عصفور يُلهم .







في صوت عصفورٍ حزمة من الأسرار، أسرار تنبعث كنغمة لطيفة، وترانيم مُرتلة، تتخلل إلى النفس برائحة الطبيعة، رائحة التراب المبلل بماء المطر، ورائحة حبق الماء عند جريان الوادي، فتحمل معها كل معاني السكينة والأناة، هي ممحاة لكل معاني الألم، قاشعة لكل طبقات الغيظ، مُذللةٌ لكل ندبات الزمان، مانحة نفحة من دواء الطبيعة. تستلذ بها الأنفس من غير معرفة بكنهها ومعانيها، تسير خلال أسوار الهواء بانسياب الحب العذب وبيان العربي القُح وألحان الصفاء المُقدس، تطرب لها الأذن فتُصغي، وتسمو بها النفس فتخشع، هي من العُجمة لنا بمكان، ولكن الجمال هو من نقَّاها، والطبيعة من بعثها، والفقد من عرَّبها، والعدم من طرَّبها. عندما نُصغي لها بقلوبنا نتوله فيها بأنبل الأخلاق وأعدل القوانين، هي لا تعرف عنصرية العصر ولا طوائف المكان، تقع بكل إخلاص على أُذن الشريف والمسكين والغني والفقير والرجل والمرأة والشيخ والطفل، مبدؤها لا يعرف أرستقراطية في البذل، ولا دكتاتورية في القضاء، ولا ليبرالية في المعنى، أو عرقية في العطاء. لم تنبني نغماتها على العزل والفرز، جمالها في عدلها وعدلها في جمالها، ولا يأنسُ بالعدل إلا المستوحش من الظُلم. ولا يُنادمُ الجمالَ إلا مرعوبٌ من القباحة. يُغردُ عصفور فيأنس قلبٌ كليل، يُغردُ عصفوران فيغدو قلب الفقير مُمتلأً، يُغرد ثلاثة فيأتيك الربيع زاحفاً، إن كانت تغاريد خِصام أو تناجِ، فلا فضل للروح، فما أروع تعبير الطبيعة عن خصام بين اثنين بأعذب الألحان! لا يوازيه جمالا إلا أن يكون تناجٍ بين عاشقين.

لم يُظلمْ ذلك الطائر وألحانه إلا عندما شبهنا تسارُّ العاشقين به، ما أظلمَنا بني البشر! نتسار ونتناجى ثم نقول هي كألحان البلابل، مع علمنا أن خلفها سرائر النفس المقيتة، والمصالح المُفسدة، والقنابل الموقوتة، والدسائس المُميتة، نتألى على أنفسنا ونقهر عاداتنا ونلوي ألسنتنا لنُخفي حقيقة وراء حرف، ونيةً وراء مقصد، ثم تُعرب لنا الأيام عن سواد من تحت بياض وعن جمر من تحت رماد. فيغدو بنا التغريدُ ضجيجا، والنجوى فحيحا، والرضاب عيونا حارة تتفجر بكل معاني العذاب والوجع، وبكل تفسيرات التألُّمِ والأنين. أوليس هذا ظلما لعصفور لطيف لم نسمع منه إلا أرق الألحان وأعذب الجمال وأرقى المعاني؛ في صوته حزمة من الأسرار؟

بناء الطاغية .





