شالدران .






بالشين كانت أم بالجيم، فما هي عندي إلا راية حقٍ رُفعت، وصرخت رجلٍ دَوَّت، ونُصرة مظلومٍ سُحق من أجلها أربعون ألف جمجمة. شالدران لم تُكبرها لنا عدسة، ولم نقرأ عنها في مدرسة. فاليوم وإن هناك من يتغنى بحملات نابليون ومعارك هتلر وفروسية هانيبال، فليفسح لي ولو للحظة بالتغني بما هو حق، والتطرق لما هو أعظم من أن تستره كفٌ من أصابعٍ خمس، أو يحجبه عنا لمعانٌ من قرصِ شمس.
عندما كانت رايات الجهاد العثمانية تبثُ أريج (لا إله إلا الله) في كبدِ أوروبا، والناس يفرون من تعسفِ البابا ونواقيسه، إلى حدائق الإسلام وبهجته. كان على النقيض وفي الطرف الآخر من يُحدِق بعين العِداء ويمكُر بعقل المقت وينَقِب عن فرصةٍ تلائمه ومغنمٍ يغنمه من دولة الإسلام، فأنشأ مذهبا يُضاد به (آل عثمان) ويتميز به عنهم، وهو شاه الباطل ومؤسس الصفوية (الشاه اسماعيل).
وكأني بهذا الشاه وهو ينشر التشيُع بحد السيف وقوة السلطان وظلم الجبابرة، فزاوج بين تعاليم التشيع وما تعلمه من الصوفية الفارسية وبين القومية الفارسية التي تدعو بالاعتزاز بالهوية الإيرانية وتفضيل العجم وتمجيد الأكاسرة، فأمر أتباعه بالسجود له وابتدع سب الخلفاء الثلاثة وجعله هو المحك والحكم الذي يُعلن به الناس عن موافقتهم لصفويته المزعومة، ومن أبى فوداعا لرأسٍ كان ينتصب على الجسد.
أقول كانت هذه الصفوية تغرسُ خِنجر الغدر في ظهر دولة الإسلام وتُزاحمها على حدودها وتُأجج عليها قبائل (القزلباش) المتاخمة لها، وتناصر البرتغاليين الذين أرادوا نبش قبر الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، بل بلغ بالصفويين المبلغ أن استولوا على بغداد ولم يقتصروا على الدخول فقط بل أقاموا مجزرة في أهل السنة في العراق بعد أن سفكوا دم ما يقارب من مليون سني في إيران، ثم نبشوا قبر الإمام أبي حنيفة وأخرجوا عظامه واستبدلوها بكلب أسود، لم تكن إلا حربا وقودها الغيظ و خيولها البُغض ورماحها الحقد على الدين وأهل السنة. وفي تلك الأثناء كانت دولة الإسلام مشغولة بممالك النمسا وهنغاريا وروسيا وعلى رأسها ومالك زمام أمورها الشجاع والد الشجاع (سليم الأول) تاسع (آل عثمان) وفاتح الشام ومصر وناقل الخلافة إلى الترك. لا أكذب فقد أشغله في البدء قرصات سفيه الصفوية (الشاه اسماعيل) وآذته في ظهره فجعله في رأسه ولم يستعجل، فأطفأ شعلة النار في بيت السلطان، وأمسك عنان المُلك وشمل الأوطان، ثم نظر حوله فأقام هُدنة مع ملوك أوروبا ليأمن الجانب ويسلم الغدر، ثم شد خطام فرسه وأداره من الشمال إلى الجنوب، ثم أقبل كسيل جارف وموجٍ هادر تسوقه عزة الإسلام و تقوده الرغبة في توحيد البلاد وتطهير المساكن والمقدسات. فأرسل رسالة للصفوي تنضح ثقةً وتَقطُر صدقاً يقول فيها: (أنا سيد فرسان هذا الزمان، وحقٌ علينا أن ننشط لحربك ونُخلص الناس من شرك)، فلم يأتي الرد فأتبعها بأخرى باللغة التركية مُخضبة بخضاب الموت ومنقوشة بلون الدم يقول فيها: (إن كنت رجلاً فلاقني في الميدان، ولن نمل انتظارك) وجعل معها ملابس للنساء وعطورات استهزاءً بالشاه اسماعيل.
وعندما وصلَ إلى (شالدران) وفي الصباح، دوت أصوات رعدِ مدافع آل عثمان، وماجت صرخات الإنكشارية الشجعان، وتعانقت السيوف، وجُندلت الصفوف، ووصلت السماءَ التكبيرات، فلاذ الصفوي بالحجرات، تساقطت السماء شهباً، وأُلهبت الأرض شررا، ثم بزغت شمس النصر وهبت نسائم الفوز وبان الحق وزهق الباطل، هرب (الشاه اسماعيل) من (شالدران) وترك وراءه أهله وجيشه، فدِيس على رقاب من سبوا الخلفاء وهُشمت جماجم من حارب الإسلام وأُخذ بثأر شهداء بغداد، ورُدت كرامة أبي حنيفة.
الصفويون ظلموا وطغوا وتجبروا وحاربوا الله ورسوله بغريزة الوثنية والحقد والكراهية للدين والعرق، فأذاقهم الله شرا مستطيرا. وفي ختام (شالدران) عاد (سليم الأول) بالنصر وبالأسرى وبينهم زوجة (اسماعيل الصفوي) ونكاية به زوجها بكاتب من كُتَّابه، وأيضا عاد (الصفوي) مطأطأ الرأس، جارا أذيال الهزيمة وظل يعاقر الخمر بقية حياته من شدة الكمد والحنق حتى هلك.

جميلة هي لوحة الانتصارات بجمال عزتها، وصور الظفر برونق شموخها، وأسطر الغلبة بروعة رفعتها. رُد كيد الصفوية وجثموا قرابة المائة سنة، ولكن نار الحقد لم تنطفأ وأعين السخط لم تُفقأ ورؤوس الانتقام ما زالت كرؤوس الشياطين، فعادوا اليوم كما كانوا بالأمس لأننا لم نعد نحن كما كُنا، بل وبطمع أكبر وهمة أعلى وتخطيط أدق وجيوش أعظم. عندما أخذنا بأسباب النصر انتصرنا، وما طرائق الهزيمة ببعيدة عن ناظرينا. هذه معادلة التاريخ، والأيام دول لمن لا يرعى حق نفسه وحق شعبه وحق عرشه، فلا أسمعنا الله صرخات الثكلى ولا عويل اليتامى بين ظهرانينا. وليس بغائب عن صاحب النظر أنهم أحاطوا بنا ليس كما يُحيط السوار بالمعصم بل أضيق دائرةً وأشد إحكاماً، فواجب علينا التنبه والاستعداد والتكاتف ونبذ خلافاتنا فالعدو واحد، وإلا سنقول ( شُنقتُ يوم شُنق صدام ).

