حروفٌ ذات قروح .






بداخل صندوق مضلع

واسعٌ تجري فيه الجبال
ضيقٌ لا يحتمل نسمة الهواء

رقيقٌ يَشِفُّ عن بعضه
غليظٌ مُتَقرح ككعب راعي بدوي

في سماديرِ سكرةٍ
أم صحوةِ مُتنبه؟
على تلك الأرض تُقِلُّنا
خطواتٌ تجرنا
تحت ليل بهيمٍ يُظلنا
-
تائهٌ حائر
في بادية يلفها سراب
سرابٌ من أمل
عند كثبان من رمال
رمالٌ من خَيبة
-
كنت قد ابتُليتُ بلدغةٍ
فما هلكتُ، وما برئت
أحثُ السير فتتعثرُ الخُطى
أنتشل الخطوة فيذروا الغبارَ ريحٌ
ريحٌ فيَّأها هجرٌ
هجرٌ أثار كُل تِلك الزوبعة
أُحيلُ عن عيني
أرى الظلامَ نوراً
أُحدقُ، فإذا النور ما هو إلا مسمارٌ مسمومٌ تّدُقه مطرقةٌ بانتقامِ صليبي
أكوي هذا القرَحَ المُمِدَّ
بكلماتٍ كانت من الماضي
كانت
تُدفئ الضجيع، وتُشبعُ الرضيع
-
لن أجد إلا هذا الثرى الجعدَ الذي لا أثر فيه لنجاة أو خسارة
أو ربما في تلك الحواشي الحَرَجَة مُظلمة الجوانب
-
سأبقى في ذات الصندوق المضلع
الواسع الضيق
ستفتقدني
ويردها إليَّ جورُه
تبحثُ عن حياتها بعيدا عن رُفات روحه
ويردُها إليَّ عدلي
تبحثُ عن حياتها قريبا من حُطام قلبي
ستبحث عني
في كل مكان
ماعدا مكان!
هو ذات المكان عند كثبانِ الرمال

في البادية التي يلفها سراب
سرابٌ من أمل
ورمالٌ من خيبة . 

إنعاش المُحتضِر .






هل من المقدسات العقدية أن نقبعَ على كرسي التعليم لمدة يجب أن تكون اثنتي عشرة سنة؟ ثم هل المُخرجات التعليمية الحالية تعطي دليلا على فاعلية تلك السنوات الطويلة؟ وهل ما حازه الطالب من معرفةٍ وعلم بذي عمق وفائدة توازي بها تلك المدة من السنوات؟
أعتقد أننا سنتفق على هزالة وضحالة ما يجنيه الطالب في مراحل تعليمه العام فهو لا يعدو أن يُلِم بقليلٍ من المعرفةً بالقراءة بلسان أعجمي أو ببعض الحساب باستخدام الآلة الحاسبة أو حفظٍ لتاريخٍ غير مُدقَقٍ أو معرفة بتضاريس شرق اسيا وصادرات دول حوض البحر المتوسط.
البيت التعليمي لا يحتاج لترميمٍ هش، ولا إلى اجتهاداتٍ مُخجلة، أو مشاريع من غير هدف واضح. بل يحتاجُ إلى ثورةٍ عارمة وزلزالٍ يقضُ البنيان كاملا فيخر على الأرضِ رُكاماً بعد هرمه وهشاشةِ عظمِه عن مقاومة متطلبات العصر. ثم بعد ذلك نرفعُ الأسسَ من جديدٍ ونبني الأركان ونقيم ثقافة حية وعلما نسمو به الأمم.
العلمُ يكون بالتدرج دون الوصول إلى درجةٍ من البطء المُمل الخانق، فلماذا لا يقصُر التعليمُ العام مراحلَه إلى تسع سنوات؟ وهي كافية وأكثر, ولا يدركها إلا من لمس ظلام وتكرار مناهج التعليم.
تسعُ سنواتٍ ينصبُ فيها الإفهام في مسالك شتى من أبواب الفن والعلم والتعلم ثم نرتقي بعد ذلك إلى المرحلة الجامعية التخصصية لنقطف ثمار العلم ونُحصل الفائدة. وتضاف السنوات الثلاث المُقتطعَة إلى مراحل التعليم العالي فهي أقدر وأكمل على الغوص بالمُتعلم في عمق التخصص الذي يختاره. وبذلك تكون المرحلة الجامعية المُقترحة أكثر من الحالية بثلاث سنوات ولا مانع من اختصارها هي أيضاً.