عندما اعتلى "خرّاص بن مُتظاهر" عرش الحِجابة أتته الوفود إثر الوفود، وانهالت عليه الرسائل الإلكترونية كالسيل الجارف، للتهنئة له بالعرش والدعاء بطول المُقام، حتى اضطر رحمه الله كما ذكر المؤرخون أن اقتنى جهازا آخر يحملُ ذاكرة أوسع وأكبر ليتمكن من استقبال الكم الوافر والحجم الكبير من الرسائل والصور الصوتية المُثقلة بالزغاريد وأناشيد الفرح.
أتته القصائد العصماء زحفا، وركع أمامه البيان البليغ، وأُقيمت تحت رجليه المقامات المسجوعة، والتي كانت كما ذكرتها كُتب الأدب تقطرُ وفاءً وتسيل صدقا كما يسيل الندى على أوراق الورد أوقات الصباح، تتزاحم حروفها إجلالا وهيبة في مشهدٍ ينجلي عنده حاجز السماء الدنيا في فؤاد المُتصوف، وكأني بالرسائل المكتوبة وهي تنخلع عن أيدي سُعاة البريد عَجَلة وحُبا للقائه، فلم يكن بها من الصبر عنه بما يُحمِّلها بُطئ خطوات الساعي. وكأني أيضا بالخرافِ تُذبحُ على موائده احتفالا كأنه الغيث أتى بعد دهورِ العجاف.
كان من فطنته رحمه الله أن تواردت عليه الأفكار توارد الإبل على الوِرد بعد طول سفر، فجال بخاطره كيف لهؤلاء الرعية البُلهاء أن يُكشف لهم عن عدله قبل ظُلمه، ووفائه قبل غدره، وسماحته قبل زيغه. لمْ أعزلْ وأُنصِّب، ولم أُقررْ وأَكتب، وهاهم يُمجدون ويُعظمون، ويلهثون ويتذللون، وما هذا إلا من سوء الطبع وخُبثِ السريرة وطمع النفس، تتجلى عندها صورةُ خضوع العبدِ من سيده وتذلل القطة من مالكها.
كان في تزلفهم له إشهارا بكذبهم وإبانة عن تملقهم، فعلِم أنهم مداهنون للعرش سواء كان له أم لغيره. ظل هذا السيل الجارف يُعمل فيه عمل المُخدر في المتخدر، حتى أصابه مرض "البارانويا" فأشعل فؤاده بغريزة العظمة وحُب النفس، وصبَّ عليه القُدسية صباً، حتى ألهاه عن حقيقة وجوده وبنسيانٍ كامل لمشروعه الإصلاحي لم يفق منها إلا بعد سنتين وخمسة أشهر قُبيل أن يُعلن عن ربوبيته وأُلوهيته، فأُقيل وشُفي من مرض الحياة.
تحول العرش منه إلى غيره وتحولت معه ذات الرسائل من جموع الأغبياء تمحو اسم المُرسل إليه في الرسالة لتخُط الاسم الجديد ثم تضع إصبعها على زر (إرسال)، وكذلك استُبدلت الإبل بالخراف، والنحر بالذبح.

ومنذ ذلك الوقت إلى الآن مازالت هذه عادة من عادات العرب الأصيلة، والتي يستبين عنها عُمق فكرهم وبُعد نظرهم وكشفهم لأسرار الغيب قبل أوانه، وحقيقة الهطلِ قبل انهطاله.

وطنٌ بلا تشويش .



رأيته يتلوى والألمُ لصدره معتصرا، ولمهجته آخذا، قاطب الجبين، منقبض الفؤاد، محتقرا كل جميل، مستصغرا كل عظيم، مسدود النفس، ران على وجه الهمُ والغم. يشتكي امرأةً لجوج، وأبناءً كالراجوج، هي ما إن تنتهي إلا لتبدأ، وهُم ألسنٌ لا تهدأ، أحالوا نهاره سوادا، وصيفه شتاءً، بل ما إن تتنزل صاعقة إلا تخيَّلها واقعة على رأسه، ولا نقمةٌ إلا مصيبةٌ هامته. يدخلُ بيته ليهرب منه كفأر رأى ثعبان، نزحتْ عنه الشجاعة وهجرته البسالة، ابتلع حبوب اليأس فأصابه داء القنوط، وتجرع كأس العزلة فشرِق بشربة الهزيمة.
قال له صاحبه بعد أن تلمس موضع ألمه: ما أصابك إلا صنع يدك، وما أضعفك إلا قلة حيلتك، أجلسك الزمان على جبل باذخ، ففارقته في هبطة من الأرض، فسقط عليك الجبل. فلفعلك فاحتمل، إن كان داؤك في بيتك فدواؤك في بيتك، وداوِها بالتي كانت هي الداء، كُن مع زوجك وأبنائك كما كان أبوك معك ومع أمك، لا تكترث بمقولات الحداثة، ففي الأمر سعة، فالبرود المُطرَّزة لم تختصمْ وأحذية باريس المرتفعة، ولكن السر في المزج والخلط، فإن كان بيد حكيم ماهر، فهو الدر والجواهر.
كان الأبُ يوقظ الابن للصلاة أداءً لا قضاءً، يأخذ بيده في سراديب ومتاهات الحياة، يركبان راحلة القصص والروايات وحكايا الماضي ومغامرات الأجداد وفضائل السير وبطولات الأيام ليقطعوا شعاب الليالي ووَهَدات الأسحار. كان الأب "الأمي" يحكي قصص الأنبياء وحكايات الصحابة وروايات التابعين، يسرد -للأبناء وأمهم يتحلقون حوله يغشاهم الأمن وتحوط بهم الألفة- النوادر والحكم والطرائف، فتبرق ابتسامة، وتدوي ضحكة، ويغدو البيت حديقة غناء، وردة تعشق وردة وتحرسهم وردة، هو هكذا البيت وربُه، فالفلاحُ يُهمل أرضه فتصبح مسكنا للحشرات والأشواك، تختفي خضرتها فتبدو غبراء مقحلة وأرض جرداء، وآخر يُحافظ على ريها ويُبعد يابسها، يجعل لها أوقات السقاء وأوقات الزرع وأوقات النزع فتعشقه أرضه وتبادله ينعاً بمحبة، وثمرا برعاية، وعبقاً بحراسة، تغدو جنته وفردوسه، وطمأنينته ومستقره. كان الأب في محرابه يلجأ إلى العلي القدير أن يبارك له في ماله وذريته وأهله، فيجهد بأن يسلك طريقا محفوفا بالبركة، فتسمو به النية الصافية في معاريج العُلا فتتراكمُ سحابا يُزاحم بعضه بعضا ثم تتهطل قطرات مِلؤها الرحمة وبردٌ تُشكله ألفة، فتُزهر الأنفس وينبتُ منها نبات الإخاء والمودة.
حياتنا الاجتماعية لم تفرقها تقنية ولم تُشتتها شبكة، بل نحن تركنا مكابِحها فهوت، وفارقنا مِقودها فغوت، وإلا فالكف الذي كان يحمل الوردة مازال هو الكف، والمبسمُ الذي كان ينشقُ عن اللؤلؤ مازال هو المبسم.