قرار ملكي





قَطِّع، قَسِّم ، جَزِّء ، اسرق ، كُل، اغتصب.
كعكة، فطيرة، شطيرة، خُبزة، كِسْرة، شرف !!!
اغمسه في الترفْ.
ثيابُ قارون التحفْ.
صَرفْ.
غَرَفْ.
مألوف، دارجٌ بينهم في الغابة.
انحرَفْ.
يا وزير، امنحه الشرقيَ من البلاد.
وألفاً من الجياد.
جدته ( نوره) وهو من الأسياد.
وباقي الشعب أسقطهم تشاد.
انظر هذا ( الدُرُّ ) وهذا ( الكهرمان)
هذا (مُريح ) وذاك ( خالد ) و( مشعل ) والأخير (منصور ).
لم يهبط مثله على مر العصور.
رُكن الأمه وعماد الدين، كعمه المنصور.
علماء وربك، حكماء، أتدري أنهم كلهم وزراء.
كُلهم وزراء.
كُلهم وزراء.
أبوهم ملك، صحيح.
إنها الأمانة والترشيح
ترشيح، ترشيح، ما من قطُ تشريح.
ولك أن تستريح.
أنا أكره المديح.
لا تُطلق سهام فكرك أيا مواطن.
اجعلها في الكنانة.
قيد بعيرك نحن أمراء البواطن.
نحميكم يا سفلة.
من أنفسكم يا جهلة.
لنا الصدارة والسماء.
نحكمُ،
نقتلُ، نزني.
نمنع عنكم الماء.
نحن الأمراء.
نحن الخلفاء.

يا تعاسة الجبناء.

وكزةٌ في جنبِ مزهرية .








ما إن وضعت اصبعها السبابة وسمعت صوت رنة الجهاز الذي يُنبئ صاحب الجاكيت والكرفتة المزركشة أنها ولجت كهفها اليومي الذي تتزاحم فيه الدوائر السوداء أمام عينيها مُعلنة طقوس وخزات الإبر التي تتلقاها كل يومٍ ماعدا يوم الجمعة حتى أدركت أن كل من في هذا المبنى يحتقرها.
كانت تستديرُ وراء حاجز الاستقبال تبحثُ عن نفسها التي فقدتها بذات الإصبع التي عانقت القلم لترسم خطوطا متقاطعة تُعلن بها انتحارها.
تقفُ كل غسقٍ أمام المرآة لتملأ رئتيها بكل الهواء المُهيأ لها، وتُسبل جفنيها لتتدحرج دموع الحنين على وجه كان متوردا نضارة وخدودٍ اشتاقت للورد القاني والذي تكفلت بإسقاطه الأيام لتكشف أوراق الخريف وعواصف البرق الشاتئ، كان فقط بكاءً أبكم.
تتبرج بالقليل فلم تعد تجد من يستحق الكثير. تضع يدها على صدرها فيلتهب ضميرها ناراً تأكل كلَ ما في المرآة، ترتدي السواد الذي مزقته قبل أشهر. يرتج لحمُها متوجهة على الطرقات المنقطعة والموحشة، وحيدة إلا من مرآة السائق التي تلتهمها، لم تعد تشعر حتى بالمقعد المهترئ من تحتها. لم تقوى على مقاومة تلك الابتسامة الصفراء التي افتضت مبسمها  لتثير ضحك فؤادها على عقلها الذي رأى في صكوك الغفران و سماع خشخشة المال مفاتيحا للولوج لحدائق البهجة والصفاء ودكاكين الرجال ومراتع الرقص في الخلاء.  
تمر عبر نفس الصحراء التي تُحادثها كل صباح، وفوق نفس الأفعى السوداء التي ابتلعت والدها، وفي هذه اللحظة احتل رأسها امنية أن تجد فم الأفعى، واشتهت دخوله لتبحث عن أسوار الأمان. ترجلت عند ذات المكان الذي تقف عنده لأداء صلاة الفجر. جدران المصلى الصغير كان قد حفظ عن ظهر قلب صورة الفتاة التي تمزقت وحفرت بأصابعها حفرة للأشلاء.
صوت منبه السيارة يُزعج الكثبان والحصى وهي أيضاً، هو ذات الصوت الذي يرتسمُ أمام وجهها قبل النوم كذَكرٍ طويلُ الأنياب، حاد الأظافر، تتقطر الدماء من تحت شعره ويلوح لها بوقت العمل.
تحيي الزبائن المبكرين بحروفِ ألمِ الألم وغصة الموت وحنق الحاضر، صوت الهاتف ما عاد يفزعها، تمتد يدها كآلة لتجيب وتتحدث مع قليل من أداء واجب القهقهة، لم يزد في أجرها، فمها لا يفوح بالرائحة ومع هذا فقد أصبح عُمرها أكبر من قهقهة.
تلتفت لصديقتها بجانبها والتي تحمل نفس فصيلة الألم، تسألها فتجيبها على عجل وهي تشمُ رائحة الأنين المتعفن: فقط أغمضت عيني وأشحت بوجهي لأتركه يسرق مني ما أراد، فقط ارتديت ملابسي وعدت وراء حاجز الاستقبال. لتعتريها مسحة المشاعر الحقيقية للمهانة.  
صدى صوت التهاني بالمنصب الجديد يضرب حِيطان الممرات حتى يطرقَ سمعها، تموت أكثر مشاعر العزاء داخلها، يضحكون من حولها من غير حناجر، الكل واضح الأثر عليه مكان اجراء عملية الاستئصال. بيادق!
تصفق بفخذيها وتسأل نفسها: هم أعلم ما كان القربان؟ تناجي روحها التي تحت المقابر: لماذا هم صامتون؟ لماذا المشي أصبح على الرؤوس؟ والمصانع أيضا أصبحت تصنع أحذية للرؤوس؟ وأغطية للأقدام؟ البكاء نجاح، والفرحة شماتة، والذل سُلم. تناولت المرآة الصغيرة المتصدعة وحقيبتها لتصعد السُلم والذباب يلتصق بأردافها وقد تركت روحَها المخنوقة حد الموت خلف حاجز الاستقبال.
رائحة نظافة الممر تُخفي أبشع القاذورات خلف اللوحات المتعلقة بمسامير هشة تخترق الحيطان مُحدثة ندوبا لن يغطيها التابوت. ورقة التعليمات تقدحُ شرارة الحريق بأنه إذا وصل صاحب اللحية الخفيفة المشذبة فيجب اسقاط القلم على الأرض ثم الاستدارة للخلف والركوع لرفع ذات القلم فلا نريد شكاوى من قلة الذوق.
الضحى، الظهيرة، آخر المساء، بعد العشاء، يهزها السائق عبر الطرق المُظلمة هناك حيث الاجتماع، يجب أن نرفع الأوراق الخضراء حتى ولو كانت مهترئة وممزقة فقط يجب أن تكون خضراء .
تعود بيتها لتقضي ليلة أخرى تجر فيها عربة ألمِ الجرحِ النازف وتمسحها بمناديلها المُعقِمة، لا تملك الصوت ولم تعد الأصابع تثير النشوة، فقط تأملُ في أصابع من غير أظافر حادة تجرحها، كانت الأرض رخوة لا تشعر بها.
ارخت رأسها على وسادة الفئران، وارخت معها جفونا لا ترتخي، رأت في منامها الذي يُماثل اليقظة صورةً لمزهرية منمقة، فاتنة، وكأنها البدر في جلائه، منقوشة بنقش اسلامي أصيل تتماوج فيه الخطوط مع الدوائر عبر خلفية بيضاء لتتقاطع عند ألوان زاهية بنفسجية براقه، كانت المزهرية صغيرة القاعدة ثم تصعد قليلا لتنتفخ بانسيابية هندسية غير مزعجة لتصل لفوهة صغيرة كأنها المبسم الساحر، يشع منها النور ولم توضع بداخلها الزهور. كانت في حضن عجوز جليل فتلقفها منه صاحب اللحية الخفيفة المشذبة ليضعها على حافة طاولة الطعام لتأتي هي وبعصا طويلة وتنكزها مع وسطها لتسقط على الأرض التي ما عادت رخوة وتتحطم لأشلاء تتناثر تحت أقدام المارة.. لم تستيقظ من نومها فلم يكن الحلم حتى مزعجا.