في الجامعة تكون المسؤولية أكبر والهمة أعلى والثقة بالنفس أكبر وهذه من أهم العوامل المساعدة على إنجاح التعليم. المساحة أضيق من أن نأخذ بكل التفاصيل ولكن أرى أنها تستحق التفكير.

مُكاشفة.






اقتحم عليّ مكتبي شيطانٌ شرِبَ كأس الغضب وزرط شوك الغرور، فانتفخ حتى سد الباب وأحكم بناءه ولم يبقى من الحائط إلا بناءً مصمتا لا باب له.
جلس مستوفزا على جمر الغضى، متهيأ كذئب الغضى، وبه من الغيض ما يشد به حبلا من مكانه إلى أبواب جهنم.
سألتُه ما بك يا رجل؟ قال: يعيرونّي بما لست من أهله! ويقحمونّي في دروبٍ لم أسلكها، ويقذفون سمعي بأقذع الوصف وأقبح النعت. ثم أجرى لسانَه مجرى السيل الهادر وقال:
نحنُ مجتمع محافظ نعتز بالقيمة العالية والراية المرفرفة، لم يقع الذباب على طعامنا ولم تصبْنا الأوبئة، خُلقنا منزهين عن كل درن، مبرئين من كل عيب.
صحيح أن المخدرات كالنار في شبابنا مثلها في الهشيم ولكننا مجتمع مُحافظ. صحيح أن السجون غَصت بالمجرمين المغتصبين، يُسليهم القليلُ من المظلومين ولكننا مُجتمع محافظ.
صحيح أن ليالينا تتناوش فيها حمرةُ الشفاه مع حمرة الكؤوس فتصطبغ بالأحمر القاني عن السواد الكئيب ولكننا مُجتمع مُحافظ. صحيح أننا لا نُدرك من الصلاة إلا قفزاتها وحركاتها، ولا نحفظ من الدين إلا تعريفاته، ولكننا مُجتمع محافظ.
صحيح أن شبابنا يقلد الشرنقة في لباسه حتى تصرخ أعطافُ الجسد فيتمايل كأغصان الحنظلة، ولكننا مجتمع مُحافظ. صحيح أن بناتنا يحملنّ من الأنوثة ما يُثقِلهن من اللحم والمعاني في أعين الناظرين لهن فقط، ولكننا مُجتمع محافظ.
صحيح أننا نحتقر الغريب ونستهزئ بالفقير ونركُلُ العجوز ونخنق المسكين ولكننا مجتمع محافظ.

تنبه فجأة كما لو برقَ برقٌ وضرب دماغه ثم أطرق وقال في حشرجة المتألم: والهفاه، مجتمع محافظ اغتر بضخامة اللفظ فلم يُقدِّر ما فيه من انحلال واضمحلال للواقع.


خفايا الروح من بعد البُعاد.








بين جوانح الصدر لهفةٌ ولوعةٌ واشتياق من أثر نوازل الأيام، ومُكابدة القهر والآلام.
فما الحب إن لم يكن لذة يغمرها وجع؟
وشهية يناكفها امتناع؟
ومُتعة يُنغصها أنفه؟
ولهفة يُعارضها إعراض؟
ولوعة يضايقها مجافاة؟
أو شوقٌ يُكابر عليه حبيب؟
كلها تُعمِلُ في القلب كما تُعمل المَعاول في الأحجار الصم حتى نسمع لها صليلاً وزجلاً.
بل ما الحب من غير حنين، وما حنينٌ من غير ضياع، وما ضياع من غير فتاة قضى عليها القدر بمكانٍ ناءٍ بعيد.
حنينٌ يصحبه أنين، وأنينٌ بكفه مباعض الجراحة،
يجرح، يُدمي، يستثير أمطار العيون.
يُمازجه عزلةٌ عن البشر عسى أن يكون حاجزاً عن إزعاج البشر.
هي كذلك الأيام عندما تمضغُ بأضراسها أوقات التزاور من أطباق الحُبِ ثم تتلمظ وتلوك أقداراً كُتبت ثم تتمطق بلسانها بعد أن لذَّ لها المذاق الذي نحاول معه الامتناع والإحجام فيذهب جهدنا مع رياح تلك الأيام، التي تُقابلنا بظهرها وتلتفت لنا وهي تُرْمِزُ بحاجبيها عجبا وسخريةً وتهكماً.
هو الحنين المُلقى على فراش الموت يرتجي نوالاً من محبٍ ولو كان قميصا مُوشىً برائحة حُبٍ كان ينتشي بها لحظات العناق.
كُنا وكان ثم مازلنا وزال.
بتنا وبات حتى بِنَّا وما بان.
أُواه هل من تلاقي يهبُّ من تحت أطباق رمسهِ ينبعثُ ينفضُ عن أكفانه تراب الوداع والانفصال.
أُواه هل من حبالِ وصلٍ تصل ما انْبَّت وانقطع.
أُواه هل من ترياقٍ يُصَبُ في أوردة المُتلهف المُشتاق الوالهِ من ريقِ ذاك البعيد.
أُواه منك أيا ذاك البعيد.