لنُعيد النظر إلى قدراتنا وإلى سرائر أرواحنا فنحن نملك عصا التحكم، ولنتخلى عن عروشٍ وضعنا أنفسنا عليها من غير أن نستحقها.

طريق العلم الأوحد.






لم تسعفني الذاكرة لتذكر كم كان عمري عندما طرقت سمعي حكايةٌ مفادها أن علماء الولايات الأمريكية أرسلوا لعلماء اليابان إبرةً لا تُرى بالعين المجردة لإثبات قدرتهم وحد تفوقهم في العلم وتقدمهم في الاختراع، فما كان من علماء اليابان إلا أن قاموا بثقب تلك الإبرة وإعادة إرسالها للولايات الأمريكية التي وقف علماؤها موقف الحيرة والدهشة والاستغراب.
أحقا كانت تلك الحكاية أم خُرافة؟ فكلاهما في مقدمة الركب يقودان، وأفُكاهةً كانت تلك الحادثة أم هُزالة؟ فالبلدان في نعيم العلم يرفلان، يقودان الأمم من كهوف الظلام لفسيح الأنوار، ويرفلان في نعيم المجد فلا يزاحم أقداهما قدم. يقول زكي نجيب محمود: "لا نهضة عربية إلا بفتح المختبرات للطلاب والعمل بالتجربة والأخذ بقوة بجانب العلم التجريبي"، سئمنا التنظير وحفظ القوانين، ينهش العجزُ قلوبنا جراء أسئلةَ عرِّف، وضعْ علامتي الصح والخطأ. نحن قومٌ لم يخلقنا ربُنا ناقصي أذن ولا عين، ولا زواحف أو نمشي على أربع، نحن بشرٌ كما هم بشر، ولكن حظنا جعل طريقنا مسدود، وسبيلنا مردوم، في غرفٍ محصنة، خاف منا أحدهم فأقر: كمموا الأفواه، ابتروا الأصابع، فقئوا الأعين، نحن أعلمُ بالضرر والضرار. في أبنائنا حباً للاستكشاف سُحق، وشغفا بالغوص في الأعماق خُنق، وولهاً بالتجربةِ والمشاهدة مُحق. تنبجسُ منهم أنوارُ محبةٍ لفتح الأصداف لا يقل وميضا عن إشعاع الآخرين، الفارق أن أشعتنا كلما أبرقت اصطدمت بمرايا الخوف والمنع والاستبداد فإما أن يعود حاسرا منكسرا إلى مبعثه، أو يتسلل من خلال الشقوق لعله يجد سبيلا كما السبيل التي سلكها أحمد زويل.
في التاريخ عظات وعبر، وقف عِلم اليونان عند الوصف والمشاهدة فما أحدثوا ثورة، ثم أخضعها العرب للتجربة والتحقق فترجرجت أركان الأرض، ثم خمدوا فخمدت، ثم أكملها الغرب الحديث من داخل المختبر فتزلزت السماء قبل الأرض.
أعجب من وفودِ رجال تعليمنا عندما يقومون بزيارة لليابان مثلا فيما يسمونها زيارات لتبادل الخبرات! العجب يدور في فلك أن هناك من يعلم سر النجاح ولكنه لا يشتهي!