زفرة عربي.




فرّ الأكسجين وولى وأدبر، وأضحينا كائنات لا تستنشق ولا تتذوق. افتقدنا البضاعة الأصيلة والفرس الأصيل والبائع الأمين والسوق النظيفة والعذرُ أن الزمان أراد هذا والقدر أصابنا بما لا نقوى رده.
نلجُ سوق الإعلام المرئي فنرى الهزيل والضعيف والعوراء والعرجاء وهذا مُستنكر ولكن الأشد نكراً أن الهزيل يرى في نفسه البدانة، والضعيف الشدة، والعوراء زرقاء اليمامة، والعرجاء تُسابق الشنفري، فأضحى الرائي مُرائياً، والشاشة هَشاشة. فيُراودني لماذا يُقدَّم السُّم مع وجود الشفاء، والآسن مع توافر العذب، والنتن عن المستطاب. ثم وزيادة عليه ها هي تلك الموائد عامرة، وبالزوار مزدحمة، والطرقات إليها تعج بالرائح والغادي.
وذات الكلام عن المقروء والمسموع فقلما تجد كاتباً يُتقن ما كتب، أو مذيعاً يعرف بما نطق. تقع عيناي على صفحات الصحف فأدهشُ من بعض ما كُتب فيها ويوصفُ «بالجزالة» فإذا به «سخافة» وأُقلبُ عن «الحصافة» فأجد «الجهالة» وما هذا إلا من أساليب ابتدعوها ومصطلحات ابتكروها، فتصرخ واسيبويهاه واجاحظاه.. وأتنقل بين محطات الإذاعة فلا أسمع إلا صراخاً في مسابقات سخيفة وضجيجاً في برامج بلا محتوى فهذا يتغزل في تلك وتلك تتغنج لذاك.
كنتُ مبهوراً بقامات أيامَ الظلام التقني والانكفاء على حدود القرية وقبل أن تنكشف السماء وينقشع الغمام، فانكشفوا في عصر النور وشبكات التواصل فرأيتهم يهرفون ويهذرون، إن ناقشت أحدهم استكبر وأبى، وإن أخبرته ولى وعصا، كأنه كوكبٌ في السماء لا يقرب الأرض ويتنزه عن تربتها. وآخر له حروف جميلة ونُمْرُقة مزخرفة في الصحافة، فإذا أنشأ وَشَى وإذا عبَّر حبَّر، ولما زرته عند «تغريداته» فإذا العلقمُ يُصب صبا، والمُر يُسكب سكبا، فالهاء عنده تاء، والقطع في مذهبه وصل. وهذا يدل على أن خلف السُّتر ما خلفها، فالأقلام تتناوب والأوراق تتبادل ومرة تُمسكُ لي ومرة أقطعُ لك.
لستُ هنا لأُحلل وأنقد وأَميز الخبيث من الطيب فما هي تجارتي ولا أملك المال لأقتنيها، ولكن السيل بلغ الزبى، وزفرة بالصدر ضاق بها المكان. ولهذا فقد أُعيدُ الأمر لبعض الأسباب وليس جُلها، فمنها أن بين ظهرانَينا عظماء أدباء ومثقفين، أنوفهم أنفت الرائحة وأقلامهم أبت أن يسيل حبرها على صفحات كهذه فتنحوا وخلت الساحة للمتسلقين. فأدعوهم للعودة لنجدة العربية من أهل العربية. فإن صلصلت سيوفُ الكبار خرست طبول الجبناء، والبُغاثُ أبدا لا يستنسر. هذا بالإضافة إلى أننا ما زلنا في حاجة للتعلم والتعلم والتعلم فلا نقتحم مكاناً إلا عن دراية ولا نركب صعباً إلا عن تسلح وشجاعة، ومن المفيد النافع الاطلاع على أعمال من سبقونا، ففي كل عِلم رأسٌ ولكل جبل هامة، فخذ منه وانتفع، وارتق بوعيك وارتفع. نرسمُ لأنفسنا خطا يميزنا وهدفا نرجو بلوغه، بلا تقليد ومحاكاة بل تجديد برائحة السالف وتحديث بعبق الماضي.
لن نعيد زمن الرسالة والثقافة العربية والفكر المعاصر والمنار والعربي واقرأ أو نُنتج مثل المناهل ومدينة القواعد والحروف والعلم والإيمان ولكن نستطيع أن نقرأ ونشاهد ونسمع أفضل منها إن وجد الإخلاص التقي والهدف الأسمى والتفاني المُثمر والاحتساب لقابض السماء والأرض، لعل قلما يبرز فيجندل الخصوم ويسحق الأعداء ويحطم الأصنام أو لسانا ينادي بانتصار الحق وزهوق الباطل وهلاكه، وما ذاك على الله بعزيز.


نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (٩٢٦) صفحة (١١) بتاريخ
 (١٧-٠٦-٢٠١٤)


عشرينيات العشرين




سألني ذات مرة (عشيري) عن ماذا لو عادت بي عجلة الزمان وغاصت بي سراديب السنين والدهور والأيام ففي أي عصرٍ أريدها أن تقف وفي أي مكان أود أن أختار؟
فقلت له بلا تردد فالحلمُ كان في رأسي قد عشعش، والأماني في صدري مستوطنة وما جرى على لسانه معي كان يجيش في خاطري منذ زمان!
أجبته والحسرة على محياي، هي القاهرة ساحرة عقلي وعينيّ، وفي العشرينيات من القرن العشرين غاية منتهاي. فالقاهرة للأعادي قاهرة والنيل هو:
النِّيلُ العَذْبُ هو الكوْثرْ والجنةُ شاطئه الأخضرْ
ريَّانُ الصَّفحةِ والمنظرْ ما أبهى الخلدَ وما أنضرْ !
فسرح خاطري وجال، فإذا أنا في شقة العقاد، استنشق الغبار وأتصفح كتبه وأتقلب داخل مكتبته الوارفة وعلى أوراقه البسيطة، أقرأ اسم (سارة) وأنعم وسط ديوانه وشعره. أراه غاضباً كعادته مُكابراً معانداً، أسمعه يصرخ ويقول (ومن الذي يختبر العقاد؟). وبجواره طالبه الفيلسوف الذكي المُفكر (أنيس منصور) وعلامات التيه والحيرة على محياه..
ها هو العقاد يُنشد بحزن وشجن أبياته في (مي زيادة):
أين في المحفل (مي) يا صحابِ.
عودتنا ها هنا فصل الخطابِ.
عاملني بالكرمِ بما لا مزيد عليه، وطلب مني المقام عنده فتحججت. خرجت من صالونه لألتقي العميد (طه حسين) لأَدلف شقته الأنيقة الناعمة الهادئة المُلهمة، هو قابعٌ يقرأ ويكتب ويغوص في الأدب والشعر الجاهلي، ناولني سيرته (الأيام) وكتبه (الشيخان) و (الوعد الحق) و (دعاء الكروان) ولما وليتُ منه نصحني وقال: ويلٌ لطالب العلمِ إن رضي عن نفسه.
أسعى للرافعي، ومن الرافعي ووصف الجمال وفلسفة الجمال وجمال الجمال؟ عبقريةٌ فذة في صوغِ الصور من المعاني وتوظيف المعاني لوصف الصور، جلست عند ميمنته فأنشد:
يامن على البعدِ ينسانا فنذكره
لسوف تذكرنا يوماً وننساك.
إن الظلام الذي يجلوك يا قمرُ
له صباح متى تدركه أخفاك.
شكواه عن المساكين وحديثه للقمر ومناجاته للسحاب الأحمر ووحي القلم له ورسائل الأحزان وأوراق الورد وتاريخ الأدب، كل هذا يُخبرُ عن جبلٍ أشم وشامخ يعلو فيعانق كبد السماء فهو صاحب مبدأ وتُقى وورع.
سألته عن خلافه مع (العقاد) ومع (طه حسين) وعن رسائل الحزن فما أجابني وانكب على السفود ليُكمل شويهُ للعقاد واللهو به. تركته بين أوراقه وقصائده لأرى بالقرب (نجيب محفوظ) يراجع روايته (عيال حارتنا) فاقتربت وسألته لماذا يا نجيب؟ أنت سماءٌ في الأدب وبحرٌ في المعاني فلماذا قتلت الجبلاوي وهو حي لا يموت ؟
أخذتني قدماي في شوارع القاهرة وانبهرتْ عيناي من رؤية ما يُسمّى (القطار)، لم أكن أعرفه في المستقبل فأنا في السعودية! يا لهذا الحظ المبارك فها هو الدكتور (زكي مبارك)، جالساً على الحصير وماداً قدميه مُحتضناً كتبه ومعه تلك النظارة السميكة، هل أناديه الدكتور زكي أم الدكاترة زكي، سألته عن (عبد الرحمن بدوي) فقال هو ما زال صغيراً مالك وله؟ لم أخبره بما سيكون هذا (البدوي) فآثرت الرحيل بعد أن قبّلت رأسه وقلت له: لقد أجدت وأجدت ونفعت وألهمت.
التهب لهيب شوقي، وأنا أبحث عن أحمد شوقي، شاهدته راكباً إحدى مراكب النيل وبجواره العظيم حافظ ابراهيم، كان شوقي أكبر من إبراهيم بالعمر ولكنه يجله ويقدره وبينهما طُرفةٌ ومزاح، فصدح حافظ إبراهيم وقال:
يقولون إن الشوقَ نارٌ ولوعة
فما بال (شوقي) اليوم باردُ.
فابتسم شوقي وهو ينظر إليّ وقد عرف أنني من غير المكان وقال:
استأمنتُ الكلب والإنسان أمانةً
فالإنسان خان والكلبُ (حافظُ).
تركتهما وأنا على عجل، فالموعد مع (إبراهيم المازني) قد حان وقرب، جالسته ليُعلمني استخدام الصورة في الشعر حتى يَبين بها البيان ويجلو المراد. أهداني (حصاد الهشيم) و(خيوط العنكبوت) وديوانه. أنستُ معه وقتي، وتركته وشوقي أعظم وحنيني له أكبر. سألني قبل الوداع هل قابلت المنفلوطي الذي ملأ الأبصار والأسماع؟ فكأنه أفاقني من غفلتي، وذكّرني بمن عنه لَهت ذاكرتي، هرولت لأستاذي في المقالة ومُلهمي في الصورة والعبارة، طرقتُ الباب ودخلت وعانقته وقد كان هادئاً رزيناً يُراجع (النظرات) ويُقلب في (العَبرات)، أردتُ البقاء ولكن الوقت أزف فاستعجلتُ لبنت الشاطئ بنت عبد الرحمن، تلك المُفكرة الكاتبة الاستاذة، أخبرتني عن جامعة الأزهر وأفادتني عن المعري ورسالته الغفران. أسابق الشمس المتعبة من طول النهار فرأيت (سعد زغلول) فكرهت اللقاء وآثرت العودة عن البقاء.
أفقت من حُلمي وعانقت (عشيري) بطرفي، فقلت والدمع فياض: تلك هي القاهرة التي عشقت، وتلك هي الشوارع والصالونات والمنتديات التي تمنيت، تلك القاهرة التي أعرف، والمجد الذي طال وأشرف. ساحات حرب النبلاء، ومعارك الأدباء. منها تَضَمَّخ الحرفُ الأصيل والمعنى العتيق الجديد والأسلوب الأدبي الرفيع. هؤلاء أساتذتي فأخبرني أنت عما سألتني عنه؟
فاستحيا واحتشم، فما بعد هؤلاء يُذكرُ اسمٌ ولا ينقشُ وشمٌ. وولّى وهو يقول: عليهم رحمة الله، عليهم رحمة الله.

