الدين والخُلق العربي. نحن وكلاً بشخصه وموقعه على ثغرٍ يسده وبابٍ يحرسه، ولن قوم لنا قائمة إلا بسواعدنا مُجتمعة وأكفنا متلاحمة مُلتمة، وزراء وأمراء ورؤساء وقضاة وموظفون وعمال نستأصل الورم الخبيث والجرثومة العفنة من مكمنها ولو كان عسيراً وفرض الحق على كل ظالم أو باغي.
عودٌ على أوراق القضية والتي نشرتها بالتفصيل صحيفتنا صحيفة الشرق في عددها ( 451) والمؤرخة في ( 27/2/2013) والتي أبانت أن في أعطاف القضية قضايا وبين السطور بلايا ففيها وثائقٌ تتحدث وانتدابات على غير وجه حق وفتاة سورية أصبحت سعودية وتغافل عن قرارٍ ملكي وتعيين بالقوة والإجبار وهدم حواجز النظام وأسواره ورواتب تُصرف هكذا في الهواء واقتراضات وهبات وكأن الملف مُكتمل الأوراق قائم بذاته لا ينقصه إلا ختمُ قاضي القضاة.
وفي يوم الخميس ( 22/5/2014) جفت الأقلام وطويت الصحف وأعلنت محكمة الاستئناف براءة المتهمين من كل هذه القضايا التي طالت جلساتها وتشعبت أوديتها وفاضت أنهارها فَخِيف أن تُغرق قرى بعيدة ومساكن نائية. مثلها كأي قضية أخرى تمسُ مسؤولا عملاقاً يعتلي بقامته الشاهقة عن مطارق القُضاة و كفوف الميزان.
حسناً، ها قد حصحص الحق أو هكذا يبدو، وبُرئ البريء المسكين وأُلبُس ثوب العدل والصدق ونُظفت ساحته وسُلَّ من التهمة، ولكن يا سادة القضية ليست قضية شخصٍ بعينه، ولكن هناك شجونٌ متشابكة متعاصرة وجذور مترابطة أثمرت عن هذه القضايا الفاسدة فإن بُرئ ( العمران ) وهو يستحق ذلك فمن هو الفاعلُ إذن؟
الواقعة واقعة لا جدال فيها فهذا شيك برقمٍ وتاريخ وتلك هي  ( جاكلين قاسم أبو زيد ) ولكن من هو الفاعل؟
إن يعدل قضاؤنا وكان دستوره الشرع الحكيم يوقع العقوبة على من ظلم ويُجب على تلكم التساؤلات.
هذا جانب أخلاقي وهناك جانبٌ إنساني يتعلق بالمتهم البريء وهل سيغض البصر عن ما لحقه من إدانة وتهمة وردانة وأوساخ، وهل بهذه البساطة تُرمى التهم على أشخاص أمناء بريئون، فيعلق بسمعته وحسبه ما هو منه براء، لماذا القضاء لم يرقُب حتى يكون على ثقةٍ ثم له أن يُسمي المتهم وينادي بالظالم.

تشويه السمعة بغير وجه حق مُصيبة وقذف التهم شتاتاً فجيعة، فالإنسان له قدره والرجل يحفظُ حقه ويصونه وما هكذا تؤكل الكتف يا هيئة الرقابة والتحقيق. 

انطلق من داخلك.