أيا ذاك البعيد......

محاورة شيطان







زجرني شيطاني ذات صباح ووسوس في فؤادي متهكما بعد أن فتحتُ غطاء قلمي لأسجع سجع الكهان وأرسم نمنمة الكتابة قائلاً: سأسألك فحدْثني بالبيانِ ولا تحاورني بالألغاز كعادتك القبيحة، أين ترجو من هذا الطريق؟ تبحثُ عن قلم لتُدميه، وورقة لتشوه بياضها الناصع! ألا تأخذ عبرةً ممن سبقوك؟ وهم فيما كانوا فيه أعظمُ منك خيالا وأبينُ بلاغة وأطول قلماً وأعرض قرطاساً! يرشفون من النيل وينبوعك جاف، بمغاريف تحجب أفق السماء وأنت بملاعق الحليب، أخبْرني ماذا أراد الجاحظ من بيانه؟ قلت: هي الفضيلة. قال: والتوحيدي من إمتاعه ومؤانسته؟ قلت: الفضيلة كذلك؟ قال: وصاحب العبرات والنظرات؟ قلت: أيضا أراد الفضيلة. قال: ها قد أقررت ببلاهتك وضيق فكرك، ولكن أخبرني كيف هو مجتمعك بعد نشر تلك الفضائل والانهماكِ في تحبيرها وتعبيرها؟ قلت: الفضلاء عندنا ثُلة ومخالفوهم كَثرة، قال بصوته الخشن: فلماذا –يا معاشر الكُتاب- تُهرقون أحباركم بهرولة أقلامك لنيل مالم يناله من كان قبلكم وهو أجود منكم؟ ثم نهرني وقال: سبقك الأولون فاقعدْ، فلن تزيد في ماء النهر نُقطة، ولن ينقص منه بغيابك قطرة, فلو أن الشمس أرادت أن تُشرق لأشرقت منذ زمن، وما تخطونه هو نفس ما أملاه الأولون في كتبهم ورسائلهم، فلم ينهضوا بمجتمع لسؤدد ولا أقاموا للحق قائمة.
 قلت له: يا جاهلا بالحق قد عرفناك، ويا ناشرا للشر قد مقتناك، والله ما سألتَ إلا مسألةَ الحمقى، فمنك فِطنة لطيفة يخامرها غباءٌ عجيب، فأخبرني أنت كم من طبيب عرفته على مدار السنين والقرون؟ قال: كظلام الليل ونجوم السماء، قلت: فلماذا هي الأمراض باقية والعدوى منتشرة؟ إن أجبناك بمنطوقك الأبله فيجب على الأطباء أن يتوقفوا عن العلاج، فدواءهم عبث وأبحاثهم جهل وسفسطة، أرأيت كم هو قِصرُ نظرك وعظيم عِنادك. أعرفُ أن المطلب أكبر منك، والهدف أعظم من أن تراه، فإن كان الجندي يحمل السلاح، والطبيب يبحث عن الدواء للداء، فلكل رجل سلاحه، ولكل ميدان رجاله، فقافية شاعر في حينها أحدُّ من سهم، ونثرُ كاتبٍ في أوانه أنفَذُ من رمح، ومكسبُ تاجرٍ في وقته يكون كوقع الماء من ذي الغُلةِ الصادي، هو العمل وعمارة الأرض، فكاتب معه قلمه كأسدٍ معه قوته أنّا اتجه لا يخشى الجوع. فإن سلكنا مسالك آبائنا فما في ذلك من عار، فالتائه بالصحراء يهتدي بالنجم، وقبطان البحر في لججه يبحث عن منارة. ونحن لا نأمل أن نبلغ بالمجتمع رأس هرم الفضيلة فذاك مُحال، ولا يوجد بيننا من يطلب أن يكون هو القائد والمعلم للبشر، أو أن يضع نفسه نبراسا يُقتدى به، أبدا ولكن هذا لا يوجب القعود والخنوع، والرضا بالصمت والسكوت. وعقول الرجال في رؤوس أقلامهم والقلم كما قيل أحد اللسانين، فما من دُرةٍ تقع من قلمٍ على سطرٍ إلا ولها حسناء تُزينُ بها جيدها، ولكن هو مبدأ سددوا وقاربوا لا أقربَك الله منه.  