الزلايب المُستضبعة .





أسوقُ العذر مُقدَماً، وأجتلبُ العفو مُعظِماً، القراء الأفاضل والأخوة الأكارم، لِعنوانٍ مُهلْهلاً كتبته، وأحرفٍ عامية نسختها تَقَدمت مقالي، ولكن عسى أن تجدوا لي بين طيات عفوكم صفحاً وفي شمائلكم حلماً وصبراً. فأنا ثائر مُغاضب لا غير.
من أسوء ما تراه في بني جنسنا ما أسميته ( ذو الدّجلتين )، دجَّالون عياناً، دجَّالون إضماراً، يتسلقون الأسوار ويقفزون الدور، بِخُبثِ سريرة وسفالة هيئة، يُحاك في صدورهم الإثم والعدوان بعد أن رضعوا ألبان الثعالب وربوا جحور الأفاعي، طلقوا الإنسانية طلاقاً بائناً والتحفوا الشعر والصوف كقطة تلتصق بك ثم تخدشك وتصيبك بالمرض. جمعوا بين خصلتين أحلاهما العلقم، فإلى نفسه الضعيفة وهوانه بين الرجال المُبصرة و ( زلابة ) قدره ومكانته جمع إليها خصال الضبع آكل الجيف المتطفل على البقايا والقَمّام للقمامة.
مثل هؤلاء من يولون المناصف فيستغلونها لإشباع شهيتهم المريضة وملأ قلوبهم الخاوية إلا من النتانة والزناخة والعفن.
الإعلامي شريفٌ في مكانته صادقٌ بكلمته يحسبُ للفضيلة حسابها ويؤدي الأمانة حقها. فإن زاغ أو مال فيجب الضرب عليه من حديد والتنكيل عليه والتضييق، ليستقيم أمرُ هذا المنبرِ وتتساقط الهوام عن سناء ضوئه وجلاء بدره.
الإعلامي إن استغل إعلاميته بما يُخالف شرف المهنة ويُعاكس إخلاص قلمه فما هو إلا من بني ( الزلايب المستضبعة) . ومثله مثلُ الطبيب المُستغل والمسؤول المُستثمر والموظف المُنتهز، ولكن اخترت الإعلامي هنا لما وصل إلى سمعي بالأمس من قيام واهنٍ حمل قلمه بغياً وهزيلٍ أخذ الصحافة جبراً بتهديدٍ لنساء ضعيفات وإرهابٍ لبنات شريفات بكشف ما لا يُكشف ونشر الأرقام وتخويفهن بصحيفته ومكانته ليجلسن إليه ويتحدثن ويتسامرن وإشباع لحيوانيته، فكشفه الله لسوء خبيئته، و ضآلة قدره، وما هذا إلا بضاعة الكاسد وصغارة النفس ورذالة الطبع.
الأنثى قارورة تُعزُ من عزها وتُذلُ من ذلها، ولا يستأسد عليها إلا جبان ولا يستغلها إلا عاجز ولا يهينها إلا دنيء. فعار عليك ما صنعت أيها المُصْتَصحف ومسبةٌ لك لن يمحيها تزلف المتزلفين، ومَثلبٌ سيرافقك أينما حللت.

الشرفاء لن يسكتوا والحكماء لن يغضو البصر فالجميع سيصرخ بالصدق ويُطالب بالحق، فالعربي قد يسكت على الضيم ويتحمل الأذى إلا إذا شارفت على حدود شرفه وكرامته. وما لحق بنا من بلاء إلا ممن حمل القلم وهو منه براء واعتلى منبر الصحافة وهو أحقر من أن يصعده.

تسوييد بلا تبييض.



في شهر فبراير من العام الماضي دوت أصداء صحفنا المحلية ومجتمعنا بأحداثِ تهمة الفساد والرشوة والغش التي نُسبت إلى منسوبي إدارة التربية والتعليم في منطقة حائل متمثلة في رئيسها والقابع على قمة هرمها يومئذ الأستاذ: حمد العمران.
وقبل الخوض فالمسلمُ ليس من أخلاقه الشماتة بأحد ولا الاستهزاء بأخ و لا التهكم بظالم أو مظلوم ولا الفرح بمصيبة تقع أو تهمة تُدفع. هذا إلا أن المجتمع – أي مجتمع – فيه من التفاضل والتباين في الأقدار والأرزاق والقامات والسمات والأخلاق فهناك الشريف والصادق والخائن والكاذب. وكلنا يجمعنا مسكنٌ واحد ووطن أُم نقفُ عليه وقفة الأمانة وموقف الإخلاص ونعتنق الشرف وننبذ اللُؤم فهذا واجبٌ يُحتمه الواجبُ نفسه وقبله الدين والخُلق العربي. نحن وكلاً بشخصه وموقعه على ثغرٍ يسده وبابٍ يحرسه، ولن قوم لنا قائمة إلا بسواعدنا مُجتمعة وأكفنا متلاحمة مُلتمة، وزراء وأمراء ورؤساء وقضاة وموظفون وعمال نستأصل الورم الخبيث والجرثومة العفنة من مكمنها ولو كان عسيراً وفرض الحق على كل ظالم أو باغي.
عودٌ على أوراق القضية والتي نشرتها بالتفصيل صحيفتنا صحيفة الشرق في عددها ( 451) والمؤرخة في ( 27/2/2013) والتي أبانت أن في أعطاف القضية قضايا وبين السطور بلايا ففيها وثائقٌ تتحدث وانتدابات على غير وجه حق وفتاة سورية أصبحت سعودية وتغافل عن قرارٍ ملكي وتعيين بالقوة والإجبار وهدم حواجز النظام وأسواره ورواتب تُصرف هكذا في الهواء واقتراضات وهبات وكأن الملف مُكتمل الأوراق قائم بذاته لا ينقصه إلا ختمُ قاضي القضاة.
وفي يوم الخميس ( 22/5/2014) جفت الأقلام وطويت الصحف وأعلنت محكمة الاستئناف براءة المتهمين من كل هذه القضايا التي طالت جلساتها وتشعبت أوديتها وفاضت أنهارها فَخِيف أن تُغرق قرى بعيدة ومساكن نائية. مثلها كأي قضية أخرى تمسُ مسؤولا عملاقاً يعتلي بقامته الشاهقة عن مطارق القُضاة و كفوف الميزان.
حسناً، ها قد حصحص الحق أو هكذا يبدو، وبُرئ البريء المسكين وأُلبُس ثوب العدل والصدق ونُظفت ساحته وسُلَّ من التهمة، ولكن يا سادة القضية ليست قضية شخصٍ بعينه، ولكن هناك شجونٌ متشابكة متعاصرة وجذور مترابطة أثمرت عن هذه القضايا الفاسدة فإن بُرئ ( العمران ) وهو يستحق ذلك فمن هو الفاعلُ إذن؟
الواقعة واقعة لا جدال فيها فهذا شيك برقمٍ وتاريخ وتلك هي  ( جاكلين قاسم أبو زيد ) ولكن من هو الفاعل؟
إن يعدل قضاؤنا وكان دستوره الشرع الحكيم يوقع العقوبة على من ظلم ويُجب على تلكم التساؤلات.
هذا جانب أخلاقي وهناك جانبٌ إنساني يتعلق بالمتهم البريء وهل سيغض البصر عن ما لحقه من إدانة وتهمة وردانة وأوساخ، وهل بهذه البساطة تُرمى التهم على أشخاص أمناء بريئون، فيعلق بسمعته وحسبه ما هو منه براء، لماذا القضاء لم يرقُب حتى يكون على ثقةٍ ثم له أن يُسمي المتهم وينادي بالظالم.

