مملكة الليقرال









كان هنا قبل ألف سنة، لم يكن تَخطى بعدُ سن الطفولة سوى بأقل من مئتي سنة، كان في صمته بحة، وفي حديثه شدوٌ، مجرد جوالٌ غجري، الآن ملامحه لم تتغير كثيرا، فقط برز تورمٌ في كفِه الأيسر بالقرب من أسفل أصبعه الإبهام. في هذا المسار من الزمان كان يجد الرائحة النتنة التي تنبعثُ من خلف تلك الصخور. والتي تخطتها الشمس، بعد ذلك بفترةٍ قصيرة، عندما ظهرت عليها لأول مرة، تخطتها احتقارا لها، ورِفْعَة عن نتانتها، لم تعتبرها إلا وَرَماً شاذا في كف الزمان المستوي بالقرب من إبهامه الصغير.
كان هنا بعد أن سمع بالملكِ الخوار، الذي يسكن في الجوار، تاجٌ على مملكة "الليقرال"، هو ذات الملك العالمُ بكل شيء عدا الخطط العسكرية وقيادة الرجال، كان يحلم بأن يكون له تاريخا يذكره ومجدا يبنيه لأحفاده، فما استقام له فكر ولا انتفع بمشورة، لابد وأنه كان أخرق، بل أخرق، حتى أن حفيده الرابع والذي كان من غير عينين بالوراثة كتب في مذكراته أن جده الرابع كان أخرق.. لم تُشرق عليهم شمس منذ ألف سنة. يجهلون كيف كانت البداية؟ كان في كتبهم أن هذا الزمن هو زمن ستغزوهم جيوش قادمة من مكان يُسمى الشمس، في السماء! فإن هم حاربوهم وردوهم فهو الخلود لهم.. وأثناء ذلك و تحت عفاريت الظلام ولسعات البعوض يجلس الملك متحسرا على حظه الذي أنجبه في هذا الزمن.
 
يدخل الغجري مملكة "الليقرال" بصوفِ ثعلب ولحافٍ من وبر، تُغطيه ملاعق وكؤوسَ من الجص الأبيض، كان من ذوي العجائب الخرافية و التي اقتنصها من رهافة سمعه وطول عمره ومن معاشرته الضباع.  سمع ما وقع على الملك الخوار من همٍ وحَزن، فاستأذن لرؤيته ليعرض الحل المستعصي أو  يبعث بريحٍ تُجلي هذه الكادرة، أدخله القائد للمثول بين يديه لعل السماء تنطق بلسان هذا الغجري مالم تنطق به على لسان وزرائه وحاشيته، وبعدما أبدى القائد للغجري أمانيه أمام عجزه، وغاية منتهى فكره أمام جبنه وضعف قلبه، حكّ الغجري رأسه، أخرج له قارورة صفراء من بين ملاعقه وكؤوسه، ناولها للقائد وقال: نصرك بداخلها، وخلودك تحت غطائها، اشرب منها ثلثها واسكب الباقي في ماء شرب الجند، ستندلع فيكم الشجاعة والنيران وتؤازركم الحيات والثيران،، هذا بول تنين الأرض الخامسة المتعدد الرؤوس، مَن شربهُ يخرُّ له الطغيان تحت قدميه، وتركع الأهوال لعبادته، ولكنْ احذر،  فأعينكم ستنطفئ ويخرج منها الجراد الأزرق، استبشر الخوارُ بعد تأكدهِ أن الأعين نوافذ للخوف فإن هي أُغلقت لم يعد للجبن مدخل ولا مولِج،، ملأ القائد ثياب الغجري بالذهب وولى لأمر حاله، حان الوقت كما ذكَرت الكتب، وتغيرت السماء وبدا كما لو أنها فعلا ستغزوهم جيوش الشمس، هالهم النور وارتعدت فرائصهم، وأمام جيوشه بدأ بول التنين ينساح في حلقِ القائد مرا علقما، ليُبقي لجيشه ما يُبقي لسد رمقهم وعطشهم للنصر، كما قال الغجري اندلعت نيران قلوبهم وتسمَّلَت أعينهم جميعا حتى الدواب،،
أشرقت الحقيقة من خلف تلال مملكة "الليقرال"، في ذات اللحظة التي أُقفلت فيها أعين المغفلين وفي ذات اللحظة التي صمتت فيها جنادب الليل، أشرقت لا يطفئها بول تنين ولم تشعرْ بمُسَمَّلي أعين. في خطوة خاطفة أشرقت واحتضنت مملكة "الليقرال" وما جاورها من ممالك،  ليلامس شعاعها كل مُضغةٍ صالحة لم تُسمَّل أعينها.
بعد ألف سنة كان هنا، حيث ما زالت الأجساد تخوضُ في مستنقعات الفناء، والأعين منطفئة والألسن تحكي انتصارات "بني ليقرال"، انتصاراتهم التي تغلبت على جيوش الشمس، كما مازالوا يحكونها في المواخير التي تبعث الأبخرة النتنة من خلف تلك الصخور ....... 