في الصدر أعاصير تُحرق الفؤاد، وتوابع وزوابع لا تستكين ولا تهدأ إلا بخروجها من فم القمقم، فالصياد يُرسل سهام كنانته فمنها ما يصيب ومنها ما يخطئ، وإن أصابت فقد تُصيب ظبية وقد تخترق قلبَ كلب. فكذلك نحن وبقَدْر قوة مصابيحنا نرسلُ ولو ومضةً من نورٍ لعلها تجد تائها فترده أو ضالا فتهديه أو متشردا في دار غربة فتؤنسه. ومن العبث أن نعبث بالعقول ومن العيب أن نتولى يوم الزحف، فما مثلي ومثلك إلا كدافع شُبهة وطالبِ فتنة، فاترك ما أنت فيه واخنس قاتلك الله.

من حديث النفس




نمقُتُ دائما في كوكبنا ذاك الكاتب الذي يتحدث عن نفسه كثيرا، ويحشر كلمة (أنا) بين كلمتي (أنا) و (أنا)، متباهياً بمجده الغابر أو مفاخرا بغابره الحاضر، ندرك منه شدة غروره قبل لين سريرته فكرهنا دخيلة نفسه قبل أن نزدري ضحالة عقلة.
ولكن في رحلة إلى كوكب الأديب (علي الطنطاوي) الوضعُ جدُ مختلف، فلا التربة هي التربة ولا الهواء هو الهواء، ففي حديقته (من حديث النفس) انقلبت الحكاية وارتدّت النظرة الناقدة خاسئة حَسرى. هناك تحدث عن نفسه كثيرا فأحببته كثيرا، وتألم كثيرا فدعوت له كثيراً، نقلبُ الصفحات فنلمس كم هي معاناة هذا الأديب من ظُلم الأيام و كم هو ألمُ تقلب الدهور والحكام، وجور الأنظمة وتجاهل الأتراب.
حفر صخر الشام ولبنان وأزاح غبار بغداد وصارع في القاهرة وحارب في الجزيرة، له همة عالية وروح وثابة، وفكرٌ مؤمنٌ وقلبٌ حي.
أحب لغة القران فنسج أدباً عالمياً لو أن فينا عزة نفس، وخاط ثيابا من الكلمات فكانت للضمائر الميتة حياةً، وللقلوب المكلومة أُنساً، ولفراق العشاق علاجاً والتئاماً.
أحب الأدب فآثر مصب النهر عن التحديق من الشاطئ، هام بالحدائق الغناء من حوله فجرته أقدامه  وغاص أعماقها، يقطف الوردة الزاهية يقدمها بقلم الوفاء، ويتلمس أغصان الحديقة فينبثق الكون كله طربا بروائح الكادي والأقحوان. ويسامر القمر على هسهسةِ الماء فتغدو أوراقه هي جنان الأدب الرفيع.

ذاك هو الأدب الذي نشتاق له، بعد أن تآكلت أجسادنا قيحا ودما خلف بيوتنا الإسمنتية الكئيبة،  وذاك هو الأديب الذي نحن في حاجة إليه لفتح نوافذ نسمات الجنة وإغلاق مواخير سموم جهنم، فلعل نفحا من العبق يكتسي ثيابنا أو لفحة من نورٍ تسكن قلوبنا. 

دَجْلُ التاريخ.