يربض على القلوب جاثوم الذل، ويستحوذ على التفكير مبدأ التشاؤم من سحابة أظلت بضلالها على أركان حياتنا وجنبات دنيانا حتى أصبحت حالة مرضية مستعصية العلاج حلت في القلوب وأنشبت أظفارها كشوكٍ انغرس في لفيفة قطن فإن أنت تركتها وخزت وإن أنت نزعتها مزقت. فتنظر لمن حولك فلا تجد كفاً يحمل شعلة التفاؤل أو قلبا أُشرب بإيمان الرضا.
هي نارٌ موجودة ولهيبها محسوس ودخانها متصاعد ولكن لن يُطفئها تعنيف، ولن يُخمدها عتب، ولن يهمدها توبيخ. فإن لم تحمل الماء ولو في كفك فستصلاك تلك النار وتُحرق جلدك وتخنُق أنفاسك .
في مجتمعنا لن تجلس في مجلسٍ أو تقعد في مقعدٍ إلا وتسمع مُنتحباً ينتحب. و مُتأوهاً يتأوه، وشاهقاً يشهق، وكأننا تربينا في كنفِ ناحبات ورضعنا حليب ناشجات.  نُحسنُ الصراخ في المجالس ونجعلها مصارخ، ونُكثر الجلجلةَ في الحُجرات ونجعلها مُجلجلات . نلعن حظوظنا وما حولنا ونبحث عن مِعلاقةٍ لآلامنا وضعفنا ونفتح الجرح ونستغرب الدماء .
الكثير منا ناقمٌ على المجتمع بكامل أطيافه وعاداته وطبائعه، وفي ذلك بعض الصحة فلسنا ملائكة السماء وأيضاً لسنا شياطين الأرض . فإن ساءك طبعٌ فغيره من داخلك أولا واجعل نقمتك ألا ترتكبه لاحقاً . وإن ساءتك خليقةٌ فاقتلها في نفسك تختفي عن الوجود. وكن أكيداً أن عصبية المجتمع الممقوتة ففي نفسك منها نصيب  وخطيئته الكريهة  ففي داخلك منها حظوة . فإن رأيت مجتمعاً جاهلاً فتعلم أو أحمقاً فتبصر أو أنوكاً فتعقل أو فاسدا فتطهر. فلا تطلب المحال في إصلاح الجميع ولكن أبدأ بنفسك و
لا تنهى عن خلقٍ وتأتي مثله .. عارٌ عليك إذا أتيت عظيمُ. .
نحتاجُ إلى مجتمعٍ يُشجع الأفراد على حسن التعامل وطيب الأخلاق واحترام الآخر بعيداً عن التحيز والتعصب لجنسٍ أو لون. نحتاج ثقافة الابتسامة والدين المعاملة، نحتاج ثقافة الطهارة في الأبدان والنظافة في المكان، نحتاج ثقافة بياض القلوب و نقاء الصدور من الحسد والنفاق، نحتاج ثقافة الفرح والغبطة للآخر عند النجاح وثقافة حسن التوجيه والإرشاد عند التعثر، نحتاج ثقافة حب لأخيك ما تحب لنفسك، نحتاج ثقافة التواضع ولين الجانب، نحتاج ثقافة الخشوع لله و الغيرة على المحارم، نحتاج ثقافة الخوف من الحرام والرجاء في الحلال، نحتاج ثقافة التعلم للنفس لا للآخرين والشهادة، نحتاج ثقافة ترتيب الوقت واستغلال المفيد، نحتاج ثقافة عدم الخوض في أعراض الناس والتفتيش عن مساوئ الغير، نحتاج ثقافة رِفعة النفس وسمو النظرة فلا نُفتي على مظهر ونحكم على ملبس، نحتاج تربية لا تسرق ولا تغتصب ولا تكذب ولا تظلم ولا تغش ولا تزدري. نحتاج نبذ المجاملات وتقبيل الأيدي والتصفيق للفاسدين .
إذا تصفحت تاريخ من سبقونا وأمجاد الحضارات البائدة والحاضرة فستجد أقواما تركوا الأقوال ولزموا الأفعال ولا رضخوا مثلنا لهوان النفس وذل الطبع وصَغارة العقل.
أتعلم أن صلاح الدين كان يلهوا ويعبث ويتبع الملذات فتاب وأناب وأصلح نفسه فقاد الأمه.
أتعلم أن (بيبرس) كان عبداً مملوكا فعاهد نفسه وقوَّمها فكان شجاعا مقداماً حتى طلق العبودية وتزوج المُلك فأصبح الملك بيبرس.
أتعلم أن أبا حنيفة كان فارها مُدللا وأصبح أمةً عالماً بالعلم والعمل والاجتهاد والإصلاح .
أتعلم أن هتلر كان جنديا فغير من نفسه فقاد ألمانيا وأصبحت من أرقى المجتمعات وأكثرها تحضرا. وغيرهم الكثير .
ابدأ بدائرة نفسك فإن نجحتَ فإن أشعة نجاحك ستضيئ الكون ولا تخف.


زوابع الفؤاد .