عزائم العزمِ في عواصفِ الحزمِ




لا شيء أرفع من العزة، ولا عزة من دون حزم وقوة. ولا حزم ولا قوة إلا بالله. ثارت الثورات وعصفت العواصف بمن حولنا، والجاهل فقط من أيقن أننا عنها بمنأى، وعن الاكتواء بنارها بمنجى. ففي هذه القرية العالمية لا بد وأن لكل واحدٍ ناقةٌ أو جمل. منذ فترة ليست بالقصيرة كان المد الصفوي يُزخرِفُ قوانينَهُ بمداد الدماء، وبشهوانية الضباع، وبجبروت متجبر، وبطغيان طاغية، قتلَ وسفكَ وقصفَ المساجد وشوهَ الإسلام، خانَ وغدرَ وسبى النساء ويتَّمَ الأطفال. أحاط ببلاد الحرمين إحاطة السوار بالمعصم، أرادها وثنية مجوسية إباحية كما أرادها أسلافه من القرامطة والعبيديين والصفويين. ولكن الحق يأبى إلا الانبلاج ولو من تحت سرابيل الظلام والمحنة. والغراب إن رأى البازي سيولي الدُبر.
في التاريخ عبرة، وفي محاضرات الماضي درس وعِظة، فقد ضاقت بالأمة الإسلامية الضوائق وحاق بها كل حائق، وتآمر عليها أعداؤها لإطفاء جذوتها واقتلاع جذورها، فوقف لها فيمن وقف عماد الدين زنكي وأشهر سيفه وسيف أبنائه وأحفاده حتى أقام العدل وأروى سيفه. ثم دار التاريخ دورته واستأسد الشاه اسماعيل الصفوي حتى سلخ سليم الأول جِلدَهُ سلخ الشاة في جالدران. ثم دار التاريخ أيضا وبذات الدعم الصليبي الحاقد فاستضبعت إيران الفارسية في هذا العصر وحفرت أَوجِرتها في الشام واليمن، فأيقظ اللهُ ملكَ الحزمِ سلمان، فجمع كلمة الإيمان، ورأَبَ صدع الخذلان، وأزالَ تفرقة الإخوان، فأشعل ملكُ الحزمِ عاصفةَ الحزم. عاصفةٌ ثارت بغتةً فلم يفِقْ منجمو فارس وكهنتها إلا بعد أن رجمتهم حجارة العرب عقبَ الرأفة، وضربتهم صواعق الغضب بعد الحِلم، فدكت معاقلهم دكّاً، فخر عليهم غضبُ السماء، وخرج من الأرض كُل هِزبرها. فلا ملجأ ولا منجى، ولن يقِ الفأر جُحرٌ، ولن يمنع القط تودد. لا دفاعا عن وطن وتراب فحسب، بل كرامة ونصرة لراية توحيدٍ يُراد بها التنكيس، وحفاظا لحرمين شريفين يُراد بهما التهديم والتخفيس. يغفل الفرس أن الروح العربية قد تخبو ولكنها لا تموت، والدم العربي قد يبرد ولكنه لا يجمد، وأن الإسلام يَبقى مُوقِدُهُ ومصدر اشتعاله. في عاصفة الحزمِ حزمٌ للهمم الأبية والأنفس الزكية، وحَزمٌ للفرس ومن شايعها في حِزمٍ من حطبٍ يُوقد منها نارٌ في الجنوب العربي تلتهم كل نار أوقدها مجوسي في بيتٍ عربي..