يبدو أننا في حاجة ماسةٍ إلى إعادة النظرِ في كل ما حولنا مما نعتقد بحقيقته المسلَمة، فإيماننا بكل ما يُلامِس آذاننا من دون تمحيص أو تقصي لهو اضطراب في تفكيرنا وبصمةُ تخلف لجِيلنا، بل لم نكتفي بذلك حتى نُنَزلَ تلك الأنباء والأخبار منزلة الحقيقة المجردة والصحة المحضة، فهي عندنا لا تقبل النقاش فضلا عن ردها أو رفضها. ففي خضم هذا السيل الجارف لا نكاد نميزُ بين الصالح والطالح.
هنا تجد قصةً طريفة يتبين فيها كيف تُزيفُ الأحداث وكيف تُنتهز الفرص في الإقناع، ودائما الضعيفُ هو الضحية البريئة الذي يُسلِّمُ رقبته لمحزِّ سكين الجزار.
ففي عام (1727م) كان هناك تأكيدا غريباً نشره العالم الفرنسي (بِفون) مما أثار موجة استياء في أمريكا، فقد ألف هذا الفرنسي كتابه (التاريخ الطبيعي) وأملى فيه قوله (إن مياه أمريكا آسنة، وتربتها عقيمة، وحيواناتها صغيرة الحجم قليلة الحيوية، وهواؤها مزعج بسبب الأبخرة المنبعثة من مستنقعاتها النتنة، وفي بيئة كهذه فحتى سكانها الأصليون يفتقرون إلى الرجولة ولا تثيرهم الأنثى).
والغريب أن هذه الملاحظات وجدت مناصرين متحمسين، سواءً ممن يهوون تشويه صورة أي مُجتمعٍ يختلفون معه أو ممن يفتقرون إلى المعرفة الفعلية والبحث العلمي، مما دعا بعالمٍ هولندي أن يُضيفَ باجتهاده لتشنيع تِلك الصورة وتشويهها بأنَّ (أثداء الرجال في أمريكا ممتلئة بالحليب).
هنا قامت ثورة أمريكية لن تهدأ وتستكن حتى يتم لَجمُ التهمة التي تمس الكرامة، فتصدى علماء الطبيعة في أمريكا لها بكل شجاعة وخسة. فجمعوا عظام مخلوق ضخم يشبه الفيل وأطلقوا عليه اسم (المجهول الأمريكي العظيم)، وبدأوا  في تشكيلِ الهيكل العظمي للحيوان المنقرض المزعوم، وفي محاولتهم لإبطال سجالات (بِفون) الحمقاء شطحوا وبالغوا في تضخيم هذا الحيوان، فجعلوا حجمه أكبر بستةِ أضعاف الحقيقة، ومنحوه مخالب مخيفة استعاروها من حيوان (الكسلان) وأضافوا له أنيابا بطريقة تمنع الشك، ثم أقنعوا أنفسهم أن هذا الحيوان يتمتع برشاقة النمر وشجاعته، فصوروه في بعض الرسوم في الصحف وهو ينقض برشاقة على الفريسة. ثم أرسلوه إلى (بِفون) وقالوا في أنديتهم الخاصة: من في فرنسا سيعرف الحقيقة؟
علم حينها الفرنسيون بأنها دجلةٌ من تَدْجيل الإعلام الأمريكي، وبسببِ قوة الدعاية المُصاحبة اكتفى الفرنسيون بالسكوت وابتلاع الأمر على مرارته.
في هذه القصة نتعلم كيف يتمُ بناء الأبراج العالية من السمعة المُزيفة، وتلميعُ المعادن الرخيصة فتصبح ذات بريق بترويج الأكاذيب واختلاق التاريخ المُزور المقرون بالدلائل الكاذبة المقنِعة. ليتناولها الإعلام ويروج لها فتسري بين الناس مسرى اليقين المؤكد والصواب الحق.
قصة الحيوان الأمريكي هي ذاتها قصة المُنقبة الإرهابية الإماراتية في أيامنا هذه، ولكن الفرق في أن بعض القوم امتهن الصنْعة فتمكَّن والآخر ضعيف الإرادة فقصَّر.

خلاصة الأمر، علينا بتحرير عقولنا من سجون الوهم وإعتاق أيدينا من أغلال الغفلة، والتفكرِ فيما حولنا بما منحنا الله من قدرات عقلية، فنُعْمِّلها لما خُلقت له، وستَتبدَّدُ غمامةٌ استقرت أمام أعيننا لم نكن نحسب أنها غمامة.

توفيق الربيعة .