مع النشأةِ بصمةٌ متجذرةٌ لا تقتلعها آلة، ولا يمحو أثرها ريح السنين، كالنقش على الحجر والنحت في الصخر، عذراً فأنا مُخطئ فالحجرُ يتكسر والصخر يتحطم. بل هي نقشٌ بإبرة خياطة دقيقة الرأسِ على جدارِ قلبٍ كان ينبض بالأمل ويدفعُ الحياة دفعاً عسى أن يُحيي جسداً يتصارع صُبحه مع كتائب ليلِه.
أغمضْ عينيك فما إن ينغرس رأسُ الإبرة لتجترح النقش حتى تتنبه كل شعرةٍ في جسدك فتمدُ أعناقها لتستجلي ما الخبر داخل هذا الغضّ الطري الذي لا يملكُ درعاً يحتمي به ولا سيفاً يُدافع به رأس الإبرة وهي تمشي الهوينا تاركةَ أثر الدماء خلفها و خاطّةً ما يستحق أن يبقى نقشا أحمرَ قانياً.
طار غراب الرأسِ فارتقى الجرح وأصبح طَبْعي، والألم اعتيادي والمُخاضُ بطعمِ السُكر الممزوج بالهيروين المُخدر.
أتلذذ بِكَمِّ الألمِ الهاطل على بومة رأسي كتلذذ طفلٍ دفعته أمه في أقاصي الصحراء وبين جحور العقارب والأفاعي بقطعةِ حلوى مُثلجة أُعطيت له ساعة القيظ.
العيشُ بداخل كهف الظلامِ أجلى عن ناظريَّ السواد، والنومُ على وخزِ المسامير منحني أديماً يقيني خداع النسيم، والإنصات لأصوات القنابل من حولي أنعم على أذنيّ بالصمم، والتقام الحنظلِ أهدى لساني حراشف الأسماك.
 إن أبطأ عني التوجعُ هبطَ عليَّ الشوق وتملكتني الرعشة والهذيان فأبحثُ عن وجهِ الألمِ فإن وجدتهُ ما تركته إلا وأَرُفُّ شفتيه حتى ولو كنت مُحرماً.
نظرت في المرآة وحدقت ملياً وقلبتُ البصر فما رأيت بريقَ أسنان ولا تضاريس بسمة بل سِحنةُ الخريف بادية وأودية الجفاف وعروق الأشجار مُتكشفة. رضعتُ الحزن من ثدييه واضطجعتُ مع الأسى مهداً واحداً، فالتحفنا الصداع وتوسدنا المعاناة،حتى أصبح أُوَارُ(1) اللحظة قَرّا(2) ولسعةُ البراغيث شفاءً
الألمُ حياة والتوجع زفرةُ قلبٍ يتنفس، إن كان هذا دلالة الوجود وبرهان العيش فليكن. فكم من كائنٍ يمشي على اثنتين ولِدَ بين الموائد وانغمس في الشهدِ لا نعرفه ولم يقف الزمن عند لحظاته المملة، وكم هناك بالمقابل سِيرٌ تُقرأ وتراجم من نورٍ تُحتضن لمن عانى وشُرد وظُلم وقُهر وأُخضع وأُرغم وسُلب.
فلن أكترث إن كان الوجدُ قلنسوتي وسربالي، والضيمُ اصطباحي وغبوقي متذكراً أن التشكي لغير الإله نقيصه.
أغلق فاك، فحُزني يُدغدغ وشتان بين ألمٍ يَبُشُّ وآخر يُبكي، فالمهيمنُ مسحةٌ من جنون ومُطارحةٌ مع غيرِ البشر. ألم يقال أن أتعس الخلقِ العقلاء، فهات لي يا أميمةَ بأقداح الزوابع وهواتف شمهروش وميمون أبانوخ، فمُدامهم مُستساغ وفتاتُهم مُستطرَفة تجلو عني ما يُثقل وتُظهر لي النَّاجِع القراح.
في قاموسي أن عذاباً ينفذُ منه بصيص أملٍ خيرٌ لي من سعادةٍ يخنقُها نكد، وفي كل قرصةٍ خير، وبين لهيب اللظى سلام إن اعتدت عليه ووفيتَ له.

لا أحقدُ ولن أكره، فنشوتي مرارة الحرمان، ولهفتي ملح العيون، وشهيتي نحرُ جَزورِ الحُبورِ على شواهد القُبور وُدمتم في سُرورٍ يتلوه سُرور....



          1-      الأُوارُ، بالضم: شدَّةُ حر الشمس
          2-      القرُّ : البرد.

جُمجُمةٌ من حديد ..