تشويه السمعة بغير وجه حق مُصيبة وقذف التهم شتاتاً فجيعة، فالإنسان له قدره والرجل يحفظُ حقه ويصونه وما هكذا تؤكل الكتف يا هيئة الرقابة والتحقيق. 

انطلق من داخلك.



يربض على القلوب جاثوم الذل، ويستحوذ على التفكير مبدأ التشاؤم من سحابة أظلت بضلالها على أركان حياتنا وجنبات دنيانا حتى أصبحت حالة مرضية مستعصية العلاج حلت في القلوب وأنشبت أظفارها كشوكٍ انغرس في لفيفة قطن فإن أنت تركتها وخزت وإن أنت نزعتها مزقت. فتنظر لمن حولك فلا تجد كفاً يحمل شعلة التفاؤل أو قلبا أُشرب بإيمان الرضا.
هي نارٌ موجودة ولهيبها محسوس ودخانها متصاعد ولكن لن يُطفئها تعنيف، ولن يُخمدها عتب، ولن يهمدها توبيخ. فإن لم تحمل الماء ولو في كفك فستصلاك تلك النار وتُحرق جلدك وتخنُق أنفاسك .
في مجتمعنا لن تجلس في مجلسٍ أو تقعد في مقعدٍ إلا وتسمع مُنتحباً ينتحب. و مُتأوهاً يتأوه، وشاهقاً يشهق، وكأننا تربينا في كنفِ ناحبات ورضعنا حليب ناشجات.  نُحسنُ الصراخ في المجالس ونجعلها مصارخ، ونُكثر الجلجلةَ في الحُجرات ونجعلها مُجلجلات . نلعن حظوظنا وما حولنا ونبحث عن مِعلاقةٍ لآلامنا وضعفنا ونفتح الجرح ونستغرب الدماء .
الكثير منا ناقمٌ على المجتمع بكامل أطيافه وعاداته وطبائعه، وفي ذلك بعض الصحة فلسنا ملائكة السماء وأيضاً لسنا شياطين الأرض . فإن ساءك طبعٌ فغيره من داخلك أولا واجعل نقمتك ألا ترتكبه لاحقاً . وإن ساءتك خليقةٌ فاقتلها في نفسك تختفي عن الوجود. وكن أكيداً أن عصبية المجتمع الممقوتة ففي نفسك منها نصيب  وخطيئته الكريهة  ففي داخلك منها حظوة . فإن رأيت مجتمعاً جاهلاً فتعلم أو أحمقاً فتبصر أو أنوكاً فتعقل أو فاسدا فتطهر. فلا تطلب المحال في إصلاح الجميع ولكن أبدأ بنفسك و
لا تنهى عن خلقٍ وتأتي مثله .. عارٌ عليك إذا أتيت عظيمُ. .
نحتاجُ إلى مجتمعٍ يُشجع الأفراد على حسن التعامل وطيب الأخلاق واحترام الآخر بعيداً عن التحيز والتعصب لجنسٍ أو لون. نحتاج ثقافة الابتسامة والدين المعاملة، نحتاج ثقافة الطهارة في الأبدان والنظافة في المكان، نحتاج ثقافة بياض القلوب و نقاء الصدور من الحسد والنفاق، نحتاج ثقافة الفرح والغبطة للآخر عند النجاح وثقافة حسن التوجيه والإرشاد عند التعثر، نحتاج ثقافة حب لأخيك ما تحب لنفسك، نحتاج ثقافة التواضع ولين الجانب، نحتاج ثقافة الخشوع لله و الغيرة على المحارم، نحتاج ثقافة الخوف من الحرام والرجاء في الحلال، نحتاج ثقافة التعلم للنفس لا للآخرين والشهادة، نحتاج ثقافة ترتيب الوقت واستغلال المفيد، نحتاج ثقافة عدم الخوض في أعراض الناس والتفتيش عن مساوئ الغير، نحتاج ثقافة رِفعة النفس وسمو النظرة فلا نُفتي على مظهر ونحكم على ملبس، نحتاج تربية لا تسرق ولا تغتصب ولا تكذب ولا تظلم ولا تغش ولا تزدري. نحتاج نبذ المجاملات وتقبيل الأيدي والتصفيق للفاسدين .
إذا تصفحت تاريخ من سبقونا وأمجاد الحضارات البائدة والحاضرة فستجد أقواما تركوا الأقوال ولزموا الأفعال ولا رضخوا مثلنا لهوان النفس وذل الطبع وصَغارة العقل.
أتعلم أن صلاح الدين كان يلهوا ويعبث ويتبع الملذات فتاب وأناب وأصلح نفسه فقاد الأمه.
أتعلم أن (بيبرس) كان عبداً مملوكا فعاهد نفسه وقوَّمها فكان شجاعا مقداماً حتى طلق العبودية وتزوج المُلك فأصبح الملك بيبرس.
أتعلم أن أبا حنيفة كان فارها مُدللا وأصبح أمةً عالماً بالعلم والعمل والاجتهاد والإصلاح .
أتعلم أن هتلر كان جنديا فغير من نفسه فقاد ألمانيا وأصبحت من أرقى المجتمعات وأكثرها تحضرا. وغيرهم الكثير .
ابدأ بدائرة نفسك فإن نجحتَ فإن أشعة نجاحك ستضيئ الكون ولا تخف.