إن أجدبت الحياة، واغبرَّ أرضها وغار ماؤها وتساقطَ زهرها وأُقحوانها، ثم التحفت ثياب البؤس وعِمامة الفقر، وسرت تلفحُ بسموم الرياحِ وتضربُ بسياطِ الهجير. فلا غرابة حينها بأن نسمع أصداء الشكوى وأنين الضجر من كل كائنٍ ينبضُ فيه عِرق الحياة الذي يشتاق للفرح بعد جور الحزن، وللسعادة بعد ظلم البؤسِ، وللنعيم بعد نيران الجحيم.
ولكن الغرابة تأتي حينما يُقْدِمُ من يشْتُم جمال الربيع ويلوم فرحة المطر ويستهزئ برقصة الأرض عند معانقتها سحابة الخير.
الأيام حُبلى بالمفاجآت، وقد تلدُ بيننا عِظاماً مبعثرة في ثياب أصحابها لا في قبورهم، فترمينا بأعمى بصيرة، أحمق رأي، أعتى من الصخر وأقسى من الهجر، حسودٌ ضجورٌ ملول مُحب للشرِ كاره للجمال مُتيمٌ بالدمامة. يَنْأَى عن الرياضِ المُبتسمة، يحلُمُ بنارٍ تأكلُ أخضرها وتُبقى أغبرها، هو كذلك القلبُ الحسود والعقل الأرعن.
وإلا فلماذا تلك السهام المسمومة من أقواسِ أولئك؟ أتريد النيل من ناجحٍ برهن واقعا على نجاح إدارته، وأثبت قدرته على شقِ ضوءٍ للفجر في جدارِ اسْوِدَاد الليل, وأوقد شمعةً في جوٍ خانق مُظلم؟
هو كذلك النور قاتلٌ لمصاصيِّ الدماء، مَقصيٌ من سُراةِ الليل ودُواج سراديب الظلام، لألا تُكشف عوراتهم وفساد منتدياتهم وخُبث خطواتهم. ولا غرو فالذوق فسد، والأدب شُنق، وفسدت أشياءُ كثيرة كانت كلها صالحة.
سرْ أيا – ربيعة- ودع من يعوي يعوي وحيدا مُتهدل الآذان، فالأرض قد سئمت طلحةَ الجدْب، وعَفن الفساد، وتلهفتْ لزهرٍ يجولُ الندى فيه وتفوح معه رائحة الصلاح.

كم من صاحبِ سؤدد نالته الحجارة، وقُذف بألقاب الهُزْءِ وسَقط الكلام، وكم من متسلقٍ عُيِّر بالجنون والخَبال، خِيفة مُعانقته قِممَ الجِبال. أيا – ربيعة التوفيق – لم يسدْ أحدٌ قومَه إلا بقوة الشكيمة وصلابة الفؤاد وحُسن بُعد النظر، فخذْ من نور الله سراجا واتكأ على عصا الحقِ ولا ترقُب نوالاً من بشر، فالهمة العالية لا تتواطأ ودناسة أخبث البشر.



نهاية عزيز.






القمر يُزيحُ السحاب بيديه كيتيمةٍ  تتبدى خجلا من خلفِ ستار، ، ليظهَر من بين فُرَجِ الغمام، حزينا شاحبا لذهابِ عزٍ وجلاء مُلك. يُرسلُ تعازيهُ أشعةً متكسرة يواسي بها أنين الأرض ويمسح دموع الأشجار والأحجار.
تلك الأرضُ التي تزينت عشرات السنين بأطواق النعيم وتراقصت أعطافها طرباً تحت مُزن أنوار العلم والحضارة واليُسر والرخاء. هي إشبيلية الفاتنة الغانية، استغنت بأنهارها وحدائقها ومُعتمدها واعتمادها عن حُلي الأرض وزينة السماء. مُعتمدها هذا زادها بهاءً ومَلاحة وزيَّنها بسرير حكمٍ ودواوين علم، فكان هو الشاعر العالم، الأديب الفحل، العاشق المتيم.
أحلَّ جوهرته (اعتماد) في قلبه، وحلّت اعتماد بِاسمها في شعره، فرفلا في رخاء الدنيا وحدائق العشق، وعاشا شبابهما ومجدهما متيمان بالحب وطائران فوق كل قصص الغرام والهُيام، حتى غارت منهما كل عاشقة وتحسَّر على حظه كل عاشق.
ارتجت عليهما زلازل الأيام، فأبت إلا أن يجودا بعشقهما على أرض أخرى، فإشبيلية ارتشفت منهما ما أرواها. ساقتهما أقدارهما عن أنهار الأندلس إلى سِجنِ (أغمات)، ومن أُنسِ الثغر الساحر إلى ألمِ تجاعيد الخدود، ومن السير على طينِ المسك والكافور إلى جرداء مراكش ليلها سموم ونهارها جحيم. أُسرج المعتمد وقلبه على خيولِ المرابطين وأمسكا بلجام الهزيمة فبكتهما الجِنان والجبال، وتبدد حُسنُ إشبيلية كما يتبدد الندى في وهج الشمس، وسألت أزهارُها أشجارَها من لنا بعد أن مالت نجوم الليل؟ احتضنه سجن أغمات جميلا كالقطن، حلوا كالأمل، نقيا كالثلج، فسلبته زوجتَه ويتمت بُنياته ثم أردته هو الآخر قبرا نُقشَ عليه:

