تذكرةٌ لحامل قلم






تَذكرةٌ لحاملِ قلم

رأيتُ مُصطفى الأدبِ، صادقَ البيان، رافعَ العربيةِ، الأديب "مصطفى صادق الرافعي" فيما يرى الرائي فإذ به رجلٌ مُقذَّذ، على عرش مُدجَّل، في بيتٍ مُنجَّد، على نهرٍ قد استنهر، وفي مُستقرٍ قد استبحر، يلتقط الحرفَ فيغدو كالكوكبِ الوضّاء ويعلو بالمعنى فلا يتململ بل يستقر في مكامنِ النفوس، فنظرَ إليّ بعين الناصح وقال:
إن من عادتي أيا بُني وأنا أكتبُ الفصولَ أن أدعَ الفصل منها يتقلبُ بالخاطر في ذهني أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس وأترك أمره للقوة التي في نفسي فتتولد المعاني من كل ما أرى وما أقرأ وتنثال من هُنا وهُنا ويكون الكلام كأنه شيءٌ حي أُريدَ له الوجودُ فوُجِد. ثم أكتبُ نهار الجمعة ومن ورائه السبت وليل الأحد كالمدَد من وراء الجيش ثم أبعثُها وتُنشر للقراءِ يوم الإثنين.
فقالت نفسي: ومن أجل هذا حقاً أنت أديبُ العربية وما أنت في جَهدك حتى تُعمل في سبكِ المعاني فتنبثق السبيكةُ من بين خاطرك وفؤادك وفكرك حتى يرتَشفها قلمُك من مِحبرةٍ يكاد سنا برقها أن يذهب بالأبصار.
وارتفع الرافعي مترفِّعاً فوق القمم ثم برزَ من بين الحشائش "أنيسُ بن منصور" ضاحكا مستبشرا بعد أن سمِع دُرَّ الحديث يقول: أما أنا فأكتب كُل صباح مع بزغة طفل ذاك الصباح، فأضع رأسي، ينسكبُ ما فيه حتى تغدو البيضاء الخاوية مزركشةً بالسوادِ المُوَشَّى، فيها ما يريحُ فكري وصدري ثم أبعثها في ذات اللحظة فتكون بجهدٍ قليل ووقت مستمر.
فجال في خاطري أن نعم وهي كذلك تأتي كالوجبة السريعة، طيبة المذاق سهلة الهضم تُوجبُ التخمة قليلة الفائدة. ثم سَرت عني ظُلمة الكّرى، وداعبت أصابعُ اليقظة أجفانَ النوم، فما بين صحوةٍ وغفلة، حتى سمعتُ الشاعر العباسي "مسلم بن الوليد" يقول لأبي العتاهية: والله لو كنتُ أرضى أن أقول مثل قولك:
الحمدُ والنعمة لك          والمُلك لا شريك لك
لبيك إن المُلك لك
لقلتُ في اليومِ عشرة آلاف بيت، ولكني أقول:
موفٍ على مُهجٍ، في يومِ ذي رَهَجِ      كأنه أجلٌ يسعى إلى أملِ.

نعم أعزائي، ما هي إلا كذلك فشتان ما بين الأمانة والهواية، فالأولى حملُ راية وقيادة أمة وكشف ظُلمة والأخرى للمتعة واستمطار النوم من سحائب الأرق، بل الأُولى ورق وردةِ "الأُوركيد" تفتَّقت عن عبقٍ لو اختار العبق أن يكون له اسماً ما اختار غير اسمها، والأخرى نبتة لاحمة تكون أفخاخا حمراء زاهية تفتَّقت فكانت لاصطياد الحشرات. فالخيارُ لك فُكن جاهدا لنفسك ومُتعبها تنل مجداً سائرا في القوم، أو كُن فقاعة صابون تعلو بالنفخ بين أوداجها ويثيرها التصفيق ثم ما تعدو أن تنحبس وتنفجر وتختفي عن الوجود كأن لم تكُن.