زوابع الفؤاد .





مع النشأةِ بصمةٌ متجذرةٌ لا تقتلعها آلة، ولا يمحو أثرها ريح السنين، كالنقش على الحجر والنحت في الصخر، عذراً فأنا مُخطئ فالحجرُ يتكسر والصخر يتحطم. بل هي نقشٌ بإبرة خياطة دقيقة الرأسِ على جدارِ قلبٍ كان ينبض بالأمل ويدفعُ الحياة دفعاً عسى أن يُحيي جسداً يتصارع صُبحه مع كتائب ليلِه.
أغمضْ عينيك فما إن ينغرس رأسُ الإبرة لتجترح النقش حتى تتنبه كل شعرةٍ في جسدك فتمدُ أعناقها لتستجلي ما الخبر داخل هذا الغضّ الطري الذي لا يملكُ درعاً يحتمي به ولا سيفاً يُدافع به رأس الإبرة وهي تمشي الهوينا تاركةَ أثر الدماء خلفها و خاطّةً ما يستحق أن يبقى نقشا أحمرَ قانياً.
طار غراب الرأسِ فارتقى الجرح وأصبح طَبْعي، والألم اعتيادي والمُخاضُ بطعمِ السُكر الممزوج بالهيروين المُخدر.
أتلذذ بِكَمِّ الألمِ الهاطل على بومة رأسي كتلذذ طفلٍ دفعته أمه في أقاصي الصحراء وبين جحور العقارب والأفاعي بقطعةِ حلوى مُثلجة أُعطيت له ساعة القيظ.
العيشُ بداخل كهف الظلامِ أجلى عن ناظريَّ السواد، والنومُ على وخزِ المسامير منحني أديماً يقيني خداع النسيم، والإنصات لأصوات القنابل من حولي أنعم على أذنيّ بالصمم، والتقام الحنظلِ أهدى لساني حراشف الأسماك.
 إن أبطأ عني التوجعُ هبطَ عليَّ الشوق وتملكتني الرعشة والهذيان فأبحثُ عن وجهِ الألمِ فإن وجدتهُ ما تركته إلا وأَرُفُّ شفتيه حتى ولو كنت مُحرماً.
نظرت في المرآة وحدقت ملياً وقلبتُ البصر فما رأيت بريقَ أسنان ولا تضاريس بسمة بل سِحنةُ الخريف بادية وأودية الجفاف وعروق الأشجار مُتكشفة. رضعتُ الحزن من ثدييه واضطجعتُ مع الأسى مهداً واحداً، فالتحفنا الصداع وتوسدنا المعاناة،حتى أصبح أُوَارُ(1) اللحظة قَرّا(2) ولسعةُ البراغيث شفاءً
الألمُ حياة والتوجع زفرةُ قلبٍ يتنفس، إن كان هذا دلالة الوجود وبرهان العيش فليكن. فكم من كائنٍ يمشي على اثنتين ولِدَ بين الموائد وانغمس في الشهدِ لا نعرفه ولم يقف الزمن عند لحظاته المملة، وكم هناك بالمقابل سِيرٌ تُقرأ وتراجم من نورٍ تُحتضن لمن عانى وشُرد وظُلم وقُهر وأُخضع وأُرغم وسُلب.
فلن أكترث إن كان الوجدُ قلنسوتي وسربالي، والضيمُ اصطباحي وغبوقي متذكراً أن التشكي لغير الإله نقيصه.
أغلق فاك، فحُزني يُدغدغ وشتان بين ألمٍ يَبُشُّ وآخر يُبكي، فالمهيمنُ مسحةٌ من جنون ومُطارحةٌ مع غيرِ البشر. ألم يقال أن أتعس الخلقِ العقلاء، فهات لي يا أميمةَ بأقداح الزوابع وهواتف شمهروش وميمون أبانوخ، فمُدامهم مُستساغ وفتاتُهم مُستطرَفة تجلو عني ما يُثقل وتُظهر لي النَّاجِع القراح.
في قاموسي أن عذاباً ينفذُ منه بصيص أملٍ خيرٌ لي من سعادةٍ يخنقُها نكد، وفي كل قرصةٍ خير، وبين لهيب اللظى سلام إن اعتدت عليه ووفيتَ له.

لا أحقدُ ولن أكره، فنشوتي مرارة الحرمان، ولهفتي ملح العيون، وشهيتي نحرُ جَزورِ الحُبورِ على شواهد القُبور وُدمتم في سُرورٍ يتلوه سُرور....



          1-      الأُوارُ، بالضم: شدَّةُ حر الشمس
          2-      القرُّ : البرد.

جُمجُمةٌ من حديد ..