لزاماً عليّ وفي مستهل حديثي أن أنطلق من قاعدةِ متينة أراها مناسبة للواقع والمقال وذلك لمنع المناوشات ودرأ الأخطار والمُهلكات وهي حديث رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم: ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأسِ كل سنة من يجدد لها دينها). وقد ذكر الكثير أن التجديد يُقصدُ به العودة للنبع الصافي والمصدر الزلال وهما (الكتاب والسنة) بعيدا عن شوائب التعصب والقُدسية والتقليد. فالتجديدُ سنة الله في كونهِ العظيم نلحظها تدبُ من حولنا ونشعرُ بها في كل مكان.
قلت هذا ونحن في مجتمعٍ نشأنا فيه صغارا نلعب ثم شبابا نتعلم ثم شيوخا نعجز نتلقى فيه سيلا جارفاً من الوعظ الإسلامي والإرشاد الديني والبيان للحلال والحرام ورسمٍ للطريق الذي ينبغي علينا السير معه وأن لا نزيغ عنه قيد أنمله. وعلى هذا السبب فالنتيجة الحتمية المتوقعة أن نكون على رأس القمة وفي قمة الهرم الاجتماعي والديني والواقعي والعلمي ولكن الصدمة الواقعة والواقع المصدوم أننا في وضعٍ نقبع فيه عند الدرك الأسفل من التسلسل الاجتماعي والثقافي والعلمي والعقلي بل وتحته قليلا.
الشرع الحنيف متين قوي، منزلٌ من لدن حكيم عليم على لسان صادق أمين، فيه الأسلوب الراقي والفكر الحر والتعامل الحسن والقيم النبيلة المبنية على قواعد صحيحة. إذن فلماذا نحن مخرجاتٌ ضعيفة، هشة، ركيكة، بائسة، نخاف العلم والتقدم ونخشى الإلحاد وداروين و انشتاين ولماذا نخاف أن تهتز فطرتنا الإسلامية أو أن تتكسر مجادفنا أمام أمواجِ الآخر. وما هذا إلا لجمودٍ هبط علينا، وانعتاقٍ ألم بنا من جراء التحجر البليد والتزمت العقيم في طريقة واسلوب وعرض الخطاب الديني المُفَسِّر لنا وجاهة وعدل وسماحة ورقي الفكر والمجتمع الإسلامي، خطابٌ عكس لنا قصوراً مُحرجاً في المحتوى وعجزا ظاهرا في المضمون وتهالكا عظيما في الهيئة، فمنذ أُغلق باب الاجتهاد الذي هو مصدر التجديد ونحن من هاوية إلى أخرى. تساؤلات تواجهنا كل لحظة فكيف تخلفت هذه الدعوة العالمية حتى أضحت وسيلة للعجز والغباء والجمود الفكري والاضطهاد المُجتمعي، وهذا يعود لسببين أحدهما هو الاحتكار من قِبل طبقة مُحددة والمناداة بالتخصصية المتزمتة، فاحتكار تفسير النص القرآني في حدود فكر واحد فقط سيخرج لنا تفسيرا واحدا فقط وهذا مناقض لمفهوم شمولية الاسلام وأنه صالح للجميع. وثانيهما: الإلزامية وتطبيق ما كان ينفع في وقت ما لا ينفع والاجبار وبالقوة على تطبيق مفاهيم ليست من أساسيات وثوابت الدين والتي بتركها لا يكون الخروج من الملة وإقناعنا أن التعديل عليها أو المساس بها وبقدسيتها لهو من مصائب الأمور وكبائر الذنوب، فالجميع أدرك أن طُرق الوعظ العتيقة والإصلاح البطيء والتقليد الأعمى لهي أمور عفى عليها الزمن، وفي التجديد تطبيق لسنة الله في كونه.
نحتاج ثورة ولكن ليس لانتزاع الدين فما هكذا قصدت ولكن لتجديد البناء وضم الفرع للأصل وإرجاع الابن لحضن أمه وأبيه. وتطليق الخوف والجبن المزروع في صدورنا من الخروج من دائرة الألفة المعتاد عليها.
نحن في عصر العلم والثورة وقد تبين لكل منصفٍ عدلٍ بأن العلم أبدا لا يتعارض مع الدين بل هما متلازمان متوازيان، ولكن لم نجد هذا في حلقات الذكر و خطب المساجد التي اكتفت بالمناداة والتأكيد أن الإسلام دين علمٍ وعقلٍ وفي الواقع يهاجم الاجتهادات وابداعات العقل الإنساني.
ينبغي أن تُنزع القداسة من التراث البشري لأنه بشري، فالشيخ ابن عثيمين رحمه الله كان قد شكك في حديث أورده (مسلم) على جلالة قدره وعظم شأنه ولكنها كلمة حق كانت في نفس الشيخ. وأيضا ينبغي الابتعاد عن الاكتفاء بظاهر النصوص والنفاد بعين العقل إلى المقاصد والحكمة من التشريع وفتح باب الاجتهاد والرفع من قيمة العلم وتوضيح تعدد المذاهب الإسلامية وإباحة التقييد بأي مذهب لا يخالف أركان الدين وأصول العقيدة.
إذا تجولنا في حدائق ماضية، حدائق اسلامية باهرة، جميلة المنظر، زكية الرائحة، حدائق المتكلمين والفقهاء والفلاسفة والمحدثين والمفسرين والقضاة لوجدنا النخيل الباسق والثمر الناضج والأوراق الوارفة. نجدها عند ابن الخطاب والنعمان ومالك وأحمد والشاطبي وابن حزم وابن رشد ونجم الدين الطوفي وابن العربي وأحمد بن دؤاد. ومن الحمق أن نترك كل هذا الجمال من أجل شوكة صغيرة في الطريق.
شبابنا في فراغ وصدمة متلازمين، فالفطرة الدينية عندهم قوية ضاربة في الأرض، ولكن لم يعد يملأُ قلوبهم هذا الخطاب الديني الهزيل، فما يسمعونه يصطدم مع الكثير من الجوانب الفطرية والانسانية والعصرية والقلبُ حتما سيبحث ليملأ هذا الفراغ. الشباب سيزيح سخافة الطرح وسُقم المقال في زواج الصغيرات وختان الإناث وإرضاع الكبير وأي جذور تتنازع مع إنسانيته وسيستبدلها بأقرب الأفكار والأطروحات البراقة.
في النهاية أتساءل هل ستعود الصلاة والزكاة والصوم جزءا لا يتجزأ من الحياة التي تربطنا بخالقنا لا كفرائض وواجبات تؤدى من أجل أن تؤدى؟ هل سنعود للقران لنقرأه بنظرة تأملٍ وتدقيق وبُعد نظر؟ هل سأسمع أن هناك مسجدٌ تكون فيه الخطبة باللغة الأوردية أو الإنجليزية؟ هل سأرى الخطيب والشيخ يعتلي المنبر وهو لا يرتدي شماغا على رأسه؟ هل سأقرأ في كتب التاريخ عن حقيقة النكبة والنكسة؟ هل سأقرأ في مناهجنا الأدبية رسالة (الغفران) و (التوابع والزوابع) و(لامية الشنفري) و قصص (يوسف إدريس) و (زكريا تامر)؟ هل سندرسُ الفلسفة ونعلمُ من هو (المعري) و (أبو حامد الغزالي) و (ابن رشد) و (ابن خلدون) ونعرف أكثر عن  (أرسطو) و (ديكارت) و (هيغل)؟ هل سيصدر قريبا كتابٌ بعنوان (تهافت الفلاسفة الجُدد) ليرد عليه الآخر بكتاب ( تهافت التهافت الجديد)؟