رسالة إلى وزيرنا الطريفي





إلى وزير الإعلام "عادل الطريفي" :

لا أخفيك فأنا عيِيٌّ في سبك سبائك التهاني والمُباركات، وفي تقليد قلائد المدح والثناء السابقةِ لأوانها، فمنك العذر فهذا جُهد المُقل، فلا في الصمتِ نقصٌ لكامل، ولا في الثناء زيادة لناقص، فخذها حوراء حنونة، ناصعة مُشرقة كفلقِ الصبحِ الوضّاح وكعين الشمس لا يسترها غربال.
كما لا أخفيك أنّي قد زورت حديثا في نفسي ثم آثرت محوه عن نشره، وجعلته تحت الصفيح لسذاجته وسقْطه، ولعلمي أنك عليمٌ بما قد كنتُ أضمرت، فمن مثلبةِ الكمال ترديد ما قيل وتكرار ما أصداؤه تُتناولُ من فمٍ إلى أذن مع تعاقب الساعات والأيام.
ما أرانا نقول إلا مُعارا                         أو معادا من لفظنا مكرورا .
فذاك السترُ وهنا الإبانة، فصحافتُنا عليلة، فرائصها ترتعشُ آناء الليل، وريقها يجفُّ في الغدو والأصيل، شفاهنا مُغلقة، عليها حرسٌ وحُفَّاظ، يسمحون وينزعون، عقولنا تُضرب بالسياط وتُنَصَّبُ في دهاليز الظلام، أقلامنا مكسورة وأوراقنا مُجدِبة، والطُرق حصباؤها الجمر تُفضي إلى خَلاء.
يتنادى القوم بسقف الحرية الصحفية بأحاديث نسمعها أحلاما ما بين هاجعٍ وهاجد، نطردها سرابا ما بين لاهثٍ وناصِب، شعارات تُرفع مُخرَّقة بِخرقِ التزييف والخديعة.
لك أنتَ أن تستحيل بها رايةً خفاقة، ودروبا سوية متزنة، عالية عن السفسفة والسفسطة، بل نقية نقَّادة بنّاءة، لك أنت أن تسمح للحق بمزاحمة الباطل وللباطل بمناكفة الحق، دعها حلبةً أدبية فكرية، كلٌ يُدلي بدلوه ويضربُ بقدحه، من مُنطلقٍ إنساني واحترامٍ ذاتي وكشفا لما في الفكرة من نور، من غير تجريح لشخص أو سبٍ لذات بل بيانا يسمو بالذائقة ومعنى تتحرك به العقول، اجعلها ميدانا تُجندلُ الفكرةُ الفكرة، ويُسقطُ الحرفُ الحرفَ.
فَكُن من الناس كالميزان معتدلاً       ولا تقولن ذا عمي وذا خالي .
مجتمعنا زاخرٌ كالبحرِ في أعماقه، أقلامٌ فيَّاضة، عقول وضَّاحة، ألسنٌ سوية، أقعدها الرقيبُ، وعقَد أجنحتها التأويل، وطوى أقدامها الحذرُ والتحليل.
عبقرية الحرفِ لا تكون في رسمِ الطريق للأفكار، وتقريرِ حدودها بالحدود، بل في إرسالها على وحدةٍ من التسديد تستقر به في النفوس البشرية، فضاءُ القلمِ فضاء، وسماؤه سماء، لا تحده إلا حدود النَّيِل والتقريع، فاجعله في عهدك يسمو ويُحلق، ويعلو ويُنافس، ويجولُ ويناقش، إن كّتب فاللؤلؤ وإن محا فالحكمة. القلمُ المبين يكون للصحيفة منارةً لا مصباحا، ودُرة لا خرزة، وتاجا على ناصيتها لا حذاء تسير به. فنصف التمويه رذيلة والنصف الآخر نقيصة.

وفقك الله للخير.

