دَجْلُ التاريخ.








يبدو أننا في حاجة ماسةٍ إلى إعادة النظرِ في كل ما حولنا مما نعتقد بحقيقته المسلَمة، فإيماننا بكل ما يُلامِس آذاننا من دون تمحيص أو تقصي لهو اضطراب في تفكيرنا وبصمةُ تخلف لجِيلنا، بل لم نكتفي بذلك حتى نُنَزلَ تلك الأنباء والأخبار منزلة الحقيقة المجردة والصحة المحضة، فهي عندنا لا تقبل النقاش فضلا عن ردها أو رفضها. ففي خضم هذا السيل الجارف لا نكاد نميزُ بين الصالح والطالح.
هنا تجد قصةً طريفة يتبين فيها كيف تُزيفُ الأحداث وكيف تُنتهز الفرص في الإقناع، ودائما الضعيفُ هو الضحية البريئة الذي يُسلِّمُ رقبته لمحزِّ سكين الجزار.
ففي عام (1727م) كان هناك تأكيدا غريباً نشره العالم الفرنسي (بِفون) مما أثار موجة استياء في أمريكا، فقد ألف هذا الفرنسي كتابه (التاريخ الطبيعي) وأملى فيه قوله (إن مياه أمريكا آسنة، وتربتها عقيمة، وحيواناتها صغيرة الحجم قليلة الحيوية، وهواؤها مزعج بسبب الأبخرة المنبعثة من مستنقعاتها النتنة، وفي بيئة كهذه فحتى سكانها الأصليون يفتقرون إلى الرجولة ولا تثيرهم الأنثى).
والغريب أن هذه الملاحظات وجدت مناصرين متحمسين، سواءً ممن يهوون تشويه صورة أي مُجتمعٍ يختلفون معه أو ممن يفتقرون إلى المعرفة الفعلية والبحث العلمي، مما دعا بعالمٍ هولندي أن يُضيفَ باجتهاده لتشنيع تِلك الصورة وتشويهها بأنَّ (أثداء الرجال في أمريكا ممتلئة بالحليب).
هنا قامت ثورة أمريكية لن تهدأ وتستكن حتى يتم لَجمُ التهمة التي تمس الكرامة، فتصدى علماء الطبيعة في أمريكا لها بكل شجاعة وخسة. فجمعوا عظام مخلوق ضخم يشبه الفيل وأطلقوا عليه اسم (المجهول الأمريكي العظيم)، وبدأوا  في تشكيلِ الهيكل العظمي للحيوان المنقرض المزعوم، وفي محاولتهم لإبطال سجالات (بِفون) الحمقاء شطحوا وبالغوا في تضخيم هذا الحيوان، فجعلوا حجمه أكبر بستةِ أضعاف الحقيقة، ومنحوه مخالب مخيفة استعاروها من حيوان (الكسلان) وأضافوا له أنيابا بطريقة تمنع الشك، ثم أقنعوا أنفسهم أن هذا الحيوان يتمتع برشاقة النمر وشجاعته، فصوروه في بعض الرسوم في الصحف وهو ينقض برشاقة على الفريسة. ثم أرسلوه إلى (بِفون) وقالوا في أنديتهم الخاصة: من في فرنسا سيعرف الحقيقة؟
علم حينها الفرنسيون بأنها دجلةٌ من تَدْجيل الإعلام الأمريكي، وبسببِ قوة الدعاية المُصاحبة اكتفى الفرنسيون بالسكوت وابتلاع الأمر على مرارته.
في هذه القصة نتعلم كيف يتمُ بناء الأبراج العالية من السمعة المُزيفة، وتلميعُ المعادن الرخيصة فتصبح ذات بريق بترويج الأكاذيب واختلاق التاريخ المُزور المقرون بالدلائل الكاذبة المقنِعة. ليتناولها الإعلام ويروج لها فتسري بين الناس مسرى اليقين المؤكد والصواب الحق.
قصة الحيوان الأمريكي هي ذاتها قصة المُنقبة الإرهابية الإماراتية في أيامنا هذه، ولكن الفرق في أن بعض القوم امتهن الصنْعة فتمكَّن والآخر ضعيف الإرادة فقصَّر.