هل سيأتي يوم وقد خلعنا فيه جلباب الخوف؟ وأذبنا جُمجمة الحديد؟

( سَلْبٌ )




 بحثتُ في الصباح، 
في المساء، وعند الشجر .
حلقَ العقلُ ثم أطلقَ النظر.
غابتِ الشمسِ وطاف موعد السفر .
سِرْتُ الجبالَ والوهادَ والطريق الوعر .
في جوفي همةٌ لا تبردُ لا تتعبُ لا تستقر.
،
أخفوكِ.
غطوكِ.
كَفروكِ.
حجبوك كما الغجر .
دفنوك تحت الحجر .
،
مجرمون يخرقون المضاجع .
سفاحون ينثرون الفواجع .
،
أحفادُ أحفاد يهود.
نقضوا العهد والعقود .
أعلوا الجُدرَ والسدود .
مكَّنوا الوحشَ والقرود .
،
أين الزهور والإقحوان
أين لحظات السعود. 
أين الروض والسحاب ذات الرعود .
،
اقذفي يا سموات ومُجي الروح لا تُحتٓضر .
اقذفي يا سموات شهباً تخسفُ بمن غدر .
أمطري
نعم أمطري يا سموات قلوباً علَّها تعتبر .
قلوبا علَّها تعتبر.
،
ماتت الملوك وسئمنا البكاء .
دارت الأفلاك فهدمنا البناء .
ردمنا القليب عطشى للدماء .
،
سئمنا الشقاء
سئمنا الشتاء
نريدُ الضياء
نريدُ الضياء. 


مُوَاءَمَة





غُصْ جوفي لنجعل الدفئ نورا ، أَقبضُ معصمك وأُحيطُ بعنِقك والعين تُبحِرُ في العين.

أتذكّر حبيبي قبل أن أهنأ بقربك سنينَ ظلامي ولحظات عتمتي وخرفشة الخفافيش من حولي في سراديب الكهوف الملتوية حيث كنتُ أعيش. 