مُسِنَّةٌ غير مرحبٍ بها






مُسِنَّةٌ غير مرحبٍ بها

قبيل مساءِ يوم حار، كانت مدينة "الدمام" تلف سكانها تحت رطوبة إبطها الخانقة، وعند محطة توقف الحافلات، ينتظر البسطاء من أصحاب الأعمال حافلتهم اليومية تُقلهم إلى مخادع نومهم.
يجلس "كتاب" كذلك يتأمل واقعه، معاناةٌ حامضة ترجُّ جسده النحيل، وصداعٌ يُفتتُ رأسه، يستشري طعم الليمون على لسانه، وتهرب الابتسامة منه كما يهرب الناس، استقلَّ تأثيره على واقع متسارع محموم بحمى المال، تخرج أمام ناظريه مشاهد ماضيه الزاهر وأصداء كلمته المسموعة وسلطانه القوي.
تقف الحافلة متأوهةً متألمة، تقطر عجلاتها عرقا، وتتمنى لو خرج هواء روحها لعل ارتخاءها يُعجل براحتها من حمل هذه الأكوام المتكدسة من البشر.
يُصارعُ "كتاب" للحافلة متمتماً "لم أعد أقوى الوقوف، ولن أصل لبيتي واقفا بين هذه الأرتال". كأنه حطّ من المشتري ارتمى بجسده بجانب ابنة عمه المُسِنَّة الوافدة منذ أيام من بلاد الغُربة ليصدر صوت ارتطامه صوتاً ضحِك منه فقط راكب واحد. أراد مُصافحة قريبته فما غاب عن أنفه رائحةَ الهمِ التي تفوح من جسدها فأثار في نفسه الشفقة والوفاء ليسأل عن حالها.
صديقتي "سينما" ما هذا الشحوب؟ يبدو أنك متعبة أليس كذلك؟
-         الجسد يا ابن العم في راحة، والروح في عناء، ولكن دعك من المراوغة يا شقي، فلا تستطيع أن تخفي أنتَ مظاهر النكد والإعياء تحت هذه الوجه المتلبد بالسواد.
-         أنا كتاب، وكتابٌ مفتوح، وهذه شقوتي، فحالي لا يخفى عنك، فما أزال ميتا بين الأحياء، رحلَ مجدي، وأفَلَت شمسي، مُقسِمة ألا تُشرق، فاستمرَ ليلي من غير انبلاج.
أمسكت "سينما" بأطراف أصابعها رأسَها وأغمضت عينيها كمن أرادت خلع الواقع كُله،،
-         يبدو أن ليلك يا "كتاب" أكثر صفاء من ليلي، ولكنه ليلٌ في كل حالاته. تأكلني الحسرة وينهش لحمي طول الطريق وعناء المُهمة، وصلت إلى هذه المدينة ولم أجد عملا كما أملت.
-         ولكنكِ لستِ المُلامة، فهناك جَشِعٌ ومُفسِد.
نظرت "سينما" عبر النافذة، تتمنى لو تهرب إلى حيث يقع بصرها، ولكن صوت هدير "كتاب" لم يجد في نفسها صرخةً تردعه.
-         عزيزتي، تراكم المشكلات مشكلة، والشجاعة في تقديمِ البديل، وفعلُ الاتفاق بيننا أنفع لنا.
أحست "سينما" بأن هناك وحيٌ جديد، وسحابة مُثقلة بالخيرات وراء ذلك الوجه الكالح، فنطقت عيناها بحبُ المزيد. و"كتاب" بشقاوته لا يجهل حديث العيون.
-         ألستِ عند العامة أكثر ظهورا وأقوى بيانا مما يُنقش بداخلي؟ ألستِ تمتلكين قُدرة الإبلاغ بجمال وجهك وحسن صوتك وبهاء ألوانك؟
ثم أراد أن يُلقي ورقة الإقناع بعدما لاحظ اقتراب جسدها منه بأن اقترب منها يهمس:
-         ثم لا تنسيْ كسلَ هؤلاء وشغفهم بالسرعة والاستعجال، ثم أن قليلا منهم من يُقلب صفحاتي ويفارق أحضانك!
-         نعم..
-         إذن عودي فالعود أحمد، ولكن أنصتي للخطة، اخلعي عنكِ عُهر أصلك، وثقافتك المستوردة، ارتدِي من ثيابهم وتحدثي عن آلامهم واشربي من مائهم، انبثقي كنبعٍ أصيل من بين جبالهم، يحمل طعم الأرض وأصالة الجذور. لا أخفيك عزيزتي فقد عاشرتُ هؤلاء القوم، هم يحلمون بصوت لهم يُسمع وصورة تُجلِي حقيقتهم وسط أدغال الحاضر، كوني لهم عونا على إبداع منهج خاصٍ بهم، اقتربي مني،،، هم مقتنعون بعدم جدوى عملك بينهم وأنتِ تمثلين ثقافة غير ما اعتادوا عليه، ثم أنك بذلك كمن تقوقع في قوقعة ويخشى الخروج.
-         وأنتْ، ماذا عنك، وماذا تقصدُ بأن الاتفاق بيننا أنفعُ لنا، وأنتَ بوتقة الثقافة ومدارها المُستحكِم؟
-         أنا ابن بيئة هؤلاء القوم، ظاهرٌ مِن حُرِّ مجتمعهم، ولكن القافلة رحلت وأنا نائم، سأفتح لك صفحاتي فانهلي منها ما راق لكِ. تُراثي، قصصي، حكاياتي، رواياتي، حِكمي التي نقشوها بأصابع الزمن. تعلمين أنِّي لم أحصل على جواز سفر لتخطي الحدود، فقط بكِ أُصبحُ نورسا يُحلق، وروحا تُحركُ العقول، فأزرعُ بكِ بذور أشجار الفضيلةِ شتاءً وأحصدها صيفاً.. ما رأيك؟

عادت "سينما" تنظر للخارج وكان الليل قد ازدادت ظُلمته، وتفَشى مرض الخوفِ بداخلها، فصَلَّت ألا يكون مستقبلها كذلك. حيثُ حمى الجدال تكون الطاغية، وحيث الشعور الصاعق بالضياع.