لزاماً عليّ وفي مستهل حديثي أن أنطلق من قاعدةِ متينة أراها مناسبة للواقع والمقال وذلك لمنع المناوشات ودرأ الأخطار والمُهلكات وهي حديث رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم: ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأسِ كل سنة من يجدد لها دينها). وقد ذكر الكثير أن التجديد يُقصدُ به العودة للنبع الصافي والمصدر الزلال وهما (الكتاب والسنة) بعيدا عن شوائب التعصب والقُدسية والتقليد. فالتجديدُ سنة الله في كونهِ العظيم نلحظها تدبُ من حولنا ونشعرُ بها في كل مكان.
قلت هذا ونحن في مجتمعٍ نشأنا فيه صغارا نلعب ثم شبابا نتعلم ثم شيوخا نعجز نتلقى فيه سيلا جارفاً من الوعظ الإسلامي والإرشاد الديني والبيان للحلال والحرام ورسمٍ للطريق الذي ينبغي علينا السير معه وأن لا نزيغ عنه قيد أنمله. وعلى هذا السبب فالنتيجة الحتمية المتوقعة أن نكون على رأس القمة وفي قمة الهرم الاجتماعي والديني والواقعي والعلمي ولكن الصدمة الواقعة والواقع المصدوم أننا في وضعٍ نقبع فيه عند الدرك الأسفل من التسلسل الاجتماعي والثقافي والعلمي والعقلي بل وتحته قليلا.
الشرع الحنيف متين قوي، منزلٌ من لدن حكيم عليم على لسان صادق أمين، فيه الأسلوب الراقي والفكر الحر والتعامل الحسن والقيم النبيلة المبنية على قواعد صحيحة. إذن فلماذا نحن مخرجاتٌ ضعيفة، هشة، ركيكة، بائسة، نخاف العلم والتقدم ونخشى الإلحاد وداروين و انشتاين ولماذا نخاف أن تهتز فطرتنا الإسلامية أو أن تتكسر مجادفنا أمام أمواجِ الآخر. وما هذا إلا لجمودٍ هبط علينا، وانعتاقٍ ألم بنا من جراء التحجر البليد والتزمت العقيم في طريقة واسلوب وعرض الخطاب الديني المُفَسِّر لنا وجاهة وعدل وسماحة ورقي الفكر والمجتمع الإسلامي، خطابٌ عكس لنا قصوراً مُحرجاً في المحتوى وعجزا ظاهرا في المضمون وتهالكا عظيما في الهيئة، فمنذ أُغلق باب الاجتهاد الذي هو مصدر التجديد ونحن من هاوية إلى أخرى. تساؤلات تواجهنا كل لحظة فكيف تخلفت هذه الدعوة العالمية حتى أضحت وسيلة للعجز والغباء والجمود الفكري والاضطهاد المُجتمعي، وهذا يعود لسببين أحدهما هو الاحتكار من قِبل طبقة مُحددة والمناداة بالتخصصية المتزمتة، فاحتكار تفسير النص القرآني في حدود فكر واحد فقط سيخرج لنا تفسيرا واحدا فقط وهذا مناقض لمفهوم شمولية الاسلام وأنه صالح للجميع. وثانيهما: الإلزامية وتطبيق ما كان ينفع في وقت ما لا ينفع والاجبار وبالقوة على تطبيق مفاهيم ليست من أساسيات وثوابت الدين والتي بتركها لا يكون الخروج من الملة وإقناعنا أن التعديل عليها أو المساس بها وبقدسيتها لهو من مصائب الأمور وكبائر الذنوب، فالجميع أدرك أن طُرق الوعظ العتيقة والإصلاح البطيء والتقليد الأعمى لهي أمور عفى عليها الزمن، وفي التجديد تطبيق لسنة الله في كونه.
نحتاج ثورة ولكن ليس لانتزاع الدين فما هكذا قصدت ولكن لتجديد البناء وضم الفرع للأصل وإرجاع الابن لحضن أمه وأبيه. وتطليق الخوف والجبن المزروع في صدورنا من الخروج من دائرة الألفة المعتاد عليها.
نحن في عصر العلم والثورة وقد تبين لكل منصفٍ عدلٍ بأن العلم أبدا لا يتعارض مع الدين بل هما متلازمان متوازيان، ولكن لم نجد هذا في حلقات الذكر و خطب المساجد التي اكتفت بالمناداة والتأكيد أن الإسلام دين علمٍ وعقلٍ وفي الواقع يهاجم الاجتهادات وابداعات العقل الإنساني.
ينبغي أن تُنزع القداسة من التراث البشري لأنه بشري، فالشيخ ابن عثيمين رحمه الله كان قد شكك في حديث أورده (مسلم) على جلالة قدره وعظم شأنه ولكنها كلمة حق كانت في نفس الشيخ. وأيضا ينبغي الابتعاد عن الاكتفاء بظاهر النصوص والنفاد بعين العقل إلى المقاصد والحكمة من التشريع وفتح باب الاجتهاد والرفع من قيمة العلم وتوضيح تعدد المذاهب الإسلامية وإباحة التقييد بأي مذهب لا يخالف أركان الدين وأصول العقيدة.
إذا تجولنا في حدائق ماضية، حدائق اسلامية باهرة، جميلة المنظر، زكية الرائحة، حدائق المتكلمين والفقهاء والفلاسفة والمحدثين والمفسرين والقضاة لوجدنا النخيل الباسق والثمر الناضج والأوراق الوارفة. نجدها عند ابن الخطاب والنعمان ومالك وأحمد والشاطبي وابن حزم وابن رشد ونجم الدين الطوفي وابن العربي وأحمد بن دؤاد. ومن الحمق أن نترك كل هذا الجمال من أجل شوكة صغيرة في الطريق.
شبابنا في فراغ وصدمة متلازمين، فالفطرة الدينية عندهم قوية ضاربة في الأرض، ولكن لم يعد يملأُ قلوبهم هذا الخطاب الديني الهزيل، فما يسمعونه يصطدم مع الكثير من الجوانب الفطرية والانسانية والعصرية والقلبُ حتما سيبحث ليملأ هذا الفراغ. الشباب سيزيح سخافة الطرح وسُقم المقال في زواج الصغيرات وختان الإناث وإرضاع الكبير وأي جذور تتنازع مع إنسانيته وسيستبدلها بأقرب الأفكار والأطروحات البراقة.
في النهاية أتساءل هل ستعود الصلاة والزكاة والصوم جزءا لا يتجزأ من الحياة التي تربطنا بخالقنا لا كفرائض وواجبات تؤدى من أجل أن تؤدى؟ هل سنعود للقران لنقرأه بنظرة تأملٍ وتدقيق وبُعد نظر؟ هل سأسمع أن هناك مسجدٌ تكون فيه الخطبة باللغة الأوردية أو الإنجليزية؟ هل سأرى الخطيب والشيخ يعتلي المنبر وهو لا يرتدي شماغا على رأسه؟ هل سأقرأ في كتب التاريخ عن حقيقة النكبة والنكسة؟ هل سأقرأ في مناهجنا الأدبية رسالة (الغفران) و (التوابع والزوابع) و(لامية الشنفري) و قصص (يوسف إدريس) و (زكريا تامر)؟ هل سندرسُ الفلسفة ونعلمُ من هو (المعري) و (أبو حامد الغزالي) و (ابن رشد) و (ابن خلدون) ونعرف أكثر عن  (أرسطو) و (ديكارت) و (هيغل)؟ هل سيصدر قريبا كتابٌ بعنوان (تهافت الفلاسفة الجُدد) ليرد عليه الآخر بكتاب ( تهافت التهافت الجديد)؟

هل سيأتي يوم وقد خلعنا فيه جلباب الخوف؟ وأذبنا جُمجمة الحديد؟