كم من صرخةٍ صرختُها وأنا قابعةٌ داخل الوجار، غاضبة آكل من نفسي حطباً لأتقيأه بعد دقائق جمراً يندفنُ رماداً. تتصارع ألواني القانئة وتتقاتل ويُجندل بعضها بعضاً لتمنح الظلام ظلاماً والسواد سواداً .

يحلُ ليلي فلا أنام قليلاً، فلم ينبتْ جفنيّ وأكره الدموع حقاً .
عندما أخبرتُك كم من أختٍ لي ماتت وانطفأت شمعتها من أجل دمعة ، فغرتَ فاك !

أريدُ أن أبكي وأٌحبُ الحياة رغم اللهيب .

كنتُ وحيدةً، لا أرى أبعد من مد يديَ، متكورةً أُصلي من حولي بلهبٍ لأطردهم عني خائفة أن تمتد إلي يدٌ عابثة تعبث بداخلي وتهتك ستري وتُحطم مشاعري التي حتما ستقع .
صرختُ : جوفي خِواء .

الذكريات تُنعشُ الأطباء، فتعال ( عشيري ) نطوف بالشارع قليلاً قبل بزوع الفجر. ما عدتُ أخشى الظلام.

أنت - حبيبي- كنتَ حينها على النقيض تماماً، كنتَ بالقرية المجاورة، كنا نُطلقُ عليكم ( قرية الصقيع ) تعبيرا عن غيضنا عندما تنادوننا ( سكان الظلام ). كنتَ في أيدي الرجال وأحضان النساء والأطفال وتطرد الشياطين. إذا هبط الليل تؤنس المحبين بقليلٍ منك فقط ، وفي النهار تُجلي الحقيقة .

كم أضحك عليكَ إن تذكرتُ لِين عطفك وهشاشة قَدِك وهُيامك بتقليد النساء، لو لم ألحق بك لرحل بك غنجُك من مضارب الرجال وألحقك بمخادع النساء .

ولكن أيضا أتذكر أنك تكره برودة جسدك وتبتغي الرُقي وتحدثُ نفسك: ( لما لا نجمع الآراء الأضداد ونولِّد فكرة جديدة ، سئمنا الاختلاف) .

فُتحت لي أبواب السماء بقدومِ رسالتك وأريجها الفواح وشذا طيبها العطر، تدعو للقرب وتشتهي الوصال .
جرَّتني الأيادي للاجتماع العاقر، تمددتُ على الطاولة للفحص، إنهم لا يكترثون بي، أُحلقُ فتختبئ الرؤوس. لماذا أخذتوني إذن ؟

مِنجلُ الاستحواذ يقتص الزهرة وأقفاص التعسفِ تخنِقُ الفكرة. الرحمة الرحمة .
انزويتُ، هربتُ، حثيثة الخُطى والأنفاس، حضنتك، مكنتك من نفسي، مزجنا الأخلاط بالأمشاج، طلقتُ وحدتي وظلامي، ملكتُ نورك .
مازلتُ في الوجار ولكن أرى أبعدَ من مد يديَّ بكثير.


ثمار رحلة عبد الوهاب المسيري الفكرية للدكتور ( عمرو شريف )