فاحِّص







بما أننا نسبحُ مجبرين في نظام يتقنُ انتاج البرامج التي تأتي مصادفةً بمسميات على وزن (فاعل)، فلا ضير إن أضفنا واحدا على الأربعة الموجودة إن كانت فعلا أربعة فقط، فأنا قليل الاطلاع على البرامج الحكومية الفاعِلة.
ما سأقترحه سأطلق عليه برنامج (فاحص)، إنه اسمٌ جميل أليس كذلك؟ فمن الواضح ألَّا علاقة له بالمال والجِباية ولا بمحافظِ نقود المساكين.
"فاحصٌ" هذا يستهدفُ كُل ماله علاقة بالكتابة الصحفية، فإن أثبت جدارته وفاعليته فلا مانع عندي من بيع براءة اختراعه لدور النشر والطباعة، وإن أراد موقع "تويتر" أن يُخضع محتواه العربي لسُلطته ونظامه فلا ضير في ذلك والأجر على الله.
"فاحصٌ" هذا مُلمٌ بكل علوم اللغة العربية –التي قبل أيامٍ تشدَّقنا وتفاخرنا بيومها العالمي الذي لا نعلم عنها إلا به– وبكل أقسامها وتصنيفاتها، فيكون جهاز مرورٍ للنحو والإعراب والبلاغة والبيان والبديع وغيرها، وما على الكاتب المُحترم إلا أن يبدأ الكتابة حتى يقول له "فاحص": هل تقصد هذا...؟ أرأيتم لم أسلبْ منكم ضحكةً ولا مالاً! فقط نريد بيانا وتبييناً!
لا شك سنعاني في البداية من خللٍ في "فاحص" لما سيعانيه من شدة الضغط من جراء كثرة التصويب والتعديل وطرح أسئلة "ماذا تقصد؟" والإنباءِ بنبأ الكلمة المحجوبة لظروف أمنية، أو التي تُشطب فورا لمساسها بما لا يجب المساس به، وهكذا دواليك حتى يُصبح عادة وتقليدا متبع. ولكن من الفوائد المجتناه من بين أفنان تعقيداته المتداخلة أن تزداد نفوسنا وقلوبنا وعقولنا صقلا وقدرة على التذوق وعزلا لنداءات الوقاحة التي تُطالبُ بالانخفاض لمستوى الأدنى والأكثر رواجاً، وعزل السُّخف الذي ينحلّ صديده من العقول.

"فاحصٌ" هذا لن يُدشَّن رسمياً ولن يُحتفى به، ولكن لنُدشنه نحن في ذواتنا وعلى ألستنا، نرتَضعُ منه مادة نبني بها العقل والنفس، فما من لغة يُسفهها أهلها إلا كانوا أهل طيشٍ وهوى، وما من أحدٍ ينتقدها إلا لما حاك في صدره من صعوبةِ ارتقائه لسُلمها لجهالة تعتريه وهوى يستهويه فبنى دونها حاجزا فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً. فلنُلقي بهم وبعاميتهم خلف أظهرنا و لنُثبِّت "فاحصا" بنسخته الكاملة التي تقبل التحديث التلقائي ومن دون أدنى معاناة وسنفرح لاشك بالنتائج.

هيَّاب .





أقفُ على جبلٍ رقيقٍ مشدودٍ بين الحقيقة والزيف..
حقيقةٌ هاوية.. وزيفٌ مُهلك...
لحظاتٌ خاوية.. وفِكْرٌ مُمْسِك...
العقول تحت قِحَف الجماجمٍ حالِمة...
فإذا انشطر الجسدُ فالروح دائما مُستحكِمة...
جراحُ الضميرِ ومالحُ الذكريات المؤلمة..
خياراتٌ شائكة، ولن تُشاركني الحصباءُ دماءَ أرجلٍ حافية.
....................

حروفٌ ذات قروح .