عودا إلى حكاية اليابان والولايات الأمريكية فقد سبقهما "أبو حيان التوحيدي" بألف سنة  عندما ذكر في امتاعه ومؤانسته بأن فيلسوفا نزل بمدينةِ فيلسوفٍ آخر فأرسل الفيلسوف المقيم إلى الزائر كأس ماءٍ ملأى يُشير إلى غزارة علمه واستغنائه عنه، فما كان من الفيلسوف الزائرِ إلا أن طرح في الكأس إبرةً يُشير إلى أنّ علمَه سينفذ في علمِه. هي ذات الأسطورة إذن، تتناقلها الركبان وتُحورها الثقافات، والنتيجة أن هناك أمةٌ تعمل وأخرى تستغني بالوصف والحكاية.

الوعي المزيف.







الكلامُ صَلِفٌ تيّاه، لا يستجيبُ لكل حال، فلا أقوى أن أُحضر دِّقه وجِلّه، ولكن سأحاول أن أجلوه لعلكم تلحظونه بردائِه وإزاره. تسحرنا الصورة، ويشد عنان عقولنا جمال التصوير، نرتعي من موائد الأفلام الوثائقية حد الشبع، نُثَبت عقولنا كأهدافٍ في مرمى سهام نشر العلم بالطرق الحديثة، فتصيبُ منا في مقتل ونحن نرجوه في مأمن، نستقبل بلا تمحيصٍ رسائلَ وراءها فكرٌ مؤدلج، وصورٌ تكاد تكون صحيحة.
من الأكيدِ أن مشاهدة الفيلم الوثائقي أمتع للنظر، وأيسر على الفهم، وأقدر على التذكر، وأرسخ في الذاكرة. ولكن يجب الحذر من المعلومة المغلوطة والثمرة المُثلَّجة والهدايا المُغلَّفة.
كنا نقول لا تُصدق كل ما تسمع، واليوم نقول لا تُصدق كل ما ترى، وراء كل صورة قناة، ووراء كل قناة شخص، ووراء كل شخص فكرة، والفكرة تحتمل الخطأ أكثر من الصحة، لأن الحقيقة ناصعةٌ واسعة، فيتم اختزالها في رُكن أوحد، ويُنظرُ لها من خلال زُجاج المُعتقد ودخيلة النفس، ثم تُشكلُ من صلصال مصلحة الشخص وطين طائلةُ المكسب.  فالاختزال هو انتقاء ما نريده أن يُسمع ووأد ما لا نريده تحت أرماس التراب. الكثير من المسلمات التي كنا متيقنين من صحتها، أثبتت خطأها مع إشعالِ أول وهجٍ من مصابيح التعلم، وورود أول منهلٍ من مناهل الكُتب.
شخص ما يملك مالاً كَرِمال نجد، تنبتُ فيها أشواك حمضية، فمن السهولة عليه بمكان أن يُزينَ شوكه ويبعث فكرتهُ ويُؤثر بها ويقود المجتمعات المُغيبة، بإخراج متطور وسرد مُختزل للحقيقة ولكنه مُقنع. شخصٌ ما يملك نصف علم، فيُفتي ويشرح ويُصنف ويخلط باطله بالحق فتُصدقه الحشود ويقع المحظور. في حادثة تفجير أبراج التجارة، تجد العشرات من الأفلام الوثائقية تناولت هذه الحقيقة، كلٌ منها حسب مصلحة صانعيها ومُنتجيها، فهذا يُؤل وذاك يُفند والمُشاهد يتوه وتضيع الحقيقة الناصعة.
صنيعُ العقل قبول الأمرِ أو رده، تطييبه أو تشنيعه، ويستطيع ذلك إن كان المعروض غير متلبسٍ ولا مُستتر ولا مزيف ولا مُزور، ولكن بضاعة اليوم مُزجاة، تخلطُ بين العُلَبِطَ  والسَّجاج، وبين العسلِ والماء. فإذا كان العقل لا يملك أدوات تؤازره وتُسانده، ومعاول تُناصره وتُعاضده، فحتما سيقع في الوعي المُزيف.

هنا ومع هذا السيل الهادر لابد وأن يكون للفرد قاعدة متينة من الثقافة وبُعد النظر، وسلاحا نافذا من النظرِ الناقد، والعقلية النافذة التي تتورع عن الهفوة، وتبتعد عن الكبوة، ووحدها القراءة هي من تمنحك قاعدة واسعة تستطيع بها المقارنة والمفاصلة ورد الشبهة وتقبل المعلومة. أوجبتُ على نفسي أن أصنع لها درعا متينةً لا ينفذ منها إلا أصح الصحيح، فقد طال الأمدُ على لُبدٍ، ومللتُ أن أبقى قطعة شطرنج.