خلاصة الأمر، علينا بتحرير عقولنا من سجون الوهم وإعتاق أيدينا من أغلال الغفلة، والتفكرِ فيما حولنا بما منحنا الله من قدرات عقلية، فنُعْمِّلها لما خُلقت له، وستَتبدَّدُ غمامةٌ استقرت أمام أعيننا لم نكن نحسب أنها غمامة.

توفيق الربيعة .





إن أجدبت الحياة، واغبرَّ أرضها وغار ماؤها وتساقطَ زهرها وأُقحوانها، ثم التحفت ثياب البؤس وعِمامة الفقر، وسرت تلفحُ بسموم الرياحِ وتضربُ بسياطِ الهجير. فلا غرابة حينها بأن نسمع أصداء الشكوى وأنين الضجر من كل كائنٍ ينبضُ فيه عِرق الحياة الذي يشتاق للفرح بعد جور الحزن، وللسعادة بعد ظلم البؤسِ، وللنعيم بعد نيران الجحيم.
ولكن الغرابة تأتي حينما يُقْدِمُ من يشْتُم جمال الربيع ويلوم فرحة المطر ويستهزئ برقصة الأرض عند معانقتها سحابة الخير.
الأيام حُبلى بالمفاجآت، وقد تلدُ بيننا عِظاماً مبعثرة في ثياب أصحابها لا في قبورهم، فترمينا بأعمى بصيرة، أحمق رأي، أعتى من الصخر وأقسى من الهجر، حسودٌ ضجورٌ ملول مُحب للشرِ كاره للجمال مُتيمٌ بالدمامة. يَنْأَى عن الرياضِ المُبتسمة، يحلُمُ بنارٍ تأكلُ أخضرها وتُبقى أغبرها، هو كذلك القلبُ الحسود والعقل الأرعن.
وإلا فلماذا تلك السهام المسمومة من أقواسِ أولئك؟ أتريد النيل من ناجحٍ برهن واقعا على نجاح إدارته، وأثبت قدرته على شقِ ضوءٍ للفجر في جدارِ اسْوِدَاد الليل, وأوقد شمعةً في جوٍ خانق مُظلم؟
هو كذلك النور قاتلٌ لمصاصيِّ الدماء، مَقصيٌ من سُراةِ الليل ودُواج سراديب الظلام، لألا تُكشف عوراتهم وفساد منتدياتهم وخُبث خطواتهم. ولا غرو فالذوق فسد، والأدب شُنق، وفسدت أشياءُ كثيرة كانت كلها صالحة.
سرْ أيا – ربيعة- ودع من يعوي يعوي وحيدا مُتهدل الآذان، فالأرض قد سئمت طلحةَ الجدْب، وعَفن الفساد، وتلهفتْ لزهرٍ يجولُ الندى فيه وتفوح معه رائحة الصلاح.

كم من صاحبِ سؤدد نالته الحجارة، وقُذف بألقاب الهُزْءِ وسَقط الكلام، وكم من متسلقٍ عُيِّر بالجنون والخَبال، خِيفة مُعانقته قِممَ الجِبال. أيا – ربيعة التوفيق – لم يسدْ أحدٌ قومَه إلا بقوة الشكيمة وصلابة الفؤاد وحُسن بُعد النظر، فخذْ من نور الله سراجا واتكأ على عصا الحقِ ولا ترقُب نوالاً من بشر، فالهمة العالية لا تتواطأ ودناسة أخبث البشر.



نهاية عزيز.