بداخل صندوق مضلع

واسعٌ تجري فيه الجبال
ضيقٌ لا يحتمل نسمة الهواء

رقيقٌ يَشِفُّ عن بعضه
غليظٌ مُتَقرح ككعب راعي بدوي

في سماديرِ سكرةٍ
أم صحوةِ مُتنبه؟
على تلك الأرض تُقِلُّنا
خطواتٌ تجرنا
تحت ليل بهيمٍ يُظلنا
-
تائهٌ حائر
في بادية يلفها سراب
سرابٌ من أمل
عند كثبان من رمال
رمالٌ من خَيبة
-
كنت قد ابتُليتُ بلدغةٍ
فما هلكتُ، وما برئت
أحثُ السير فتتعثرُ الخُطى
أنتشل الخطوة فيذروا الغبارَ ريحٌ
ريحٌ فيَّأها هجرٌ
هجرٌ أثار كُل تِلك الزوبعة
أُحيلُ عن عيني
أرى الظلامَ نوراً
أُحدقُ، فإذا النور ما هو إلا مسمارٌ مسمومٌ تّدُقه مطرقةٌ بانتقامِ صليبي
أكوي هذا القرَحَ المُمِدَّ
بكلماتٍ كانت من الماضي
كانت
تُدفئ الضجيع، وتُشبعُ الرضيع
-
لن أجد إلا هذا الثرى الجعدَ الذي لا أثر فيه لنجاة أو خسارة
أو ربما في تلك الحواشي الحَرَجَة مُظلمة الجوانب
-
سأبقى في ذات الصندوق المضلع
الواسع الضيق
ستفتقدني
ويردها إليَّ جورُه
تبحثُ عن حياتها بعيدا عن رُفات روحه
ويردُها إليَّ عدلي
تبحثُ عن حياتها قريبا من حُطام قلبي
ستبحث عني
في كل مكان
ماعدا مكان!
هو ذات المكان عند كثبانِ الرمال

في البادية التي يلفها سراب
سرابٌ من أمل
ورمالٌ من خيبة . 

إنعاش المُحتضِر .






هل من المقدسات العقدية أن نقبعَ على كرسي التعليم لمدة يجب أن تكون اثنتي عشرة سنة؟ ثم هل المُخرجات التعليمية الحالية تعطي دليلا على فاعلية تلك السنوات الطويلة؟ وهل ما حازه الطالب من معرفةٍ وعلم بذي عمق وفائدة توازي بها تلك المدة من السنوات؟
أعتقد أننا سنتفق على هزالة وضحالة ما يجنيه الطالب في مراحل تعليمه العام فهو لا يعدو أن يُلِم بقليلٍ من المعرفةً بالقراءة بلسان أعجمي أو ببعض الحساب باستخدام الآلة الحاسبة أو حفظٍ لتاريخٍ غير مُدقَقٍ أو معرفة بتضاريس شرق اسيا وصادرات دول حوض البحر المتوسط.
البيت التعليمي لا يحتاج لترميمٍ هش، ولا إلى اجتهاداتٍ مُخجلة، أو مشاريع من غير هدف واضح. بل يحتاجُ إلى ثورةٍ عارمة وزلزالٍ يقضُ البنيان كاملا فيخر على الأرضِ رُكاماً بعد هرمه وهشاشةِ عظمِه عن مقاومة متطلبات العصر. ثم بعد ذلك نرفعُ الأسسَ من جديدٍ ونبني الأركان ونقيم ثقافة حية وعلما نسمو به الأمم.
العلمُ يكون بالتدرج دون الوصول إلى درجةٍ من البطء المُمل الخانق، فلماذا لا يقصُر التعليمُ العام مراحلَه إلى تسع سنوات؟ وهي كافية وأكثر, ولا يدركها إلا من لمس ظلام وتكرار مناهج التعليم.
تسعُ سنواتٍ ينصبُ فيها الإفهام في مسالك شتى من أبواب الفن والعلم والتعلم ثم نرتقي بعد ذلك إلى المرحلة الجامعية التخصصية لنقطف ثمار العلم ونُحصل الفائدة. وتضاف السنوات الثلاث المُقتطعَة إلى مراحل التعليم العالي فهي أقدر وأكمل على الغوص بالمُتعلم في عمق التخصص الذي يختاره. وبذلك تكون المرحلة الجامعية المُقترحة أكثر من الحالية بثلاث سنوات ولا مانع من اختصارها هي أيضاً.

في الجامعة تكون المسؤولية أكبر والهمة أعلى والثقة بالنفس أكبر وهذه من أهم العوامل المساعدة على إنجاح التعليم. المساحة أضيق من أن نأخذ بكل التفاصيل ولكن أرى أنها تستحق التفكير.