 قبرَ الغَريب سَقاكَ الرائِحُ الغادي
                  
حَقّاً ظَفَرتَ بِأَشلاء ابن عَبّادِ.

عدسةٌ مُكبرة







في ذلك الجو المشحون بشحنات البرق وهزيم الرعد وزعزعة الخَريق، كانت (هديل) الطفلة البريئة لم تكمل عامها الثامن، عينان براقتان كسرهما الزمن، خدان متوردان جثى عليهما طائر الأوساخ، الأنف تسيل سيولُه، الثياب مرقعة. مُحتبِئة عند باب المسجد لعلها تجد من يسد جوعها أو يطفئ لهيب عطشها.
جلست متكورة وذقنها على ركبتيها وكأن جزيرة العرب بأوديتها وينابيعها وروضاتها ونخيلها ربضت كلها فوق كتفيها شاحَّة بأقل فضلَة عيشٍ للمسكينة.
قُتل أبوها وحُرِّمَ الخروجُ على أُمها قسرا اتقاء الشبهات، فأصبح البيت بلا أبواب والصنابير من غير حنفية، والقناديل من دون زيت.
لا أمَرَّ من عيش الجوع تحت عناقيد العنب البعيدة، ولا أقسى من جفاف الحلق عند مجرى الأنهار العذبة.
أصبحت (هديل) الوردة النظِرة التي نثر بذرتها جاهلٌ في تربةٍ عقيمة، فلا الجاهل أمسكها ولا التربة رَبَّتها. هي المشؤومة التي أصبحت عنوانا لفساد المجتمع وبُخل الغني بل سطوراَ من البلاغة في وصف تملُّق أهل المعروف، وتبيانا لمجاري الصرف النتنة لرؤوس الأموال.
أصبحت عنوانا لكذبةِ مصلحة الزكاةِ وخدعةَ كفالة الأيتام ولجان الرعاية والشؤون الاجتماعية. أصحبت (هديل) هيكلا تعليميا يشرحُ للبشر كيف تم تفسير (إنما الصدقات للفقراء...) وكيف تم تطبيقها على الواقع الذي حرَمها من لقمةِ الكفاف وأسبلَ على غيرها دُثر الغِنى.
هي إطارٌ أبيض يُبين سواد الصورة وشُؤم المنظر الحقيقي لصورةٍ رسمها مُرائي بريشة العطفِ والدين.
لم يقسُ على (هديل) أكثر من أنها تعلم أن شبكات الري التي تسقي مزارع الأغنياء خارج بلدتها كانت تجرُّ مياهها من تحت قدميها الحافيتين. ولكنها آلت على نفسها إلا أن تكون المجهر الذي يُخبرُ العالم بوجود الميكروبات الضئيلة التي تختفي عن الأعين لتجد المتسع لتنهش جسد المجتمع، لعل أحدا يأتي بمُبيدٍ حشري ويقضي عليها.