 
الدكتور عبد الوهاب المسيري عشقتُ فكره قبل أن أقرأ له، وجذبني نتاجه قبل أن أطّلع عليه، ذلك الدمنهوري النابغة، والمصري العبقري، والمفكر الجهبذ، والمسلم المُفكر. عاش صراعاً فكرياً تمخض عن عقلٍ جبار، ورؤية سديدة، وفكر ثاقب، ولمدة ربع قرنٍ من الزمن بدأه بسؤال الشك والحيرة والبحث عن إجابة لتلميذٍ يتملكه الإلحاح فاصطدم بمجتمع يحفظ ولا يُفكر ويردد ولا يُجدد. كانت حيرته عن الشر في العالم وما الحكمة من وجوده ولماذا الحروب والدواب والأفاعي والحسد والاستقواء والظلم وعن أصل الكون والإنسان. تساؤلات بديهية في مثل عمره عصفت به وحيداً كما تعصف الرياح بخرقة بالية، فكان الإعلان بمُقاطعة الصلاة والصوم إلى أن يجد الإجابة. وكأنه وهو في وسط هذه العواصف إذ تلقته ( الشيوعية ) بفكرها الساذج وإجابتها المريحة ونموذجها المادي المُختزل فوجد عندهم بعضا مما يريد وانخرط في الماركسية ومبادئها فأصبح مادياً ينظر لك شيء من منظار لينين واستالين.
ما كان المسيري يعيش عيش العبث الفكري والتقليد الأعمى حتى وهو في أحضان الماركسية فاصطدم بالتناقض بين المبادئ والواقع والمناداة بمشروع وتطبيق نقيضه. كان يملك المسيري نموذجا معرفيا واضح الأهداف بيّن الاسلوب فلم يقبل الماركسية، وعاد بالتدرج إلى ثنائية الإنسان ( المادة والروح) ثم الإقرار بالمصدر الغيبي ( الإله ) ثم النماذج الدينية واستقر به المطاف في أحضان الإسلام من جديد. كانت رحلة عقلية صرفة نابعةَ من التأمل والفكر والدراسة والقراءة والاطلاع.
في هذا الكتاب ( ثمار رحلة عبد الوهاب المسيري الفكرية ) يسرد لنا الدكتور عمرو شريف مائة وخمسين ثمرةً قطفها بيديه التي لا تخطئ الثمار اليانعة من حدائق المسيري الحياتية والدمنهورية والفكرية والتأملية و الترحال والهجرة إلى بلاد النور الأمريكية وكيف أن هذا العملاق المصري نزلَ بأرض الأحلام وشوارع التقدم وأنوار الحضارة فلم تُبهره ولم تنل منه بل كان ينظر لها بمنظار الواثق من نفسه، المتمكن من فكره، وبعقله الذي لا يقبل شيئا إلا بعد أن يعلم كيف؟ ولماذا ؟ ميز المسيري بين المادي والطبيعي وفرّق بين المتناقضات والتي كانت من فترة لأخرى تعصر به، فقد ذكر كيف أنه كان ينادي في مُحاضراته وينوه بمناقب الغرب المستنير وما فيه من تقدم وحضارة وكيف أن جانبه الآخر يعلمُ بأزمة الإنسان الحديث وتفتته واغترابه عن ذاته وطبيعته. عَلِم أن المجتمع الغربي قد اختزل نفسه في الإنتاجية وحسب، فالفرد فيه كالآلة يعمل لينتج فقط، وكلما زاد انتاجه زادت قيمته ثم إذا زالت قوته عن العمل أصبح كالآلة البالية المركونة في أحد المستودعات. وبسبب هذا المبدأ العقيم والنموذج المادي فالفرد الأمريكي مثلا يعيش كفردٍ دائم القلق أزلي البلبلة سرمدي الاضطراب، وهذا التذبذب في شخصه يجعله أكثر إنتاجيه على حساب الروح والحياة والإنسانية. فالتقدم العلمي الغربي مشبعٌ بالإيمان بمفهوم (التقدم) السريع بأي ثمن إلى أن تنامى هذا المفهوم وأصبح هدفاً بحد ذاته يحارب الأفواه المُتحدثة عن (تكاليف) هذا التقدم وغلاء ثمنه المدفوع من قيم الإنسان.
الإنسان عند المسيري هو أن يكون الإنسان كائناً حرا يصنع التاريخ وجزءً من الطبيعة ومستقلا عنها ولا يُمكن أن يُرد إليها، كائن له منتجاته الحضارية التي تمنحه خصوصيته القومية والإنسانية.
أما صراع المسيري مع الصهيونية فهي حياة بأكملها عاشها المسيري منذ صغره وحتى أن أهدانا موسوعته الشاملة الكاملة الماحقة الفانية للصهيونية (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية) والتي سلك فيها منهجاً مغايراً في التأليف، مع اتباعه لأسلوب التجديد والعودة بكل المصطلحات لأصلها من غير تزييف ولا نفاق، وليُعري هذه الصهيونية القميئة من انسانيتها المزيفة ومن حقها الدعائي الكاذب.
تجد عند المسيري منهجاً في الضبط قلما تجده عند غيره وهو التفريق بين المصطلحات الشائعة تفريقا علمياً فاحصاً فهو يخبرنا ماهي الموضوعية والموضوعاتية والواقعية والوقائعية والفكر والأفكار والحقائق والحقيقة، فله فيها فلسفة ممتعة جذابة تسلب العقول وتخطف الإدراك لتنير له دربه وتكشف له ما حوله فما يعود يمشي في دروب الظلام وصحاري القحط والوبال.
مما راق لي في قراءة سيرته الفكرية تفريقه بين العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية والتي فيها – ربما – بعض الحلول لبعض المعارك العصرية وهو أن العلمانية الشاملة أيدولوجية كاسحة لا يوجد فيها مجال للإنسان والقيم وتختزل حياة الإنسان في البعد المادي وحسب ، أما العلمانية الجزئية فهي تترك حيزاً واسعاً للقيم الدينية والإنسانية والأخلاقية المطلقة. أي أن تكون لديك القاعدة متينة من قيمك ومعتقداتك لمُعاصرة ما يدور من حولك من تقدم وحضارة. وأيضا ما ذكره عن حركة تحرير المرأة وأنها أصبحت حركة التَمركُز حول الأنثى وأن الأمر لم يعد حديثاً عن التحرر وإنما عن تثويرها ضد الرجل وعزلها عنه وأن الصراع أصبح بين الأنثى المسيطرة العنيفة المستقلة المتكبرة الباحثة عن المتعة وبين الأنثى اللطيفة المؤدبة الخاضعة وتكون النتيجة رجال يشربون المخدرات أو يراقبون تلك الأنثى من بعيد .