القمر يُزيحُ السحاب بيديه كيتيمةٍ  تتبدى خجلا من خلفِ ستار، ، ليظهَر من بين فُرَجِ الغمام، حزينا شاحبا لذهابِ عزٍ وجلاء مُلك. يُرسلُ تعازيهُ أشعةً متكسرة يواسي بها أنين الأرض ويمسح دموع الأشجار والأحجار.
تلك الأرضُ التي تزينت عشرات السنين بأطواق النعيم وتراقصت أعطافها طرباً تحت مُزن أنوار العلم والحضارة واليُسر والرخاء. هي إشبيلية الفاتنة الغانية، استغنت بأنهارها وحدائقها ومُعتمدها واعتمادها عن حُلي الأرض وزينة السماء. مُعتمدها هذا زادها بهاءً ومَلاحة وزيَّنها بسرير حكمٍ ودواوين علم، فكان هو الشاعر العالم، الأديب الفحل، العاشق المتيم.
أحلَّ جوهرته (اعتماد) في قلبه، وحلّت اعتماد بِاسمها في شعره، فرفلا في رخاء الدنيا وحدائق العشق، وعاشا شبابهما ومجدهما متيمان بالحب وطائران فوق كل قصص الغرام والهُيام، حتى غارت منهما كل عاشقة وتحسَّر على حظه كل عاشق.
ارتجت عليهما زلازل الأيام، فأبت إلا أن يجودا بعشقهما على أرض أخرى، فإشبيلية ارتشفت منهما ما أرواها. ساقتهما أقدارهما عن أنهار الأندلس إلى سِجنِ (أغمات)، ومن أُنسِ الثغر الساحر إلى ألمِ تجاعيد الخدود، ومن السير على طينِ المسك والكافور إلى جرداء مراكش ليلها سموم ونهارها جحيم. أُسرج المعتمد وقلبه على خيولِ المرابطين وأمسكا بلجام الهزيمة فبكتهما الجِنان والجبال، وتبدد حُسنُ إشبيلية كما يتبدد الندى في وهج الشمس، وسألت أزهارُها أشجارَها من لنا بعد أن مالت نجوم الليل؟ احتضنه سجن أغمات جميلا كالقطن، حلوا كالأمل، نقيا كالثلج، فسلبته زوجتَه ويتمت بُنياته ثم أردته هو الآخر قبرا نُقشَ عليه:

 قبرَ الغَريب سَقاكَ الرائِحُ الغادي
                  
حَقّاً ظَفَرتَ بِأَشلاء ابن عَبّادِ.

عدسةٌ مُكبرة







في ذلك الجو المشحون بشحنات البرق وهزيم الرعد وزعزعة الخَريق، كانت (هديل) الطفلة البريئة لم تكمل عامها الثامن، عينان براقتان كسرهما الزمن، خدان متوردان جثى عليهما طائر الأوساخ، الأنف تسيل سيولُه، الثياب مرقعة. مُحتبِئة عند باب المسجد لعلها تجد من يسد جوعها أو يطفئ لهيب عطشها.
جلست متكورة وذقنها على ركبتيها وكأن جزيرة العرب بأوديتها وينابيعها وروضاتها ونخيلها ربضت كلها فوق كتفيها شاحَّة بأقل فضلَة عيشٍ للمسكينة.
قُتل أبوها وحُرِّمَ الخروجُ على أُمها قسرا اتقاء الشبهات، فأصبح البيت بلا أبواب والصنابير من غير حنفية، والقناديل من دون زيت.
لا أمَرَّ من عيش الجوع تحت عناقيد العنب البعيدة، ولا أقسى من جفاف الحلق عند مجرى الأنهار العذبة.
أصبحت (هديل) الوردة النظِرة التي نثر بذرتها جاهلٌ في تربةٍ عقيمة، فلا الجاهل أمسكها ولا التربة رَبَّتها. هي المشؤومة التي أصبحت عنوانا لفساد المجتمع وبُخل الغني بل سطوراَ من البلاغة في وصف تملُّق أهل المعروف، وتبيانا لمجاري الصرف النتنة لرؤوس الأموال.
أصبحت عنوانا لكذبةِ مصلحة الزكاةِ وخدعةَ كفالة الأيتام ولجان الرعاية والشؤون الاجتماعية. أصحبت (هديل) هيكلا تعليميا يشرحُ للبشر كيف تم تفسير (إنما الصدقات للفقراء...) وكيف تم تطبيقها على الواقع الذي حرَمها من لقمةِ الكفاف وأسبلَ على غيرها دُثر الغِنى.
هي إطارٌ أبيض يُبين سواد الصورة وشُؤم المنظر الحقيقي لصورةٍ رسمها مُرائي بريشة العطفِ والدين.
لم يقسُ على (هديل) أكثر من أنها تعلم أن شبكات الري التي تسقي مزارع الأغنياء خارج بلدتها كانت تجرُّ مياهها من تحت قدميها الحافيتين. ولكنها آلت على نفسها إلا أن تكون المجهر الذي يُخبرُ العالم بوجود الميكروبات الضئيلة التي تختفي عن الأعين لتجد المتسع لتنهش جسد المجتمع، لعل أحدا يأتي بمُبيدٍ حشري ويقضي عليها.