كيف أصبحت أديباً؟






إليَّ عزيزي القارئ ولا ترتعب، وادنُ مني بلا وَهَلِ، فلستَ بالفراشة ولستُ من النارِ، بل قطرٌ على قطرٍ، وزُلال باردٌ سلسبيل، وسماءٌ مزينةٌ بالقناديل، فاجْهَد جَهْدَك معي كُله، فهنا نصائح كتاجِ المُلك، على جبينٍ من ذهب، وحروفٌ لن تجدها إلا عندي وسبعة من البشر، أنا منهم وهم ليسوا مني، فسبحان الواهب المنان، يُقسمُ فلا يُسأل، ويَرزقُ من غير حساب. أما بعد: فقد طالعتُ سؤالا وصلني مفاده كيف أصبحتُ أديباً؟ في رسالةٍ بليغة موجزة، جمعتْ الجزالةَ والرصانةَ في زِقٍ من السلامةِ والنصاعة، فالجواب هنا سمعا وطاعة، والنصح عندي في محضر الجماعة، لا في خلوةٍ أو مناعة، فأنا شمعةٌ ومنارة، وذو علمٍ ومهارة، لم تسطع الشمس على مثلي، في قبائل سلامان ولا عند أثْلِي.
فاعلم يا صاحبي أنني جاهل جهلا مُركبا، لا أُفرقُ بين رأس الخروف وكراع الشاة، ولكن كُنتُ ممثلا بارعاً، والناس كانت تحت وطأةِ جهل ثقافي وليل أدبي مُظلم، فأضحت الساحة خالية لي ولأمثالي من الأقزام. فحملتُ في جيبي قلما، فمظهري مظهر صاحب أدبٍ ومُحبرُ ورق.
في (تويتر) أُغردُ صباحاً بصورة القهوة، وعصراً اسرقُ أبيات (المعري)، وفي المساء اذكر رواية (البؤساء)، ثم أقذف بغضبي على (لورانس) وفُحشه في (عشيق الليدي شاترلي)، ثم اختم سهرتي وكأني (ابن زيدون) لولادة، أو (ابن عباد) للرميكية، اعملت النسخ واللصق حتى سئما منى، فأنا لا أعرف من هؤلاء، ولا في أي كوكب سكنوا، فقط حفظتُ كيف أكتب أسماءهم.
جعلتُ صورتي في مواقع التواصل وأنا أحتضنُ (جواهر الأدب) و (بيان) الجاحظ ، فالصورة غطت على جهلي وحُمقي. أما في المجالس فأتحدث عن الأماكن والرحلات ثم أعقبها بأنه قد ذكر ذلك (ابن خُرَداذبه) في كتابه، فتنبهر العامة من صعوبة الاسم ولم يسأل أحد عن حديثي، ولكني أَعطيت انطباعا عميقا بكثرة أدبي وغزارة منطقي المُزيف. أكثرت من ذكر أدونيس، ونازك الملائكة، حتى ولو لم أقرأ لهم، فأيضا لن يسألني أحد.
خلعتُ عباءة الخوف وتسلحت بالكذب، فكتبت في ملاحظات (جوالي) باستخدام خاصية الإملاء التلقائي فانثالت الكلمات أمامي بلا معنى ولا ترتيب، فنُسبتُ بعدها لأصحاب الرمزية العميقة والسر الكامن في (كرش) الكاتب، وفُتحت لي الصفحات البيضاء، وتكالبت عليّ الفتيات والنساء. حفظت كلمات مثل (لا يروقني هذا)، (لا عجب في ذلك)، (حريٌ بك)، (أُهيطل)، (الصيف ضيعتِ اللبن) فأذكرها عند تناول الطعام و عند دخول الخلاء.
أزور معارض الكتاب والتقطُ (سيلفي) مع صحفي أراه، ابحثُ عن مذيع وأصافحه وأقوم بـ(صورني وأنا مدري)، أحمل الكتب أمام الكاميرا كالحمار ثم أضعها وأخرج، لم أنسَ أن أُعرِف عن نفسي في الفيس بوك بأن لي كتابان تحت الطبع وأن الرقابة عرقلت طباعتهما. أحملُ ملحقا لصحيفة ثقافية أنَّا ذهبت واقرنُ معه ديوان شعر كنتُ قد ابتعته منذ سنين، ولازلت أجهل صاحبه.
لا أفقه في العربية الفصحى شيئا فحفظت بيتا واحدا فقط من إحدى المعلقات فتراني في كل مجلسٍ انسبه إلى شاعر فمرة يكون للطرفة ومرة لِزُهير، بل إذا نسيت أسماءهم نسبته للعشماوي أو حافظ ابراهيم.

أعملتُ فأسي في حطبِ الكثير من الأدباء، فأغلو في العيب وأَقتصد في الثناء. وهكذا عزيزي  أصبحتُ أديبا أريبا أُذكرُ نظيرا للحريري والهمذاني والطنطاوي. فخُذ هذه الوصفة عني لترقص رقصةً مُشرفةً على مسرح الجهل وأمام جماهير ابتليت بالعمى والصمم، وكن حياً بكذبك، راسخا بهذرك، خالداً بحشوك، تغنى بكلمات الشك، وعَبِّر بحروف الاعتراض على المنهج الرباني، واجعل أدبك يخرج من بطنك لا من قلبك، وستأكل بقلمك وتشرب ما لم يدركه غيرك.