والخلاصة أن المسيري ارتحل رحلةَ أدرك من خلالها فشل ونقائض الحضارة الغربية وأن التعايش الثنائي ( الإنسان/ الروح ) هو الركيزة الأساسية لتعيش كإنسان إنسان. المسيري لم يرفض الحضارة الغربية برمتها بل يرفضها تماماً في قوالبها الجاهزة من غير طعم ولا رائحة والمفروضة فرضا على المجتمعات الإنسانية فهو يؤمن بوجوب أن نملك نماذجنا وقوالبنا الخاصة، لبناء حضارة مزدهرة تسمو بنا وتسمو بالبشرية جمعاء فنحن نملك العقل والمادة والروح والقيم. 


رجالٌ من التاريخ




إن أردت التاريخ فهذا مجاله، وإن أردت الأدب فهنا منبعه ، وكأنك تشربُ من جدولٍ ماؤه التاريخ وحوافه الأدب. في تناغم عجيب وتلاحمٍ ساحر بصنعة صانعٍ ماهر و مُحترف بارع. مع رجال من التاريخ و في ليلتين حلقتُ فيها مع الشيخِ الأديبِ المرحوم ( علي الطنطاوي ) رحمه الله في حدائقه ورياضهِ الغناء وعلى سفوحِ جباله الخضراء، يصعد بي واحداً ويهبط بي الآخر . حُزتُ الفوائد الشريفة وقطفتُ الثمار اليانعة ونلتُ الربح الوفير الذي لم أجدهُ من مطالعةِ كُتبِ التاريخ وتعقيدات المؤرخين، وزادني أن أذاقني إياها في كأس الأدب الطنطاوي الشفاف اللامع وأسلوبه البليغ المُقنع الدامغ.
كتابٌ كان حلقاتٍ في الإذاعة السورية فطبعها في كتاب قلما تجد نظيره و شبيهة . فيه سير الأولين وقصص اللاحقين ، فيه الموقف النبيل والمُقام الشجاع والرسو المنيع، تجد فيه الشعر الفصيح والطٌرفة الأدبية والقصة الشعبية .
هو كسفينة ارتحلت وطافت بك البحار المحيطات وزارت من الأرض الجزر الشرقية والشواطئ الغربية في رحلة سياحية ، مدفوعة التكاليف ومقبوضة الثمن، تتضمن برامجها إعمال للعقل و إظهار للفكر وانشراح للنفس مع طاولة للأكل طوال الرحلة تحوي أكل الهنود وموائد العرب وطعام الترك ومشارب من الأندلس والمغرب .
تقعد فيها مع الحنبلي حيناً ومع الغزالي بُرهة  ومع المُهلب لحظة ومع عُروة أخرى، تتعرف على أحمد بن داؤد و الأميرال أسد بن الفرات وقاضي قضاة الأندلس بن بشير ،  وخطيب الزهراء المنذر ، وسلطان الهند أورانك، وباني مُرَّاكش يوسف وشارح القاموس الزبيدي وقراقوش المظلوم و (رضية ) المنكوبة وأبو دلامة المُضحك والشاعرة التيمورية العاشقة المُحبة المحرومة الفاقدة. والشاعر الذي رثى نفسه، وأيضا تلتقي بسيد شعراء الحب العذري الشريف الرضي. لن تمل الرحلة ولن تضجر من السفينة ولن تحقد على القبطان، فلن تجد رحلةً مثلها ، ففيها بصمة لن تراها عند غيرها وفيها دمغة اُختصَت بها عمن سواها .